الإصلاحات السعودية بين الإخوان والوهابية (2)

الإصلاحات السعودية بين الإخوان والوهابية (2)


19/05/2022

بابكر فيصل

قلت في الجزء الأول من هذا المقال إن المملكة العربية السعودية تشهد منذ أكثر من سبع سنوات تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية مسنودة بإصلاحات دينية غير مسبوقة شملت العديد من النواحي المرتبطة بعلاقة الدولة بجماعة الإخوان المسلمين والمذهب السلفي (الوهابي) بما يتضمنه من الكثير من المنطلقات وفي مقدمتها موقع الأحاديث النبوية في التشريع.

إن التجربة العملية والممارسة الفعلية لأصحاب الفكر السلفي الوهابي تحدثنا عن جنود الملك عبد العزيز بن سعود المعروفون باسم "الإخوان", والذين كانوا من أكثر الناس إخلاصاً لتعاليم محمد بن عبد الوهاب، وعن طريقهم استطاع الملك الراحل بسط سلطانه على نجد والحجاز وتأسيس المملكة الحالية.

لم يكن الإخوان يختلفون كثيراً عن داعش، فقد كانوا شديدي الكراهية لغير المسلمين، الذين درجوا على تسميتهم جميعا بالكفار، ولم يكونوا يحتملون وجودهم في الجزيرة العربية ( وقد رأينا صدى شعورهم هذا يتكرر في أحاديث أسامة بن لادن).

لقد نشأ الإخوان وتربوا على عقيدة "الولاء والبراء" التي تقسم العالم إلى فسطاطين : الكفر والإيمان، وهى نفس الأفكار التي يتربى عليها السلفيون اليوم بمختلف أطيافهم، ومنها ينهل الشباب الذي يذهب لينضم لداعش.

كان الإخوان جنودا مخلصين لفكرتهم الدينية التطهرية، متعطشين للدماء ومستعدين دوماً للموت، ومعادين لجميع مظاهر الحياة المدنية الحديثة مثل التلفون والسيارة والراديو باعتبارها بدعا لا يجوز استخدامها.

كانوا أيضا لا يعترفون بأي فكر أو تصور للإسلام يخالف الوهابية، وعلى رأس ذلك التصوُّف وأهله حيث فعلوا فيهم الأفاعيل، ولذلك كان هدفهم هو إدخال جميع المناطق العربية في الإسلام رغم أن أهلها مسلمون موحدون، وكان أحد أسباب خلافهم مع الملك عبد العزيز هو رفضه مواصلة الحروب لإخضاع سوريا و العراق والأردن لسلطانه وإدخال أهلها تحت سلطان العقيدة الوهابية.

ومن ناحية أخرى فإن "جهيمان العتيبي" الذي أشار إليه ولي العهد السعودي في حواره مع "أتلانتيك" والذي قام باحتلال الحرم المكي الشريف في صلاة فجر اليوم الأول من المئة الأولى للقرن الخامس عشر الهجري، كان قد درس العلوم الشرعية في مكة وكذلك في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث كان تأثير الشيخ عبدالعزيز بن باز طاغيا، وهناك التقى جهيمان بـ "محمد بن عبدالله القحطاني" الذي أدعى المهدية وهو أحد تلاميذ بن باز المباشرين.

ذهب العتيبي وبعض رفاقه إلى بن باز وقالوا له أنهم يريدون تأسيس جماعة دعوية تقوم على "منهج السلف وتحارب البدع وتكون على الكتاب والسنة وتحكّم القرآن والسنة" فسألهم بن باز عن اسم هذه الجماعة، فقالوا : الجماعة السلفية. فقال لهم: "بما أنكم تدعون الحسبة إلى الله، سموها : الجماعة السلفية المحتسبة"، فأصبح ذلك هو اسمها.

لقد تربى العتيبي ورفاقه على المنهج السلفي الحرفي الذي يلغي العقل ويؤمن بالتفسير اللفظي للنصوص، ويجعل من الأحاديث مصدرا تشريعيا مساويا للقرآن الكريم، ولذلك فقد آمنوا بظهور المهدي المنتظر الذي تم الحديث عنه كثيرا في الأحاديث المنسوبة للرسول المعصوم.

آمن القحطاني والعتيبي ورفاقهم بأن المهدي يُبايع بين "الركن والمقام", وأنه يعتصم في الحرم ثم يأتي جيش من تبوك ويخسف بهذا الجيش ثم يخرج هذا الرجل من الحرم ويذهب إلى المدينة ويحارب المسيح الدجال ثم يخرج من المدينة ويذهب إلى فلسطين ويحارب هناك اليهود ويقتلهم ثم يأتي عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويذهبون إلى الشام فيصلون في مسجد بني أمية وبعد ذلك تقوم القيامة الكبرى.

يؤمن جميع الوهابيون بهذه المرويات التي تمتلئ بها كتبهم ومناهجهم التعليمية، وهم إن اختلفوا مع العتيبي ورفاقه في شيء فإنما يختلفون في أن أوصاف المهدي لم تكن منطبقة على القحطاني وهو خلاف ثانوي، ذلك أن الأخير وجماعته قد رأوا انطباق الأوصاف عليه بحسب تقديراتهم، وهو الأمر الذي يعني أنه ما دامت هذه المرويات موجودة فإنه سيأتي من يحاول تطويعها لأهدافه في كل مرة.

ذات الأمر ينطبق على النبوءة التي وردت في "صحيح مسلم" عن الملحمة الكبرى وهى النبوءة التي استخدمتها داعش كثيرا في استقطاب الآلاف من الشباب المسلم للانضمام لصفوفها من أجل خوض معركة آخر الزمان مع الكفار !

روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة أن الرسول (ص) قال : ( لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لايفتنون أبدا، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فيتنزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكنه يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته).

دابق هو اسم بلدة في سوريا بينما الأعماق منطقة تابعة لأنطاكية بتركيا، وقد اتخذت داعش من دابق اسماً للمجلة الرسمية الناطقة بلسان التنظيم، وظلت تُمني المنضوين للوائها بخوض معركة آخر الزمان التي تنبأ بها حديث مسلم، وهى المعركة التي ستنتهي بظهور الدجال ونزول المسيح وهزيمة الكفار إلى الأبد.

وكذلك تستند داعش إلى حديثٍ آخر يشير إلى أن المعركة ستكون عظيمة تضم مئات الآلاف من المقاتلين، وسيتجمع الروم تحت 80 راية، تضم كل واحدة منها 12 ألف مقاتل، ما يجعل العدد الإجمالي للجيش الذي سيخوض المواجهة مع المسلمين 960 ألف رجل.

لا يستطيع دعاة الفكر السلفي أن يدينوا تفسير داعش لحديث الملحمة الكبرى بإدعاء أن أشراط الساعة لم تتحقق بعد، ذلك أنهم قد وضعوا الأساس الفكري لاعتماد مثل هذه النصوص كحقائق واجبة التصديق وبالتالي فإن تحقُق تلك الأشراط يُصبح أمراً خاضعا لتقديرات كل فرد أو جماعة من الناس في أي وقتٍ من الأوقات، وهنا يتجلى المُشكل الحقيقي المتعلق بالمنهج السلفي في النظر للنصوص.

إن انفتاح السعودية على المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية الأخرى خارج المذهب السلفي وخصوصا تلك التي تحتفي بالعقل ولا تضعه في تضاد مع النقل سيكون أمرا مؤثرا في إنجاح خطوات الإصلاح الديني، وقد أشار ولى العهد في حواره مع "أتلانتيك" إلى ذلك بقوله أن ( الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليس السعودية، فالسعودية لديها المذهب السني والشيعي، وفي المذهب السني توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لإحدى هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية).

عن "الحرة"

الصفحة الرئيسية