أن تبني مسجداً في فرنسا: حقوق المسلمين ومخاوف الدولة

أن تبني مسجداً في فرنسا: حقوق المسلمين ومخاوف الدولة

أن تبني مسجداً في فرنسا: حقوق المسلمين ومخاوف الدولة


22/02/2024

ترجمة: محمد الدخاخني

ذات يوم جمعة ليس ببعيد، وبينما كانت درجة الحرارة تقترب من التّجمّد، دخل مئات الرّجال ما كان في السّابق مسلخاً، واحتشد الباقون منهم في الخارج؛ حيث وضع العشرات سجّادات الصّلاة على الإسفلت، فيما كان صوت الإمام يرتّل عبر مكبّرات الصّوت.

كان المسلخ القديم بمثابة مسجدٍ مؤقّتٍ على مدار الـ 21 عاماً الماضية بالنّسبة إلى العديد من مسلمي مدينة أنجيه، غرب فرنسا، وكانت عمليّة بناء بيت عبادةٍ دائمٍ لهم قد توقّفت منذ الخريف الماضي عندما رفض مجلس المدينة بالإجماع اقتراحاً من قادةٍ مسلمين بتسليم ملكيّة مسجدهم غير المكتمل إلى الحكومة المغربيّة مقابل استكماله، فبعد التّبرع بأكثر من 2.8 مليون دولار، لم يعد الأعضاء المحليّون يمتلكون المزيد للتبرّع به.

ما يعقّد الأمور بالنّسبة إلى المسلمين هو مبدأ العلمانيّة في فرنسا، المسمّى اللائكيّة، والذي أنشأ جداراً ناريّاً بين الدّولة والكنيسة

يعدّ بناء مسجد في فرنسا مسعى شاقّاً في أفضل الأحوال، فعادةً ما يكون الأعضاء أفقر من غيرهم من الفرنسيّين، ويُثير التّحوّل إلى المانحين الأجانب مجموعةً من المخاوف، داخل الجاليات المسلمة وخارجها، التي ستخضع لتدقيقٍ مكثّفٍ مع قانون الرّئيس إيمانويل ماكرون الجديد ضدّ الإسلامويّة، والذي من المتوقّع أن يحصل على الموافقة النهائيّة في مجلس الشّيوخ في الأسابيع المقبلة.

جدار ناري

ما يعقّد الأمور بالنّسبة إلى المسلمين هو مبدأ العلمانيّة في فرنسا، المسمّى اللائكيّة، والذي أنشأ جداراً ناريّاً بين الدّولة والكنيسة، وفي حين أنّ الحكومة ترى نفسها محايدة تماماً أمام كافّة الأديان، فقد جعل القانونُ الدّولةَ فعليّاً أكبر مالك للكنائس الرّومانيّة الكاثوليكيّة في فرنسا والوصيّ على الثّقافة الرّومانيّة الكاثوليكيّة.

بموجب قانون 1905، لا يمكن إنفاق أيّة أموالٍ عامّةٍ لبناء أيّة مرافق دينيّة، لكنّ القانون جعل كافّة الأبنية الدّينيّة الّتي شُيّدت قبل تمرير القانون ملكاً للدّولة، التي تقوم بصيانتها وتسمح باستخدامها مجاناً في الخدمات الدينيّة.

تَجِد الجاليات المسلمة أمامها الكثير من العقبات. واليوم، يلاحظ منتقدو النّظام أنّ أموال دافعي الضّرائب تدعم بشكلٍ فعّالٍ ديناً متقلّصاً، ألا وهو الكاثوليكيّة، في حين يضرّ التّرتيب القائم بالاعتقاد الأسرع نموّاً في فرنسا، ألا وهو الإسلام.

اقرأ أيضاً: الإسلام والعلمنة في فرنسا

وبينما كان عدد السّكان المسلمين في فرنسا ضئيلاً، عام 1905، فقد نما عددهم بسرعةٍ منذ سبعينيّات القرن الماضي، ويُعتقد أنّه يبلغ الآن حوالي ستّة ملايين، أو حوالي 10 في المئة من إجمالي السّكان، ووفق تقرير مجلس الشّيوخ لعام 2015، يمارس مليونان منهم تقريباً عقيدتهم في 2,500 مسجدٍ يتلقّون القليل من المال العامّ أو لا يحصلون على أيّ مالٍ عامٍّ على الإطلاق.

وعلى الضدّ من ذلك، وفق التّقرير نفسه، يوجد في فرنسا 3.2 مليون من الكاثوليكيّين الممارسين الّذين لديهم إمكانيّة الوصول إلى حوالي 45,000 مبنى كنسيّ، 40,000 منها مملوكة للحكومة وتتمّ صيانتها بأموال دافعي الضّرائب.

تمسّ التّفاوتات، أيضاً، كلّ شيء؛ الإعانات الحكوميّة والمدارس الخاصّة وائتمانات الدّخل الشخصيّ للتّبرعات، والتي تفضّل الكاثوليك ودافعي الضّرائب ذوي الدّخل المرتفع بشكلٍ كبير، لكن ربما يكون الوضع أكثر وضوحاً في الهياكل الماديّة.

"إسلامٍ فرنسيّ"

وحتّى في الوقت الذي تعهّد فيه ماكرون بتعزيز "إسلامٍ فرنسيّ"، يعاني أتباع هذا الاعتقاد من نقصٍ حادٍّ في المساجد المناسبة في كافّة أنحاء البلاد.

يقول الإمام سعيد آية لامة، في مقابلةٍ قبيل صلاة الجمعة: "إنّها مفارقة كاملة"، ولأنّها غير قادرة على تمويل بناء المساجد بنفسها، بشكلٍ عامٍّ دون مساعدةٍ من الدّولة، لجأت الجاليات المسلمة إلى حكومات في الخارج للحصول على المساعدة.

لكن هذا قد يصبح الآن أكثر صعوبة في ظلّ قانون ماكرون الجديد، والّذي يهدف إلى مكافحة الإسلامويّة من خلال تشديد قواعد العلمانيّة والضّوابط على المنظّمات الدّينيّة، بما في ذلك تشديد التّضييق على التبرّعات الأجنبيّة.

اقرأ أيضاً: أول تطبيق لقانون الانعزالية: فرنسا تتصدى لتمويل خارجي لأحد مساجدها

وقالت الحكومة، الأسبوع الماضي؛ إنّ القانون الجديد سيسمح لها بمعارضة التّمويل العامّ لمسجدٍ كبيرٍ في ستراسبورغ، في المنطقة الشرقيّة من الألزاس؛ حيث، ولأسباب تاريخيّة، ما يزال تشييد الأبنية الدّينيّة مؤهّلاً للحصول على إعانات حكوميّة.

وكان وزير الداخليّة، جيرالد دارمانين، قد ضغط على الحكومة المحلّية لإلغاء التّمويل، قائلاً إنّ الجمعيّة التي تقف وراء مسجد ستراسبورغ لها صِلات بالحكومة التّركية.

معارضة بيع الأبنية الدينيّة

وحتّى قبل صياغة القانون الجديد، استخدم مجلس مدينة أنجيه اللّوائح العقاريّة، العامّ الماضي، لمنع قادة المساجد من اللّجوء إلى المغرب، وسيسمح بند في قانون ماكرون للحكومة الوطنيّة، أيضاً، بمعارضة بيع الأبنية الدينيّة إلى حكومةٍ أجنبيّة إذا اعتبرت السّلطات الفرنسيّة أنّ البيع يمثّل تهديداً.

وقال ماكرون إنّ التّشريع ضروريّ لمحاربة هذا النّوع من الأيديولوجيا الرّاديكاليّة التي دفعت الشّباب الفرنسيّ للقتال في سوريا، وأدّت إلى مقتل أكثر من 250 فرنسيّاً في هجمات إرهابيّة إسلامويّة منذ عام 2015، وفي الخريف الماضي؛ كان أربعة أشخاص قد قتلوا في ثلاث هجمات إرهابيّة منفصلة.

لكنّ منتقدين يقولون إنّ القانون يخاطر بالخلط بين الإسلامويّين والمسلمين الذين يعترف حتّى قادة الكنيسة الكاثوليكيّة في فرنسا بأنّهم يتعرّضون للغبن منذ فترةٍ طويلة.

يقول رئيس الأساقفة، إيريك دي مولين بوفورت، وهو رئيس مؤتمر الأساقفة الفرنسيّين والمسؤول الكاثوليكيّ الأعلى في فرنسا؛ إنّ قانون 1905 قد أدّى إلى "تأثير الميراث"، وفي بعض الأحيان منح الامتياز غير المباشر للكاثوليكيّة الفرنسيّة حتّى عندما سعى إلى تأسيس دولةٍ محايدةٍ دينيّاً.

يقول الاقتصاديّون، بمن "مرصد التّراث الدّيني"، إنّه ليس ثمّة بيانات عامّة حول مقدار أموال دافعي الضّرائب التي يتمّ إنفاقها على الأبنية الدّينيّة

ويضيف، في مقابلةٍ، إنّ المسلمين الذين هاجروا من المستعمرات الفرنسيّة السّابقة لكن لم يتمّ دمجهم في المجتمع الفرنسي، عانوا "ظلماً كبيراً".

ويتابع: "لم نهتمّ على الإطلاق باحتياجاتهم الدّينيّة".

وبعد أكثر من قرنٍ من الزّمان، ووفق تقرير مجلس الشّيوخ لعام 2015، أخذت تأثيرات قانون 1905 شكل تمويل الحكومة لصيانة 90 في المئة من أبنية الكنيسة الكاثوليكيّة. وعلى الضّدّ من ذلك؛ تمتلك الحكومة وتدير 12 في المئة من الأبنية البروتستانتيّة، و3 في المئة من المعابد اليهوديّة، وصفر من المساجد.

يقول توماس بيكيتي، الخبير الاقتصاديّ المعروف بعمله في مجال عدم المساواة، في مقابلة: "هناك نفاق فرنسيّ كبير في هذه النقطة"، ويضيف: "نتظاهر بأنّ الجمهوريّة لا تدعم أيّ دين، لكنّ الحقيقة هي أنّنا نقوم بتمويل تجديد الأبنية الدّينية التي تمّ بناؤها قبل قانون 1905، والتي تصادف أن تكون كافّة الأبنية المسيحيّة تقريباً".

بيانات ما ينفق على الأبنية الدينية

ويقول الاقتصاديّون، بمن فيهم بيكيتي، و"مرصد التّراث الدّيني"، وهي جمعيّة خاصّة، إنّه ليس ثمّة بيانات عامّة حول مقدار أموال دافعي الضّرائب التي يتمّ إنفاقها على الأبنية الدّينيّة، بما أنّ البلديات المحلّية مسؤولة عن صيانتها، ولم تردّ وزارة الدّاخليّة على طلبات متعدّدة للتّعليق.

وبينما يُلزم القانون البلديّات المحلّية بخدمة أبنية ما قبل عام 1905، فإنّ البلديّات تستطيع استخدام سلطتها التّقديريّة لدعم مرافق أخرى.

في أنجيه، تخصّص المدينة حوالي 770 ألف دولار سنويّاً لصيانة الأبنية الدينيّة التي تمتلكها، والتي تشمل 10 كنائس كاثوليكية، وكنيساً يهوديّاً، وكنيسة بروتستانتيّة، إضافة إلى مرفقين يستخدمهما المسلمون، بما في ذلك المسلخ الذي سبقت الإشارة إليه، وتلقّت المنظّمتان المسلمتان الّلتان تستخدمان المرفقين ما مجموعه حوالي 3,500 دولار من المدينة، العام الماضي، وفق القائمين عليهما، الذين قالوا إنّ حوالي 1,500 شخص يحضرون صلاة الجمعة بانتظام.

هذا، ورفض رئيس البلديّة، كريستوف بيتشو، طلبات بإجراء مقابلات، ولم يستجب المسؤولون الكاثوليك في أنجيه لطلبات متعدّدة للحصول على معلوماتٍ حول حضور قدّاس الأحد.

اقرأ أيضاً: فرنسا تحظر "الذبح الحلال"... وهذه ردّة فعل المساجد

ويضيف بيكيتي؛ أنّ ائتمانات الدّخل الشخصيّ على التّبرعات وتمويل المدارس شبه الخاصّة، ومعظمها كاثوليكيّ، وجّهت المزيد من الأموال العامّة إلى المنظّمات الكاثوليكيّة.

بموجب القانون الجديد، وتعويضاً عن الضّوابط الماليّة الأكثر صرامة، قالت الحكومة إنّه سيتمّ السّماح للجمعيّات الدّينيّة بتوليد الدّخل من خلال تأجير الأبنية التي حصلت عليها كهدايا.

ويقول بيكيتي إنّ الجاليات المسلمة هي الأقلّ احتمالاً للاستفادة من هذا التّغيير لأنّ لديها القليل جدّاً من العقارات.

جمع التبرعات الخاصة

ويضيف: "النّظام غير المتكافئ الموجود بالفعل، والذي سيتمّ تعزيزه بطريقةٍ معيّنةٍ من خلال تَرِكَة الأبنية، يفضّل الأديان التي يكون أعضاؤها أكثر رفاهية"،

ويمكن للجاليات المسلمة فقط جمع التّبرعات الخاصّة، أو اللّجوء إلى الحكومات الأجنبيّة للمساعدة في بناء المساجد، حيث يمثّل كلا الخيارين عَقَبة.

وهذا يفسّر سبب التّخلي عن العديد من مشاريع بناء المساجد في فرنسا، أو تأخيرها، في الأعوام الأخيرة، بسبب نقص التّمويل أو الاشتباه في وجود أموال أجنبيّة، ناهيك عن مقاومة السّكان المحلّيين من غير المسلمين.

كان أعضاء "جمعيّة مسلمي أنجيه" قد قرّروا بناء مسجد قبل 40 عاماً، ويقول محمد بريوة، رئيس المجموعة، إنّهم في الأعوام الأولى كانوا يتجمّعون ويصلّون في الأقبية وكراجات السيارات قبل أن تتيح المدينة الوصول إلى المسلخ الذي سبقت الإشارة إليه.

اقرأ أيضاً: فرنسا تحظر حركة يمينية متطرفة.. فهل يحسن القرار قانون الانعزالية؟

تمّ تمهيد الأرضية، عام 2014، لإنشاء مركز من المتوقّع أن يكون كبيراً بما يكفي لاستيعاب 2,500 من المصلّين، بتمويل من الأعضاء وبمساهمة إجماليّة قدرها 2.8 مليون دولار. ولأنّهم شعروا بأنّ المسجد لا يمكن استكماله بالتّبرعات المحلّية؛ وافق القائمون على المشروع، الخريف الماضي، على منح المبنى للحكومة المغربيّة، وهي حليفة لفرنسا، مقابل استكماله، رغم أنّ بعض الأعضاء عارضوا ذلك؛ لأنّ المانحين قد ساهموا ماليّاً على أساس أنّه منشأة تنتمي إلى الجالية.

ووفق تقرير صادر عن مجلس الشّيوخ الفرنسي، عام 2016، موّل المغرب والجزائر، المستعمرتان الفرنسيّتان السّابقتان، وكذلك المملكة العربية السعوديّة، بناء نحو 12 مسجداً في فرنسا.

المسؤولون في فرنسا قلقون. لماذا؟

وكما هو الحال في البلدان الأوروبيّة الأخرى، التي عانت من هجماتٍ إرهابية، أصبح المسؤولون في فرنسا قلقين بشكلٍ متزايدٍ من التّأثيرات الخارجيّة التي تدفع المواطنين إلى الرّاديكالية، خاصّةً من خلال الأئمة المدرّبين في الخارج.

تقول ناتالي غوليه، عضوة مجلس الشّيوخ عن اتّحاد الدّيمقراطيين والمستقلّين، الذي ينتمي إلى يمين الوسط، والتي شاركت في كتابة تقرير مجلس الشّيوخ لعام 2016، إنّه بينما يتعيّن على فرنسا ممارسة رقابة أكثر صرامة على الأئمة المدرّبين في الخارج، فإنّه ليس ثمّة دليل على أنّ المساجد التي بنيت بمساعدة المغرب أو الجزائر أو المملكة العربيّة السّعوديّة قادت إلى الإرهاب.

وتضيف: "لا علاقة سببيّة بين التّمويل الأجنبيّ للمساجد وتمويل الإرهاب"، ومع ذلك؛ فإنّ قرار قادة المسجد باللجوء إلى المغرب جاء في أسوأ وقتٍ ممكن، قبل الهجمات الإرهابيّة الثّلاث في الخريف الماضي.

وهكذا، رفض مجلس المدينة البيع بالإجماع، مستشهداً بلوائح العقارات، لكنّ العمدة أوضح أنّ القرار كان يهدف، أيضاً، إلى "الحفاظ على الحياد الّذي نحتاج إليه على أراضينا من أجل الممارسة الهادئة لإسلامٍ فرنسيّ".

وتقرّ سيلفيا كامارا تومبيني، وهي عضوة اشتراكيّة في المجلس، بأنّ الجمعيّات الإسلاميّة في أنجيه وأماكن أخرى تجد نفسها في مأزق: بينما لم تتمكّن هذه الجمعيّات من جمع الأموال بمفردها، جعلت فرنسا من الصّعب عليها البحث عن الأموال في الخارج.

وتضيف: "بموجب القانون، لا توجد طريقة أخرى حقّاً".

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

نوريميتسو أونيشي - كونستان ميو، "نيويورك تايمز"، 31 آذار (مارس) 2021



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية