الإيرانيون يشيعون "أيقونة الموسيقى الفارسية" بالدعاء لموت الديكتاتور

الإيرانيون يشيعون "أيقونة الموسيقى الفارسية" بالدعاء لموت الديكتاتور


12/10/2020

مثّلت وفاة المغني والملحن الإيراني، محمد رضا شجريان، الخميس الماضي، المولود عام 1940، خسارة فادحة، على أكثر من مستوى، إنسانياً وفنياً؛ إذ عكست سيرته الفنية ومواقفه السياسية العديد من المحطات الغنيّة؛ فقد جمع، بأغنياته وألحانه، الإيرانيين في صورة هادئة وبسيطة، لم تكن لتتحقّق لولا الذاكرة المشتركة التي صنعها بدأب وشغف من خلال ميراثه الممتد لعقود.

تحوّلت جنازة الفنان الإيراني شجريان إلى مظاهرة غضب ضدّ النظام، فاشتبكت قوات الأمن الإيرانية مع أفرادها، في محاولة لتفريقهم، باستخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع

وبينما شهد الفنّ في إيران صعوداً وهبوطاً، إثر التناقضات السياسية التي خلفتها الطبقة الحاكمة، لا سيما منذ العام 1979؛ حيث شكّل رجال الدين المتشددون قيوداً غليظة على كافة أشكال الفنّ، لكنّ شجريان استطاع، على مدى نصف قرن، أن يصنع نموذجاً سحرياً، يقاوم الحظر والمنع والقمع، وقدّم الموسيقى الإيرانية، التراثية والفلكلورية، فضلاً عن أغنيات متفاوتة بمضامين سياسية مثيرة وجريئة، وقد غنّى للشعراء الإيرانيين، مثل: عمر الخيام، وسعدي الشيرازي.

الفنّ في مواجهة السلطة

مع صعود الملالي للحكم، تعرّض الفنّ إلى حملة شرسة، وبطش رجال السلطة الجدد، بهدف التضييق على دوره ونشاطه، فتمّ حظر الحفلات الموسيقية، وذلك من خلال القوانين الجديدة التي بدأت تحاصره، إلى جانب الدعاية الأيديولوجية، السياسية والدينية، المتمثلة في فتاوى رجال الدين الذين اعتبروا الأغاني من الأمور "غير الشرعية"، و"دعاوى انحراف".

تشييع جثمان الفنان محمد رضا شجريان

واجه شجريان، الملقب بـ "أيقونة الموسيقى والمعارضة"، و"أسطورة الأغنية الفارسية"، بعض هذه الأعراض المتشنجة لسلطة الولي الفقيه؛ وفاقمت من تأثيراتها السلبية عليه مواقفه السياسية التي انتقلت من الغناء ضدّ شاه إيران، أو بالأحرى دعم الثورة التي أطاحت حكمه، إلى معارضة النظام القائم، ثمّ تأييد الحركة الخضراء، لاحقاً، عام 2009، كما أنّ مساندته اللامحدودة للاحتجاجات الشعبية الثائرة ضدّ الظلم والاستبداد، قد بلغت ذروتها عندما رفض إذاعة أغانيه في التلفزيون الرسمي، بدعوى استغلال النظام لها في الدعاية لسياساته، واحتجّ على ذلك في رسالة مكتوبة حملت لهجة عنيفة وواضحة.

اقرأ أيضاً: 5 أفلام إيرانية مُنعت من العرض .. تعرف إليها

عرج الفنان الإيراني من خلال أغنياته ومواويله على كافة الأحوال التي يمرّ بها الإنسان؛ فتّش عن دواخله، ونبش في عوارضه، لكنّ إيقاعه ظلّ ثابتاً، ولم ينحرف، في انحيازاته ودعمه المعنوي للإنسان، دون السقوط في فخّ المباشرة أو القوالب الجاهزة.

كانت أغنية "لغة النار" التي أنشدها بعد قمع الاحتجاجات الرافضة لنتيجة الانتخابات الرئاسية، في ظلّ شبهات التزوير الفجّة، عام 2009، بطاقة مرور ذهبية جديدة، وثّقت صلاته بالجماهير، لا سيما بعد أن اتّهمهم الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، بأنّهم "قمامة".

صوت الجماهير

وعليه، خرج شجريان يعلن اصطفافه إلى جانب المتظاهرين، ودعمه لمطالبهم، وقال: "صوتي هو صوت القمامة، وصوتي هو صوت الشعب"، ما ترتّب عليه أن تمّ منع بثّ الموشحات الدينية وأغنياته، في التلفزيون الرسميّ بإيران.

"لا يهمّ أن تكون عربياً أو كردياً أو فارسياً"؛ هذا باختصار ما أجمعت عليه شهادات عدد من الصّحفيين والنشطاء الإيرانيين، الذين تحدثت معهم "حفريات"، وذلك على اختلاف مرجعياتهم السياسية، وتباين أصولهم القومية، وقالت مهتاب أمانبور، المعارضة الإيرانية: إنّ "تعلّقها وشغفها بشجريان تضاعف بعد موقفه المؤيد للاحتجاجات؛ حيث كانت الجماهير تنتظر أيقونة مثله حتى تشعر بالدّعم والمساندة المعنوية".

وتضيف، في حديثها لـ "حفريات": "رغم المسافة الشاسعة بين شجريان والنظام في إيران، ومعارضته لسياساته، وطريقة حكمه، لكنّ النظام الإيراني في الواقع يستغلّ فرصة وفاته ليكسب الشارع من خلال الاهتمام به".

اقرأ أيضاً: وفاة الممثل العراقي نزار السامرائي

"أنا لم أفهم كلمة واحدة مما كان شجريان يغنّيه، لكنّني في أقسى ساعات حزني وكآبتي ألجأ إليه، وإلى فنان كردي، اسمه محمد شيخو، كي أفرغ شحنة الحزن"؛ تقول مريم حافظ، إيرانية من أصول كردية، تعيش في طهران، وتردف: "حتى في الحفلات التي كان شجريان يقيمها خارج بلاده، كان يحظى باهتمام كبير من الأجانب، والسبب طبعاً هو الصوت واللحن الجميلان، ناهيك عن الكلمات، لمن يفهمها".

سيرة البدايات

ويشير المترجم المتخصص في الأدب الفارسي، حسن الصراف، إلى أنّ شجريان قد بدأ مسيرته بتلاوة القرآن الكريم، في إذاعة محافظة خراسان، عام 1952، ودخل معهد إعداد المعلمين، عام 1959، ليمارس بعد تخرّجه مهنة التّدريس في وزارة التربية الإيرانيّة، وحينها تعلّم العزف على آلة السنطور التي تشبه آلة القانون، كما أتقن في عقد الستينيات فنّ الخطّ بطريقة احترافية.

يقول الصراف لـ "حفريات": "والد شجريان الذي ينتمي لعائلة دينية، كان يحبّذ أن يكون ابنه من قرّاء القرآن؛ لذلك كان شجريان في بدايات مشواره الفني يستخدم اسماً فنياً مستعاراً أثناء تسجيل أعماله الفنية؛ إذ كان يعرف باسم "سياوش بيدكاني"، إلى أن سمح له والده أن يعتمد اسمه الحقيقي، واسم العائلة لجهة نشر أعماله الفنية والموسيقية".

حاز شجريان المرتبة الأولى في مسابقات تلاوة القرآن في إيران، عام 1978، وأول شهرة له، بوصفه مطرباً وفناناً موسيقياً، كانت في مهرجان شيراز الفنّي الذي أقامته الحكومة الإيرانية، عام 1975؛ حيث أقام شجريان حفلاً موسيقياً، وعرض التلفزيون هذا الحفل بالبثّ المباشر.

اقرأ أيضاً: وفاة الفنان حمدي بناني متأثراً بكورونا.. ماذا تعرف عن شيخ أغنية المالوف في الجزائر؟

من بين أكثر الأعمال الفنية التي تسبَّبت بشهرة واسعة لشجريان بين الشعب الإيراني، بحسب الصرّاف؛ تلاوته لآيات الدعاء في القرآن الكريم، والتي كانت تبثّ في شهر رمضان بإيران، وتعدّ تلاوة رائعة ومشهورة جداً لأربع من آيات الدعاء، تبدأ جميعها بنداء "ربّنا"، وبمقام "السيكاه" الموسيقي، وعلى طريقة بعض الابتهالات المصرية، كما تعرف في إيران بـتلاوة (ربّنا)، والتي يعود تاريخ تسجيلها إلى عام 1980، وبعدها أصبح جزءاً رئيساً من البرامج الرمضانية في الإذاعة والتلفزيون الإيراني. وكلّ من يسمع هذه الآيات بهذا الصوت في إيران، يعلم أنّه قد حان موعد الإفطار.

تمرّد حتى الرمق الأخير

نال شجريان جوائز وشهادات عالمية عدة، منها جائزة بيتا للأدب والفنّ الفارسي، في جامعة "ستانفورد" الأمريكية، وجائزة "بيكاسو" من منظمة اليونسكو في باريس، التي تعطى للفنانين الذين يبذلون جهداً في التعريف بالثقافة الوطنية لبلادهم. وقد نال، عام 2006، "وسام موتزارت" من منظمة "اليونسكو"، بينما ترشّح مرّتين لنيل جائزة "غرامي"، التي تمنحها الأكاديمية الوطنية لتسجيل الفنون والعلوم في الولايات المتحدة.

وبينما تخرّج في مدرسة شجريان الموسيقية العديد من الفنانين والمطربين الشباب، لعلّ من أهمّهم؛ ابنه الفنان الإيراني المشهور، همايون شجريان، فإنّ المترجم المتخصص في الأدب الفارسي يلفت إلى أنّ الفنان الإيراني، قد أوصى بأن يدفن في مدينة طوس، قرب مشهد، مسقط رأسه، وذلك إلى جانب قبر الشاعر الفارسي الشهير، في القرن الخامس الهجري، أبي القاسم الفردوسي، وقبر الشاعر المعاصر، مهدي أخوان ثالث.

المترجم حسن الصراف لـ"حفريات": بفضل شجريان صار الإيرانيون يغنون أبياتاً لعمر الخيام وجلال الدين الرومي، كما أنّ موسيقاه أخرجت سعدي الشيرازي، وغيره من بطون الكتب                                                                       

وبسؤاله عن أثر أغاني شجريان وصوته، خاصة مع متابعته بالدراسة والترجمة للأدب الفارسي، يجيب الصراف: "أجد شجريان من الفنانين الموسيقيين النادرين الذين أحيوا التراث الشعري الفارسي الأصيل والقديم، لعلّه بفضل شجريان، وأمثاله القلة، صار العامة في إيران يترنمون ويغنون أبياتاً لعمر الخيام وجلال الدين الرومي، كما أنّ أعماله وموسيقاه أخرجت سعدي الشيرازي، وغيره من بطون الكتب الأدبية، وساهمت في تعريف الفرد الإيراني غير المتخصص بالشعر والأدب بهم، حتى صار التراث الأدبي الفارسي بروحه ماثلاً أمام الناس".

اقرأ أيضاً: وفاة الممثل السعودي محمد حمزة.. تعرّف على أشهر أعماله

وإلى ذلك، لم تستطع الحكومة الإيرانية تجاهل وفاة شجريان، كما أنّها فشلت في منع تدفق الآلاف من الجماهير إلى المستشفى الموجود فيه، بالعاصمة الإيرانية، طهران. وفي ظلّ حالة التعبئة السياسية التي تقع تحت وطأتها قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني، تحوّلت جنازة الفنان الإيراني إلى مظاهرة غضب ضدّ النظام، فاشتبكت قوات الأمن الإيرانية مع أفرادها، في محاولة لتفريقهم، باستخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع، بينما هتف المحتجون "الموت للديكتاتور"، و"أتمنى أن يموت الدكتاتور ولن يموت شجريان أبداً"، و"تلفزيون الدولة عار وطني".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية