اتفاق جوبا للسلام فصل جديد في الثورة السودانية

اتفاق جوبا للسلام فصل جديد في الثورة السودانية


04/10/2020

محمد جميل أحمد

مهما بدت من دهشة المراقب البعيد، فإن ما حصل أمس السبت في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 بمدينة جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، كان حدثاً فريداً؛ ذلك أن ما لا يمكن تصديقه، بطبيعة القياس العام، وهو أن الدولة الوليدة التي تنفصل عن دولة أم عادةً ما تكون العلاقات بينهما علاقات عداء مستحكم، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في العلاقة بين الصين وتايوان مثلاً، لكن ما حدث في عاصمة جنوب السودان جوبا، التي نجحت في إنهاء فصل خطير من فصول الحرب الأهلية في جارتها الشمالية الأم (جمهورية السودان) بتوقيع الاتفاق النهائي بين الجبهة الثورية (تضم تسعة فصائل سياسية مسلحة) وبين حكومة الثورة الانتقالية، كان بمثابة المعجزة التي قد لا تجعل المراقب البعيد متعجباً فحسب، بل تجعلنا كذلك كسودانيين نُعيد التفكير في ما إذا كان انفصال الجنوب نتيجة لأسباب جوهرية تدعو للانفصال، أم أعراض كان يمكن أن تكون معها الأمور مختلفة فيما لو قامت الثورة السودانية عام 2010، بدلاً من عام 2019، أي قبل تاريخ الانفصال. فما يحس به الجنوبيون والشماليون هو أنهم شعب واحد في دولتين. 

هذا ما أكدته لنا المعجزة التي تحققت بتوقيع اتفاق السلام التاريخي، حيث استغرقت المفاوضات بين الطرفين عاماً كاملاً، فيما استغرقت المفاوضات بين نظام عمر البشير السابق والحركات السودانية المسلحة ربع قرن من دون التوصل إلى شيء!

في تقديرنا، إن قوة الرموز التي صاحبت مراسم الاتفاق التاريخي ومكانه (ساحة الحرية أمام تمثال ومرقد الزعيم السوداني الراحل جون قرنق) كانت تحمل أكثر الدلالات إيحاءً بقوة الفكرة التي لطالما بشَّر بها الزعيم الراحل. فالسودان الجديد الذي سيتشكل منذ يوم أمس (تاريخ توقيع الاتفاق)، هو ذلك الذي بشر به قرنق، لكن تشكله الآن وهنا، سيكون فحسب دلالة على قوة الفكرة التي لا تموت. ولهذا بعد فصول الحرب الدامية، والأوهام الخطيرة لأفكار الإسلام السياسي، ها هو السودان يعود إلى الأفكار الأساسية التي تعكس هويته من حيث الشراكة في إعادة توزيع الثروة واقتسام السلطة واعتماد إدارة التنوع في الهوية السودانية. فالسودانوية التي نادى بها قرنق لم تكن ضد الدين كما يتوهم كثيرون، بل كانت طريقاً للخلاص الذي لا بد من سلوكه إذا ما أراد السودانيون العيش برسم هوية المواطنة، فقط، بعيداً عن الانحيازات الدينية والقبائلية والطائفية المضللة والتي من شأنها أن تُعيد إنتاج الأزمات فحسب. 

لقد أصبح السلام ممكناً بعد عام من التفاوض في مكان يعرفه السودانيون جميعاً (جوبا)، وبذلك ضمنت دولة جنوب السودان للسودانيين مكاناً آمناً بعيداً عن الإكراهات والضغوط التي تصاحب الحلول التي تكون في العواصم البعيدة والغريبة. لهذا يمكن القول إن اتفاقية جوبا للسلام تعتبر تجربة سودانية فريدة، كتب لها النجاح لأن الدولة التي رعت الاتفاقية تعرف تماماً ماذا تعني الحرب. 

صحيح أن الاتفاق غير مكتمل لوجود حركتين كبيرتين خارجه، الحركة الشعبية شمال جناح عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، لكنَّ هناك وعوداً باستئناف ملاحق مكملة لهذا السلام، لا سيما من طرف الحركة الشعبية شمال التي ربما تستأنف المفاوضات من منبر جوبا بعد أسبوع، وكذلك الوعود التي كان قد قطعها عبد الواحد محمد نور في استعداده للتفاوض مع الحكومة السودانية من داخل الخرطوم. وهذه وعود مطمئنة. 

منذ يوم أمس، دخل السودان فصلاً سياسياً جديداً، حيث ستستأنف الثورة السودانية مرحلة جديدةً يتم بموجبها إعادة تشكيل الحكومة، وإحداث تغيير في مجلس السيادة، والتسريع بتكوين المجلس التشريعي (البرلمان) إلى جانب إعادة تعيين الولاة، مما سيكون سبباً لانفراج بعض الأزمات المتصلة بتعيين الولاة في بعض المناطق. 

إن تحدي السلام عادة أكبر من تحدي الحرب، وهذا ما سيطرح تحديات في أداء الجبهة الثورية التي هي أيضاً ستدخل في فصل السلام مرحلة جديدة من تجارب الأداء تتصل بأداء كل فصيل فيها، على حدة، في تنفيذ المهام الإدارية للسلطة. 

إن مهمة الجبهة الثورية في السلطة الجديدة ستنعكس إيجابياً في صالح القوى المدنية، كما ستعزز من قوة تحالف قوى الحرية والتغيير، بعد الأداء المضطرب الذي بدت عليه حكومة قوى الحرية والتغيير على مدى عام كامل، ما سيعني أن الاشتغال سيكون على تبني رؤية جديدة وبرنامج قوي، سواء في هياكل السلطة التنفيذية، أو في طبيعة الاختيار للمجلس التشريعي، أو في هياكل قوى الحرية والتغيير، بعد المؤتمر المرتقب للأخيرة خلال هذا الشهر. 

على الجبهة الثورية أن تهتم كثيراً بالمناطق المهمشة، والتي قد تتعرض بعض فصائلها لتحديات اعتراض أو ضغوط، من طرف بعض المكونات المحلية، سياسيةً كانت أم قبلية. ومن المهم في هذه الحال اعتماد صوت العقل وتغليب الحكمة في التعاطي مع المعارضين وتقديم تسويات من الأهمية بمكان الشروع فيها في ظل أجواء التسامح والسلام التي زادت من زخمها مراسم التوقيع النهائي على اتفاق جوبا للسلام، بما شهدته هذه المناسبة من حشد كبير لرؤساء دول الجوار ودعم لا محدود من المجتمع الإقليمي والدولي ومنظماته المختلفة. 

عن "اندبندنت عربية"

الصفحة الرئيسية