الإسلام في البلقان... انبعاثٌ في سياق الأزمة يلتقي بمساعي التوسع التركي

الإسلام في البلقان... انبعاثٌ في سياق الأزمة يلتقي بمساعي التوسع التركي

الإسلام في البلقان... انبعاثٌ في سياق الأزمة يلتقي بمساعي التوسع التركي


11/02/2024

يُشكّل الإسلام ثاني أكبر ديانة في البلقان، وينتشر المسلمون خاصّة ضمن ما يُعرف بـ "الهلال الإسلامي"، الممتد في دول البوسنة والهرسك، وألبانيا، ومقدونيا، وكوسوفو. وتتراوح نسبهم ما بين (40%) في مقدونيا إلى (95%) في كوسوفو. وخلال عقد التسعينات، ونتيجة لتفكك الدولة الفيدرالية في يوغوسلافيا وولادة دول عديدة، ومع استخدام النظريات الإثنية لتبرير التفكّك، ظهرت المجتمعات الإسلامية كفاعل بارز، وهو ما صاحبه تحولات مهمّة على المستوى الداخلي، تمثّلت في صعود حركات الإسلام السياسي، وعلى المستوى الخارجي تمثل في تضاعف مستويات التفاعل والصلات مع دول الجوار الإقليمي، وخاصّة تركيا، التي باتت تمتلك حضوراً فاعلاً بعدما كان دورها غائباً خلال العقود السابقة. 

البدايات... الدخول العثماني العنيف

بدأ التفاعل الإسلامي مع البلقان بالتصاعد منذ السيطرة الإسلامية في عهد الأغالبة على جزيرة صقلية (جنوب إيطاليا) في القرن الـ10 الميلادي؛ إذ ترتبط الموانئ في غرب البلقان بالجزيرة من خلال خطوط التجارة البحرية. إلّا أنّ التحول والتفاعل الأوسع جاء لاحقاً مع التوغل العثماني في شبه جزيرة البلقان، وذلك منذ فترات تعود إلى النصف الثاني من القرن الـ14 الميلادي، وتحديداً بعدما هزم العثمانيون التحالف المسيحي في معركة "ماريتسا" عام 1371، ومن ثم جاء الانتصار العثماني الحاسم في معركة "سهل قوصوه" (كوسوفو) عام 1389.

لوحة تصوّر معركة "نيكوبوليس" التي هزم فيها العثمانيون الجيوش الأوروبية عام 1396

وبحلول عام 1394 كان العثمانيون قد نجحوا في إخضاع مناطق واسعة من بلغاريا، وبعد معركة "روفين" في أيار (مايو) 1395، ومعركة "نيكوبوليس" (أقصى شمال بلغاريا) عام 1396، تمكّن السلطان العثماني بايزيد بن مراد من السيطرة على كامل بلغاريا. ومن ثم، وخلال القرن الـ15، خاضَ العثمانيون سلسلة من المعارك مع الصرب في غرب البلقان، في مقدونيا، وكوسوفو، والبوسنة، وفي عمق صربيا ذاتها. وامتدت المعارك إلى أقصى غرب شبه الجزيرة، نحو ألبانيا، وقد استمرت المقاومة الألبانية حتى عام 1478 حين انهارت، وأخضع العثمانيون ألبانيا، وجاء النصر العثماني الحاسم في البلقان حين سقطت بلغراد وتمكّن العثمانيون من دخولها عام 1521.

الإخضاع العسكري العثماني للبلقان لم يكن يعني بالضرورة دخول سكانه في الإسلام؛ إذ ظلّ الجزء الأكبر منهم يدفع الجزية، وخاصة الصرب والبلغار

إلّا أنّ الإخضاع العسكري العثماني للبلقان لم يكن يعني بالضرورة دخول سكّانه في الإسلام؛ إذ ظلّ الجزء الأكبر منهم يدفع الجزية، وخاصة الصرب والبلغار، وكانت الحالتان اللتان تحقق فيهما الدخول الأوسع في الإسلام، هما لدى كلٍّ من "البُشناق" (البوسنيون)، والألبان. وفي حالة البُشناق، فإنّهم، قبل وصول العثمانيين، كانوا على مذهب مسيحي يُسمّى "بوغوميل"، وكانوا يتعرضون منذ القرن الـ13 لاضطهاد الكاثوليك الرومان، وزاد الاضطهاد في القرن الـ15، وفي ذلك السياق تقبل البُشناق دخول الأتراك كبديل عن اضطهاد الكاثوليك، وعندما تعرّف البُشناق على مبادئ الإسلام اعتنقوا الإسلام، وكانت معتقدات كنيستهم أقرب إلى المعتقدات الإسلامية، وذلك من حيث رفض تأليه المسيح والاعتقاد ببشريّته، وقد حظي البُشناق بمناصب مهمّة في الدولة العثمانية، وكان من أشهر القادة البُشناق: أحمد باشا الجزار، والي صيدا ودمشق لولايات عدة في فترة أواخر القرن الـ18وبداية القرن الـ19.

اقرأ أيضاً: الإسلام في الهند: التجاور مع الهندوسية.. وجذور الطائفية والعنف الديني

أمّا الألبان، فقد تأخر دخولهم في الإسلام على نطاق واسع حتى القرنين الـ17 والـ18، حين تحولت النسبة الأكبر منهم إلى الإسلام، ممّا أتاح فرصاً أمامهم للترقي ضمن الدولة العثمانية، وكان من أبرز قادتهم: محمد علي باشا، القائد العسكري العثماني الذي تمكن من التربع على عرش الحكم في ولاية مصر عام 1805.

الدين والهوية القومية... افتراق أم اقتران؟

يتباين مسلمو البلقان من حيث التوحيد والمماهاة بين الهوية الدينية والقومية؛ وتبدو هذه المماهاة بشكل أكبر في حالة البُشناق والأتراك، أمّا في ألبانيا، فتتدنى وتكاد تكون غائبة. ويمكن فهم الحالة الألبانية من خلال تتبع تشكّل وصعود القومية الألبانية التي جاءت متأثرة بصعود القوميات في أوروبا خلال القرن الـ19، وقد تبلورت الحركة القومية الألبانية في "عُصبة بريزرن"، التي تشكلت عام 1878، إثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب ضد روسيا القيصرية. وشهدت مرحلة نهاية القرن الـ19 تبلور ما عُرف بـ "النهضة الألبانية"، التي كانت عبارة عن حركة ثقافية وسياسية واجتماعية ركزت على تجمّع الشعب الألباني على أسس ثقافية وسياسية مستقلة، وبشكل خاص على أساس الانفصال عن النظام السياسي العثماني، المعروف بـ "نظام الملل"، والذي كان ينظر إليه باعتباره نظاماً دينياً رجعياً يميّز بين المكوّنات على أساس الديانة والطائفة، وبالتالي ارتبطت القومية الألبانية بالتوجه العلماني، وهو ما جاء بدافع من أسباب أخرى أيضاً، أهمها أنّ نسبة مهمّة من الألبان (حوالي 25%) يعتنقون المسيحية الأرثوذكسية، وبالتالي فإنّ العلمانية كانت خياراً للجمع بين مكوّنات القومية الألبانية وتوحيدها.

مسجد أدهم باي في العاصمة الألبانية تيرانا... يعود تاريخ بنائه إلى القرن الـ18

أمّا حالة البُشناق، فقد كانت مختلفة؛ إذ إنّه بعد هزيمة العثمانيين في الحرب مع روسيا عام 1878، نال الصرب استقلالهم، ومن ثم أُعلن قيام مملكة الصرب في عام 1882، بينما أصبحت مناطق كرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، تدريجياً تحت إمرة "الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية"، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الإمبراطورية النمساوية- الهنغارية، اتحدت صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، باسم "مملكة صربيا وكرواتيا وسلوفينيا"، والتي ضمّت أراضي البوسنة والهرسك ضمنها، وفي هذا السياق، وجد البُشناق أنفسهم أقليّة ضمن دولة ذات أغلبية مسيحية، وبذلك بدأ انفصال البُشناق على الأساس الإسلامي، وتعزز تداخل الدين بالقومية لديهم، ليختلفوا في ذلك عن حال الألبان.

يتباين مسلمو البلقان من حيث التوحيد والمماهاة بين الهوية الدينية والقومية؛ وتبدو هذه المماهاة بشكل أكبر في حالة البُشناق والأتراك، أمّا في ألبانيا، فتتدنى وتكاد تكون غائبة

واشتدّ الارتباط بين القومية والدين لدى البُشناق مع دخول البوسنة الحروب اليوغوسلافية في التسعينات؛ إذ برزت القضية البوسنية باعتبارها قضية إسلامية، وأصبح الإسلام الأساس الذي تقوم عليه عملية تشكيل الهوية البوسنية الانفصالية عن الصرب والكروات، وبحيث بات الدين عامل توحيد بالنسبة إلى المسلمين البوسنيين، ووسيلة لتمييز هويتهم التاريخية- الثقافية عن الصرب والكروات.

الأزمات والتفكك... وصعود الإسلام السياسي

بدأت الصحوة الإسلامية بين المسلمين في يوغوسلافيا خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، متزامنةً مع بروز ظاهرة الصحوة في سائر الأقطار الإسلامية الأخرى، وجاءت مدفوعةً بالتحويلات المالية من العمالة البوسنية في الخارج، والتي ساهمت في إعادة بناء وترميم بعض المساجد، وأسهمت المساعدات القادمة من دول عربية بدفع الصحوة، واتجهت هذه المساعدات لتمويل المساجد ومدارس تعليم القرآن.

 

اقرأ أيضاً: الإسلام في الصين: تاريخ طويل من الحضور... هل كان عنوانه الاندماج أم الاضطهاد؟

على المستوى النظري، بدأ فكر الإسلام السياسي بالتبلور في البوسنة عندما نشر علي عزت بيجوفيتش، الذي سينتخب في التسعينيات رئيساً للبوسنة، كتابه "الإعلان الإسلامي" عام 1970، وأكد فيه على ضرورة تطوير علاقة أوثق بين الدين والسياسة، ضمن إطار أخلاقي منفتح، وبدون أن يكون الهدف النهائي إقامة دولة إسلامية، وهو الكتاب الذي سُجن بسببه في سجن "موشا" مدة (13) عاماً.

علي عزت بيجوفيتش أول رئيس للبوسنة.. يُعتبر كتابه "الإعلان الإسلامي" أول تنظير للإسلام السياسي في البلقان

وفي التسعينيات، خلال أعوام الحرب، تصاعد الشعور بالهوية الإسلامية لدى البوسنيين، وتزامن ذلك مع وصول الجهاديين الذين أسسوا لوجود حالة من الإسلام السياسي الراديكالي في البلاد، وقد بقي بعضهم في البوسنة حتى بعد توقيع "اتفاقية دايتون للسلام" وإنهاء الحرب عام 1995، مشكلين جيوباً لحركة إسلامية راديكالية تضمّ مجموعات محدودة.

 

اقرأ أيضاً: الإسلام في الولايات المتحدة: من صعود الحركات الأفروأمريكية إلى مواجهة الإسلاموفوبيا

ومع زوال أنظمة الحكم الاشتراكية/ الشيوعية في المنطقة، بدأت المجتمعات المسلمة في البلقان تظهر كفاعل سياسي مستقل، ونتج عن ذلك تكوين أحزاب سياسية تمثل المسلمين في الدول البلقانية. ففي البوسنة ظهر كُلٌّ من حزب "منظمة البشناق الإسلامية"، و"حزب العمل الديمقراطي"، ويُعتبر الأخير أكبر حزب إسلامي في البوسنة، تأسس عام 1990 على يد علي عزت بيجوفيتش، في نهاية العهد اليوغوسلافي.

 

اقرأ أيضاً: الإسلام في غرب أفريقيا... قصة الانتقال من الازدهار الحضاري إلى الجماعات المتطرفة

وظهرت أحزاب إسلامية بين الأقليّات الألبانية كـ "حزب الرفاه الديمقراطي لمسلمي مقدونيا الألبان" في مقدونيا، و"حزب الرابطة الديمقراطية لمسلمي كوسوفو" في كوسوفو، إضافة إلى أحزاب إسلامية ممثلة للأقليات التركية، كـ "حزب الحركة من أجل الحقوق والحريات" الممثل لمسلمي بلغاريا الأتراك، و"الحزب الديمقراطي التركي"، و"الاتحاد الديمقراطي التركي" في كوسوفو، و"الاتحاد الديمقراطي للأتراك المسلمين" في رومانيا، في حين غابت أحزاب الإسلام السياسي عن ألبانيا، واقتصر نشاط ذوي التوجه الإسلامي فيها على الانتساب للحزب الديمقراطي الألباني ذي النزعة المحافظة.

الحضور التركي... نفوذ متصاعد

الصراع الذي شهده عقد التسعينيات أظهر مسلمي البلقان كفاعل سياسي مستقل، وأعاد مسلمي البلقان إلى حاضنة الأمّة الإسلامية الجامعة، وهو ما بدا من خلال الدعم المادي والمعنوي المُقدّم من الدول الإسلامية، والتي كان من بينها تركيا. إلّا أنّ دعم تركيا كان له طابع خاص؛ باعتبار أنّه جاء كوصل وإعادة استئناف للحضور التاريخي العثماني في المنطقة، فضلاً عمّا يحققه الحضور والنفوذ التركي بالمنطقة من مصالح حيوية لتركيا باعتبارها عمقاً حيوياً لها يربطها بأوروبا.

 مع زوال أنظمة الحكم الاشتراكية/ الشيوعية في المنطقة، بدأت المجتمعات المسلمة في البلقان تظهر كفاعل سياسي مستقل، ونتج عن ذلك تكوين أحزاب سياسية تمثل المسلمين في الدول البلقانية

ويبرز نشاط وكالة التعاون والتنسيق التركية، "تيكا"، التي قامت خلال الأعوام الأخيرة بتمويل بناء عدد من المساجد الكبرى الجديدة في البلقان، ومنها مسجد "ميتروفيتسا"، الأكبر في كوسوفو، وكذلك مسجد "نمازغيا" في تيرانا، عاصمة ألبانيا. ونفذت "تيكا" مئات المشاريع في البوسنة والهرسك، وخاصّة من أجل ترميم التراث العثماني والمساجد التي تعرضت للتدمير خلال أعوام الحرب (1992-1995)، ومن ذلك أعمال صيانة وإصلاح مسجد "خنكار" أحد أقدم المساجد في العاصمة سراييفو، وأحد أهم رموز عهد السلطان محمد الفاتح في البوسنة والهرسك، فضلاً عن تمويل ورعاية سلسلة من المشاريع الخيرية والتنموية والتعليمية.

 

اقرأ أيضاً: الإسلام في روسيا وآسيا الوسطى... من القمع السوفييتي إلى النشاط الجهادي

إلى جانب ذلك، تدعم تركيا برامج تدريس اللغة التركية في البوسنة والهرسك، فقد باتت التركية تُدرس في (150) مدرسة من مدارس البلاد، يدرسها فيها نحو (10) آلاف تلميذ. ونشرت تركيا مراكزها الثقافية التابعة لمؤسسة "يونس إمري"، وبات هناك (14) منها في دول البلقان، وهي معنيّة بنشر الثقافة التركية، وتقديم المنح الدراسية للطلاب في تركيا.

أمينة أردوغان زوجة الرئيس التركي ترعى حفل افتتاح أحد المشاريع التي تشرف عليها "تيكا" في البوسنة عام 2019

وعلى المستوى الاقتصادي، تنشط الشركات التركية في دول البلقان، وبشكل خاص في قطاعات البنية التحتية والطاقة والاتصالات والمصارف، إذ تشغّل وتدير شركة من شركات "مجموعة ليماك القابضة"، المقرّبة من حزب "العدالة والتنمية"، المطار الرئيسي في بريشتينا، عاصمة كوسوفو، كما تشغّل شركة (ATV) التركية مطار سكوبي، عاصمة مقدونيا الشمالية. وتدير شركة "كارباورشيب" التركية شركة كهرباء كوسوفو. وفي قطاع الاتصالات تدير "شركة الاتصالات التركية" شركة الاتصالات الكبرى في ألبانيا (ألب تيلكوم). وتدعم تركيا مشاريع بنى تحتية بهدف تنشيط الحركة التجارية بالمنطقة وبما يعود على زيادة صادراتها، ومن أهم هذه المشاريع الطريق السريع الرابط بين سراييفو (عاصمة البوسنة والهرسك) والعاصمة الصربية بلغراد.

لقد برزت الجماعات الإسلامية في البلقان، بشكل أساسي، في سياق انهيار الدولة اليوغوسلافية وتفككها وما صاحب ذلك من حروب، وتزامن ذلك مع دخول مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وما صاحب ذلك من تحولات جيوسياسية، كان من ضمنها تحول الاستراتيجية التركية نحو البحث عن أدوار ووظائف جديدة، عبّرت عنها سياسة "العثمانية الجديدة" في عهد الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال، ومن ثم توسع في تفصيلها وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو، في أطروحته "العمق الاستراتيجي"، وهو العمق الذي يُشكّل بالأساس مناطق وكالات تمدد الدولة العثمانية سابقاً، وفي مقدمتها، البلقان، العمق الأوروبي لتركيا، فجاء التفكك اليوغوسلافي وصعود الهويات الإسلامية ليتفق ويتواءم مع استراتيجية بناء وتعزيز النفوذ التركي في شبه جزيرة البلقان.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية