"الأسقف الثائر" يرحل بعدما قاوم الظلم وأبصر جنوب أفريقيا حرة

"الأسقف الثائر" يرحل بعدما قاوم الظلم وأبصر جنوب أفريقيا حرة


27/12/2021

وضع لاعبو الكريكيت من جنوب أفريقيا شارة سوداء على أذرعهم حداداً على رحيله، في اليوم الأول من مباراة مهمّة ضدّ الهند بالقرب من جوهانسبورغ. رحل الأسقف المتمرد، رحل الثائر الذي كافح الظلم والكراهية والتمييز العنصري، وأخيراً كافح المرض حتى صرعه الأخير وقبض على أنفاسه أمس الأحد.

وبرحيل كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق ديسموند توتو، يفقد العالم واحداً من أشد المقاومين،  وأحد أبرز رموز الكفاح ضدّ نظام الفصل العنصري في بلاده، وحائز جائزة نوبل السلام عام 1984.

اقرأ أيضاً: ذو القروح والملك الضليل.. ما لا تعرفه عن "امرؤ القيس" أشهر شعراء الجاهلية

المواقف التي سجلها الأسقف الراحل لا تعد ولا تحصى، فقد عادى القهر بلا هوادة. وبعدما أصبح زعيماً للكنيسة الأنغليكانية في جنوب أفريقيا، استمرّ في تصديه الفعال لنظام الفصل العنصري. ففي آذار (مارس) 1988، قال "نرفض أن نُعامل كممسحة أرجل تمسح الحكومة أحذيتها عليها".

قاتل توتو بضراوة من أجل مبادئه، ولم يخش من البوح بآرائه أبداً، ففي نيسان  (أبريل) 1989، أثناء زيارة لمدينة برمينغهام في إنجلترا، كما تذكر "بي بي سي"، انتقد ما وصفه بـ"بريطانيا ذات الأمتين"، وقال إنّ السجون البريطانية تعجّ بالنزلاء السود.

حاز على جائزة نوبل للسلام عام 1984

ورغم ذلك، قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إنه يشعر "بحزن عميق" لوفاة توتو، مشيداً بـ "قيادته الفكرية" و"روح الدعابة التي لا تُقهر" لديه. وكتب في تغريدة على "تويتر": "شعرت بحزن عميق عندما علمت" بوفاة توتو.

وأضاف "كان شخصية أساسية في النضال ضد الفصل العنصري، وفي النضال من أجل إنشاء جنوب أفريقيا جديدة. سنتذكره لقيادته الروحية وروح الدعابة التي لا تُقهر" لديه.

كيف للإسرائيليين أن يفعلوا ذلك؟

كما أغضب الأسقف الراحل الإسرائيليين عندما شبّه، أثناء زيارة، الأفارقةَ السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقال توتو إنه لا يستطيع أن يستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرّين كاليهود أن يفرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني.

مؤسسة مانديلا: رحيل توتو خسارة لا تُعوض، كان رجلاً استثنائياً وحياته كانت بالنسبة إلى كثيرين في جنوب أفريقيا والعالم بركة. كان شخصاً مذهلاً، مفكّراً، قائداً، راعياً صالحاً

وظل توتو معتصماً بآرائه، حتى شهق أنفاسه الأخيرة عن عمر ناهز التسعين عاماً، ملأها بالاحتجاجات التي جعلت حياته في مرمى التهديد المباشر والمتواصل. وقال كبير الأساقفة الأنغليكان تابو ماخوبا: "لم يكن يخشى أحداً... وكان يندّد بالأنظمة التي تحطّ من شأن الإنسانية، لكن عندما كان مرتكبو السوء يتغيّرون فعلاً من الداخل، كان يقتدي بالربّ ويعرب عن استعداده لمسامحتهم".

ولم تسلم من انتقادات توتو كنيسته الأنغليكانية، وخصوصاً عقب اللغط الذي أثير بشأن ترسيم كهنة مثليين.

قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إنه يشعر "بحزن عميق" لوفاة توتو، مشيداً بـ "قيادته الفكرية" و"روح الدعابة التي لا تُقهر" لديه

وقال، في معرض اتهامه للكنيسة بالسماح "لهوسها" بالمثلية الجنسية أن يتغلب على حربها ضد الفقر في العالم، إنّ "الرب يبكي".
رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوزا اعتبر أنّ وفاة ديسموند توتو "فصل جديد من فصول حداد أمّتنا على جيل مذهل من أبناء البلد الذين تركوا لنا جنوب أفريقيا محرّرة".
وتابع أنّ توتو كان "رجلاً يتميّز بذكاء لافت ونزاهة، ولم تقوَ عليه قوّات الفصل العنصري (الأبارتايد). وكان على قدر كبير من الرقّة في تعاطفه مع الذين كابدوا القمع والظلم والعنف في نظام الفصل العنصري ومع المظلومين والظالمين على حد سواء في العالم أجمع".

اقرأ أيضاً: الشيخ رائد صلاح: مطارَد مع سبق الإصرار
وتراجع الوضع الصحي لديسموند توتو في الأشهر الأخيرة. ولم تعد له إطلالات علنية، لكنه كان يوجّه دوما تحيّة إلى الصحفيين الذين يتابعون تنقلاته، ببسمة أو نظرة معبّرة، كما حدث مثلاً خلال تلقّيه اللقاح المضاد لكوفيد-19 في أحد المستشفيات، أو خلال قدّاس في مدينة الكاب احتفاء ببلوغه 90 عاماً في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

كان يحلم أن يصبح طبيباً

ولد ديسموند توتو في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 1931 لعائلة متواضعة في كليركسدورب، وهي بلدة صغيرة غنية بالمناجم في جنوب غرب جوهانسبرغ. وقد أصيب خلال طفولته بشلل الأطفال، كما تذكر وكالة الصحافة الفرنسية.

وكان يحلم بأن يصبح طبيباً، لكنه تخلى عن هذا الطموح لنقص الإمكانيات، فأصبح مدرّساً قبل أن يستقيل احتجاجاً على التعليم المتدني المخصص للسود ودخوله إلى الكنيسة.

اقرأ أيضاً: الطاهر الحداد: مجتهد توفي في عزلته بعد مواجهة مع فقهاء التقليد

في سن الثلاثين رُسم كاهناً ودرس ودرّس في بريطانيا وليسوتو، ثم استقر في جوهانسبرغ في 1975. في تلك الفترة وفي أسوأ أوقات الفصل العنصري نظم مسيرات سلمية، ودعا إلى فرض عقوبات دولية على نظام البيض في بريتوريا. ولم تحمِه من السجن سوى صفته كرجل دين.

وديسموند توتو الذي عين رئيساً لأساقفة كيب تاون وللطائفة الأنغليكانية في بلده، كان متزوجاً منذ 1955 من ليا، وأنجب منها أربعة أطفال.

كان يحلم بأن يصبح طبيباً، لكنه تخلى عن هذا الطموح لنقص الإمكانيات

ظل يأمل بطي صفحة الكراهية العنصرية. لكن آماله تبددت بسرعة؛ إذ حصلت الأغلبية السوداء على حق التصويت، لكنها بقيت فقيرة إلى حد كبير. ومع ذلك فقد تمسك توتو بحلمه بجنوب أفريقيا متعددة الأعراق وتسودها المساواة.

اقرأ أيضاً: لماذا اختصم محمد الطاهر بن عاشور مع الرئيس بورقيبة؟

وبعد ذلك تصدى لتجاوزات حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؛ بدءاً من أخطاء الرئيس السابق ثابو مبيكي في محاربة الإيدز. حتى إنه وعد في عام 2013 بعدم التصويت أبداً للحزب الذي انتصر على الفصل العنصري، مرة أخرى.

لم ينسحب رغم السرطان

وعلى الرغم من تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا في 1997 وإقامته عدة مرات في المستشفى، لم ينسحب الرجل الذي عرف بحيويته الاستثنائية من الحياة العامة إلا بشكل تدريجي وتقاسم حساباً على "تويتر" مع ابنته مفو التي تدير مؤسسته.

أغضب الأسقف الراحل الإسرائيليين عندما شبّه الأفارقةَ السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين. وقال إنه لا يستوعب كيف يمكن فرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني

كان ديزموند توتو من أشد المعجبين بنيلسون مانديلا، ولكنه لم يتفق معه دائماً، وخصوصاً في ما يتعلق بجواز استخدام العنف لتحقيق هدف عادل.

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، طلب مانديلا، وقد أصبح آنذاك رئيس جنوب أفريقيا، من توتو أن يرأس لجنة للحقيقة والمصالحة مهمتها البحث عن أدلة عن وقوع جرائم إبان حقبة الفصل العنصري، وإصدار توصيات بشأن ما إذا كان يجب العفو عن أولئك الذين يعترفون بضلوعهم بتلك الجرائم.

وفي نهاية أعمال اللجنة، هاجم توتو قادة جنوب أفريقيا البيض السابقين، وقال إنّ معظمهم كذبوا على اللجنة.

كان توتو دائم التأثر بآلام ضحايا العنف، وشوهد أكثر من مرة وهو يبكي أثناء جلسات اللجنة

ورغم قبول الحكومة بالتقرير الذي أصدرته اللجنة، انتقدها كثيرون بزعم أنها لم تحقق الأهداف التي شُكّلت من أجلها.

فقد اتُّهم توتو، على سبيل المثال، بالتساهل مع زوجة مانديلا الأولى ويني التي كانت تواجه تهماً خطيرة بما فيها الضلوع في جرائم قتل.

كان توتو دائم التأثر بآلام ضحايا العنف، وشوهد أكثر من مرة وهو يبكي أثناء جلسات اللجنة.

اقرأ أيضاً: في عالم بلا قلب: لماذا أراد ماركس أن يحرمنا عزاءنا الوحيد؟

وفي أعقاب رحيله أمس، علّقت مؤسسة مانديلا على نبأ الوفاة. وقالت إنه خسارة "لا تُعوض"، مشيرة إلى أنه "كان رجلاً استثنائياً وحياته كانت بالنسبة إلى كثيرين في جنوب أفريقيا والعالم بركة. كان شخصاً مذهلاً، مفكّراً، قائداً، راعياً صالحاً".

وتذكر تقارير إعلامية أنه عند وفاة نيلسون مانديلا في 2013، أنعش ديزموند توتو مراسم  التشييع المملة جداً عبر الصراخ بقوة "نعم" للجمهور بعد أن قال أمامه "نعد الله بأننا سنحذو حذو نيلسون مانديلا".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية