اختلاف المسلمين إما فتنة مبددة وإما رحمة جامعة

اختلاف المسلمين إما فتنة مبددة وإما رحمة جامعة


18/06/2019

الأمير الحسن بن طلال

الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان، وأصلها، بحسب الأزهري في تهذيب اللغة (370 هجري) مأخوذ من قولك “فتنت الذهب والفضة” أي أذبتهما بالنار ليتميّز الرديء من الجيد. فالمعنى الأوّلي للفتنة هو اختبارٌ يضع الإنسانَ أمام مفترق طرق يشتمل على خيارات متعددة، بعضها مُهلك وقاتل وبعضها الآخر مُنج ومحي. ما يعني أن الإنسان في حالة فتنة دائمة، أي أمام وضعيات ذاتية وشروط حياتية تستدرجه إلى سلوك مدمّر وأفعال منحطّة، فإما أن يسقط فيها مثلما ذكر القرآن الكريم “ألا في الفتنة سقطوا”، وإما أن يقاوم إغراءها فتُخرجُ الفتنةُ أفضل ما عند الإنسان من طاقات وخصال حميدة.

بهذا تكون الفتنة منطقة الاختبار الفعلي للحرية الإنسانية، تضع الإنسان أمام الاختيار بين حرية متسامية ترتقي بالإنسان إلى مستوى المسؤولية المقتدرة والعزيمة المقتحمة والبصيرة النافذة، أو الاختيار بين عبودية طوعية ترمي بالإنسان في متاهات الجهل وخبث الأنانية ووهن الخوف.

لهذا، ليست الفتنة موضع ذم بذاتها، بل بمخرجاتها وعواقبها ومآلاتها. ونستذكر هنا مخرجات الحروب على الساحة العربية المشرقية والأفريقية وعواقبها ومآلاتها. وقد ذكر القرآن الكريم أن الإيمان ملكة إنسانية لا تترسّخ إلا بالفتنة، أي بالاختبار والامتحان، قال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” (العنكبوت:2). فالإيمان ليس إعلانا شكليا أو موقفا خارجيا، أي هو ليس صفة يضيفها الإنسان إلى ذاته،  بل هو هيئة نفسية راسخة وقوة باطنية لا تحصل إلا بالاختبار الأليم والامتحان، تجعل الإنسان كائنا آخر ترتقي به إلى أفق وجودي مختلف. الإيمان ليس موقفا فحسب، بل نمط وجود وطريقة حياة جديدة.

امتحان جماعي

وفي العودة إلى العصر الحديث فإن ما نمر به هو امتحان جماعي لما سُميَّ إبان الحرب الكونية الثانية ولأول مرة في محاكمة مجرمي الحرب: “بالجرائم ضد الإنسانية”؛ والمقصود بها ضد الإنسان الفرد كما يشير إليها البروفيسور لوترباخت. أما البروفيسور ليمبكين فتحدث عن الإبادة الجماعية مشيرا إلى أنها لا تثبت إلا إذا ثبُت الغرض.  ونحن على ما يبدو نواجه شكلين متكاملين: الإبادة الإنسانية للفرد والإبادة الجماعية لمجموعة معينة من البشر. ولنتذكر أنه وفقا لدراسة شملت بعض الدول العربية، فإن العرب يشكلون 5 بالمئة من سكان العالم، إلا أنهم بالمقابل يمثلون 68 بالمئة من ضحايا الحروب، و58 بالمئة من لاجئي العالم.

وقد ذكر القرآن الكريم الفتنة، من باب التوسع بمعانيها، بعواقبها المدمرة ومآلاتها الكارثية، من قبيل تسمية الكفر بالفتنة في قوله تعالى: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة” (البقرة:193)، ومن قبيل تسميته النفاق بالفتنة، في خطاب الله تعالى للمنافقين “ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم” (الحديد:14)، ومن قبيل اعتبار الدمار والخراب في الأرض فتنة، في قوله تعالى: “تكن فتنة في الأرض وفساد كبير” (الأنفال :73). كذلك أطلق القرآن تسمية الفتنة على تضليل الناس وخلط الحق بالباطل، وقد وصف القرآن قتل موسى للرجل المصري بأنه كان فتنة (طه 40) رغم أنه كان عن غير قصد. والنفاق والرياء في كل صورة عدو للحق. فإن كنا على حق فكيف نقبل ما يجري على الساحة الفلسطينية وغزة.

إلا أن الفتنة هنا تحديات وشروط لا يملك الإنسان إلا أن يواجهها ولا يستسلم أمامها، لأن رهان الإنسان الثابت هو الاستمرار بحياة كريمة، والحفاظ على وجود أصيل لا مزيف أو تافه، يخرج كل ما في الإنسان من طاقة إبداع ونبل إنساني.

وقد ذكر القرآن الكريم درجة خطيرة من الفتنة، التي تتولد من سلوك إنساني أو أطر علاقات تريد للوضع الإنساني أن ينحدر إلى مستويات مدمرة، حيث تسود فيها الصراعات وقيم الأنانية والخوف والظلم. وهي فتنة يصفها القرآن الكريم بأنها أشد من القتل: “والفتنة أشد من القتل” (البقرة :191). ما يعني أن القرآن لا يقصر الفتنة والخلاص منها على مستوى الفرد، بل يرسم الصورة الأوسع والأعم للوجود الإنساني، ويحذر من الفتنة التي هي بمثابة الشرط البشري المهلك والوضع الإنساني الهدام والعلاقات الإنسانية المأزومة، التي تُحوِّلُ حياة البشر إلى جحيم، وتحول دون إعمار الحياة واستقرار العلاقات الإنسانية وتطرد السلام بين البشر. وحين اجتمعت القمة الإسلامية عام 1969 للوقوف أمام الاعتداء على مقدسات المسلمين في الأقصى، لم يكن الحديث آنذاك عن عرب أو عجم بل اجتمعوا جميعا للذود عن المقدسات الإسلامية. وحين نرى الصواريخ المدمرة تنال مدنا كأبها ونجران نتساءل ماذا لو طالت هذه الصواريخ مكة المكرمة أم المدينة المشرفة -لا قدّر الله؛ وللبيت رب يحميه.

وكما أن الإسلام يحذر الفرد من الفتن التي تغويه بالسقوط، يحذر بدرجة أشد وأقوى من الفتن التي تتخذ تكوينا جماعيا وشكلا صراعيا وصداميا، تحرق الحرث وتبيد النسل وتعدم الحياة وتهلك المخلوقات كلها وهو ما نراه اليوم من الآفات الإثنية والطائفية والمذهبية في المشرق العربي والإسلامي تكشف هول ما يجري لواقعنا العربي؛ وعلينا ألا ننسى أن  الوجود العربي هو سدنة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة والقدس. ولهذا نبّه القرآن المؤمنين أنفسهم من الوقوع في هذا النوع من الفتنة ومن خطورتها: ” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً”، أي، بحسب الطبري، واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم. وفي ذلك تنبيه لا على عدم الوقوع في الفتنة فحسب، بل في اتقاء الوصول إليها، أي سد سبلها وطرقها ومنافذها إلى الحياة العامة، والعمل على إيجاد شروط إيجابية مغايرة لها تمنع الدمار المضمون للجميع وتضمن الخلاص المطمئن للجميع وإعادة البناء نفسيا ومجتمعيا وماديا.

هذه الرؤية الوقائية التي طرحها علينا القرآن الكريم، لم تجد صداها المناسب في التاريخ الإسلامي للأسف، ولا تجد صداها في واقعنا الإسلامي المعاصر، بخاصة الخطاب الديني المسيّس والوطنية الدينية المسيّسة بطريقة عشوائية وفوضوية فوق المنابر وعبر وسائل الإعلام، بحجة الغيرة على الدين حينا، وحجة بيان الطريق القويم وذم طرق الضلال حينا آخر. للأسف نحن لا نلتزم بالنصوص المحكمة والمنزلة ولا حتى بالأمثال الشعبية “درهم وقاية خير من قنطار علاج”.

فراغ فكري

لم يتفرع عن الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي فريق عمل يسمو فوق الخلافات بمشاركة كافة الجنسيات المعنية في أي صراع إقليمي أو دون إقليمي ما ترك الفراغ للمصالح الأجنبية للعبث بإنابتنا للقتال ضد المؤمنين من ذوينا وفلذات أكبادنا. إن معدل العودة للقتال هو عشرة أعوام وقد عشنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حربا كل حوالي عشرة أعوام منذ عام 1948.

وهنا أؤكد على أهمية أن يبقى التاريخ فينا حيّا، لا بإعادة إنتاج أحداثه، بل بالتعامل معه بصفته خرائط طريق وأنظمة سلوك ملزمة وجامعة لقضايانا ومجالا للتفكر، ليكون بالإمكان ترشيد واقعنا وتعميق وعينا بهويتنا. فلا نكون بمستوى الحذر الساذج الذي يمنعنا من تدبرها، بالقول مثلا بأنها “فتن عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا”، ونستحضر الأحداث لخدمة أغراض سلطة ونفوذ، بحجة الدفاع عن الحق وإزهاق الباطل أو مسوغ إظهار الفرقة الناجية، ما يتسبب بتأجيج صراعات مذهبية ودينية نعرف كيف نبدؤها ولا نعرف كيف ننهيها، إنما المطلوب هو الفكر وإعلاء قيمة الفكر.

لا يخلو تاريخ بشري من حروب وصراعات وقد حصلت في التاريخ الإسلامي فتن كبيرة، كان أشهرها ما سمّي بـ”الفتنة الكبرى” التي ظهرت في عهد عثمان رضي الله عنه وأدت إلى مقتله، والنزاع الذي دار بين “الإمام علي بن أبي طالب” و”معاوية بن أبي سفيان” وانتهى بالتحكيم الذي اعترض عليه جزء من معسكر علي وأدى إلى فتنة من سموا بالخوارج.

ذاكرة الفتنة هي للعبرة والاتعاظ، لتجنب تكرارها والتحرر من سلطتها وأسرها، وباعث لنا لخلق شروط اجتماعية ومتحدية جديدتين تسد منافذ الصراع وتمنع وصول التناقضات إلى مستوى خارج عن السيطرة، تكون فيه السيادة لخطاب الغوغاء والطفيليات التي تقتات على الحقد والكره وتنتعش بالقتل وسفك والدماء.

ورغم حرص أكثر المسلمين على وحدة الموقف وحل الخلافات الداخلية ومعالجة التناقضات القائمة بين أتباع المذاهب الإسلامية المتعددة، إلا أن هذا الحرص لا يواكبه واقع فعلي. فالتناقضات يتم تضخميها، والاتهام والاتهام المتبادل يتفاقم، والمواقف السلبية بين المذاهب المتعددة هي السائدة، وسوء استعمال المذاهب لأغراض سياسية وأيديولوجية ناشط ومؤثر إلى حد بعيد، بل إن خطاب الكراهية وسوء الظن وحتى التكفير بين أتباع المذاهب المتعددة هو المهمين والسائد؛ فكأنما نتباهى في الاستعراض الإعلامي أمام العامة أكثر من الاهتمام بديمومة التحليل أمام صناع القرار كي يكونوا على بيّنة من أمرهم.

كل ذلك يدفعنا إلى التفكير في أطر سليمة وإيجابية للتواصل بين المسلمين، سواء أكان بين أتباع المذاهب المتعددة، أم بين أتباع المذهب الواحد. وهي أطر لا تتحقق من تلقاء نفسها، ولا تقوم على مجرد النوايا الحسنة وحسن الظن المتبادل، بل لا بد من مأسسة الفكر المنطقي لسياساتنا بتفويض الإنسان للمواطنة العربية والإسلامية المتنوعة على أساس الالتزام المتبادل بين القاعدة المجتمعية الواسعة وأصحاب القرار ومؤسسات الدولة.

الأصل هو الاختلاف، وقد عبّر عن ذلك نبي الإسلام بقوله: “اختلاف أمتي رحمة”، الاختلاف في المنهجية التي تُعلّي من الصالح العام، والاختلاف في الرأي الذي لا يذهب للموضوعية قضية وليس الاختلاف للخروج عن هوياتنا الجامعة، أو الاختلاف الذي حوّلناه إلى نقمة، لأننا تعاملنا معه من جانبه السلبي، وتجاهلنا جانبه الإيجابي الذي يعني في ما يعنيه إبقاء الخصوبة الفكرية، وتعزيز الحرية التي تتجلى في التعبير الحر والتفكير المبدع.

من هنا تتبيّن أهمية ضبط وتنظيم العلاقة بين المسلمين، على تنوع اتجاهاتهم وميولهم، وبناء قواعد تواصل ومحاورة ونقاش بينهم يقوم على أسس منتجة وعلى قاعدة الفهم المتبادل والتفاهم الإيجابي. إذ ليس المطلوب تغيير قناعة أي جهة، لكن المطلوب تغيير المسلك في التعامل المتبادل ووضع أخلاقيات تواصل وحوار وضوابط تفكير وأصول في إنتاج وتبليغ الخطاب الديني، تسهم جميعها في خلق وضعية تفاعل إيجابي ونظرة احترام متبادل بين مكونات الأمة الإسلامية.

التحدي الذي يواجهنا اليوم كمسلمين، ليس في اتقاء الفتنة فحسب، بل في خلق شروط إيجابية وبنّاءة في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، وفي لغة وثقافة تواصلهم وتعاملهم مع اختلافهم.  إذ لا نريد إلغاء الخلافات بين المسلمين، فهذا خلاف الطبع البشري، إنما نحن بحاجة إلى وضع أطر أخلاقية ذات عمق إيماني للتواصل بين المسلمين، وذهنية راشدة في إنتاج الخطاب الديني، تجهد في إظهار الجامع الإيماني والأخلاقي بين المسلمين، وتحترم حق كل مذهب وفرقة في الوجود والتعبير.

مثلما قام الإسلام على قول الحق، فقد قام أيضا على الحكمة والموعظة الحسنة. ما يعني أن كل حق يوضع في الموضع الخطأ أو يستعمل لأغراض منحرفة، أو يؤدي إلى هلاك للنسل، أو مولد للعداوات، فإن هذا الحق يتحول إلى باطل وضلال. الاختبار الحقيقي ليس في قول الحق كيفما كان بل في معرفة مواضع الحق وموارد تحققه وسبل نشره وتعميمه. فالطريق إلى الخير جزء من الخير نفسه، بل قد تكون الطريق هي الخير كله. ونحن نترقّب الأهلة علينا أن نتساءل جميعا أين نور الهداية من هذا الظلام الدامس؟

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية