الاعتذار عن تاريخ الاضطهاد: تطهّر أم إنصاف للضحايا؟

الاعتذار عن تاريخ الاضطهاد: تطهّر أم إنصاف للضحايا؟


13/03/2022

يشهد العقل الأوروبي مراجعات كثيرة عن تاريخه، سواء فيما خص الاستعمار، أو الممارسات التي راح ضحيتها أبرياء. وطاولت الاعتذارات أعتى مؤسسة دينية وهي الفاتيكان الذي تتواصل اعتذاراته بخصوص ممارسات القساوسة الجنسية، أو بسبب إغماضته عن الحروب كحرب رواندا، أو الاعتذار الشهير المتأخر نحو 360 عاماً للعالم الفلكي غاليليو الذي شهد بدوران الأرض حول الشمس، وعارضته الكنيسة آنذاك واضطهدته.

آخر الاعتذارات جاء من إسكتلندا، التي اعتذرت رئيسة وزرائها نيكولا ستورجن الأسبوع الماضي، نيابة عن الحكومة، عن قتل وتشويه سمعة آلاف الأشخاص الذين اتهموا بممارسة السحر بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.

وجاء الاعتذار في إطار الاحتفال بيوم المرأة العالمي، وبعد صدور عريضة تطالب بالعفو عن أكثر من 4000 شخص في إسكتلندا، الغالبية العظمى منهم من النساء، الذين تم اتهامهم وإدانتهم وإعدامهم في كثير من الأحيان بموجب قانون السحر لعام 1563، كما أفادت صحيفة "إندبندنت".

اعتذرت ستورجن الأسبوع الماضي، نيابة عن الحكومة الإسكتلندية، عن قتل وتشويه سمعة آلاف الأشخاص الذين اتهموا بممارسة السحر بين القرنين السادس عشر والثامن عشر

وقالت ستورجن أمام البرلمان الإسكتلندي: "في الوقت الذي منعت فيه النساء من الشهادة أمام المحاكم، وجهت إليهن الاتهامات، وقتلن لأنهن فقيرات أو مختلفات أو ضعيفات، أو في كثير من الحالات فقط لأنهن نساء"، مضيفة: "بصفتي وزيرة أولى، ونيابة عن الحكومة الإسكتلندية، أختار الاعتراف بهذا الظلم الفاضح والتاريخي وتقديم اعتذار رسمي إلى كل اللواتي وجهت إليهن الاتهامات، وتمت إدانتهن، وشهر بهن، وأعدمن، بموجب قانون السحر لعام 1563".

الكراهية العميقة للمرأة

وشددت في كلمتها على أنّ "الكراهية العميقة للمرأة التي حفزت هذا الظلم الهائل شيء لا يزال يتعين على النساء اليوم التعايش معه.. سيتساءل البعض لماذا على هذا الجيل الاعتذار عن ممارسات حدثت قبل قرون؟ ولكن الأنسب أن نسأل لماذا استغرق الأمر هذا الوقت الطويل".

هذه الاعتذارات تمثل مراجعة ضرورية لممارسات العقل الأوروبي الذي يود في جانب منه أن يتخفف من أثقال الماضي المرهقة. لكنّ هذه الاعتذارات لا تكتمل وتظل مرتبطة بحسابات سياسية

يذكر أنّ قانون السحر لعام 1563 الذي أقره البرلمان الاسكتلندي جرم السحر أو التشاور مع السحرة، وفرض عقوبة على المخالفين بالإعدام، وهذا ما حصل فعلاً بحق نحو 2500 شخص، وفقاً لمنظمة "ساحرات إسكتلندا" التي ضغطت على البرلمان للاعتذار عن الفظائع، والعفو عن المتهمين والمحكومين، وبناء نصب تذكاري تخليداً لذكرى الضحايا.

وقالت المنظمة إنّ أكثر من 80 في المائة من الذين اتهموا بممارسة السحر، وعددهم 3800، هم من النساء.

وكانت أعنيس سامبسون وهي امرأة مسنة، أول امرأة تُدان بالسحر في إسكتلندا، في كالتون هيل في إدنبرة. وتعرضت قبل وفاتها في عام 1591،  للحرمان من النوم، وهي أداة شائعة للمحققين آنذاك، تسببت في معاناتها من الهلوسة التي تم استخدامها ضدها فيما بعد كدليل للإدانة.

أكثر من 80 في المائة من الذين اتهموا بممارسة السحر، وعددهم 3800، هم من النساء

وفضلاً عن ذلك، كانت جانيت هورن آخر إسكتلندية حوكمت وأعدمت بتهمة السحر، في دورنوش، ساذرلاند، في عام 1727. وكانت تلك الممارسات شائعة في جميع أنحاء أوروبا من ألمانيا وحتى إيطاليا.

وحثت حملة ساحرات إسكتلندا الحكومة على تقديم اعتذار علني، قائلة إنّ ذلك ذو دلالات قوية، خاصة أنه تمت مطاردة الساحرات في العديد من البلدان خلال تلك الفترة ، لكن الأكاديميين يقولون إنّ معدل الإعدام في إسكتلندا كان خمسة أضعاف المعدل الأوروبي.

الاعتذار لغاليليو

ساحرات إسكتلندا انتظرن زهاء 500 عام حتى يتم إنصافهن، وهي مدة أكثر من تلك التي انتظرها عالم الفلك والفيلسوف الإيطالي غاليليو غاليلي (15 فبراير 1564 - 8 يناير 1642)، الذي نشر نظرية مركزية الشمس والتي جاء بها كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، حيث قام أولاً بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، سالكاً من أجل ذلك طريق الملاحظة والتجربة.

اقرأ أيضاً: الإسلام في الصين: تاريخ طويل من الحضور... هل كان عنوانه الاندماج أم الاضطهاد؟

عندما بدأ غاليليو بالتأكيد على أنّ الأرض في الواقع تدور حول الشمس، وجد نفسه قد طعن في المؤسسة الكنسية، كما تذكر "ويكيبيديا"، ما أدى إلى مثوله أمام محكمة الفاتيكان التي توصلت بعد مناقشات طويلة، إلى اتهامه عام 1632 بالهرطقة، وحكم عليه بالسجن ثم خُفّف الحكم إلى الإقامة الجبرية. وتم منعه من مناقشة تلك الموضوعات، وأعلنت المحكمة بأنّ كتاباته ممنوعة.

بيْد أنه في عام 1741 صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب غاليليو. وفي عهد البابا بيوس السابع عام 1822 أصدر تصريح بطباعة كتاب عن النظام الشمسي لكوبرنيكوس وأنه يمثل الواقع الطبيعي.

ثم توالت التصويبات لسلوك الكنيسة في عام 1939 حينما قام البابا بيوس الثاني عشر بعد أشهر قليلة من رسامته لمنصب البابوية بوصف غاليليو بأنه "أكثر أبطال البحوث شجاعة... لم يخشَ من العقبات والمخاطر ولا حتى من الموت".

اقرأ أيضاً: منظمة العفو الدولية: إسرائيل تفرض نظام اضطهاد وهيمنة على الفلسطينيين

وجاء تتويج الاعتذار لغاليليو بشكل صريح في 31  تشرين الأول (أكتوبر) 1992 عندما قدمت الهيئة العلمية تقريرها إلى البابا يوحنا بولس الثاني، الذي قام على أساسه بإلقاء خطبة قدم فيها اعتذاراً من الفاتيكان على ما جرى لغاليليو. وأعاد الفاتيكان في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992 لغاليليو كرامته براءته رسمياً، وتقرر عمل تمثال له.

هذه الاعتذارات تمثل مراجعة ضرورية لممارسات العقل الأوروبي الذي يود في جانب منه أن يتخفف من أثقال الماضي المرهقة. لكنّ هذه الاعتذارات لا تكتمل وتظل ناقصة أو مرتبطة بحسابات سياسية، كما في في المثال الفرنسي "الماكروني" الراهن.

فرنسا ترفض الاعتذار للجزائر

العام الماضي، قامت فرنسا بخطوات رمزية من دون اعتذار فرنسي عن حرب الجزائر، هذا ما تضمنه التقرير الذي أعده المؤرخ المكلف من الرئاسة الفرنسية بنجامان ستورا حول الاستعمار وحرب الجزائر (1954-1962).

عدم الاعتذار عن فترة الاستعمار أعادت مشاعر الغضب في الداخل الجزائري مرة أخرى تجاه فرنسا، لا سيما بعد أن أفادت الرئاسة الفرنسية الأربعاء 20 كانون الثاني (يناير) 2021 أنها تعتزم القيام بـ"خطوات رمزية" لمعالجة ملف حرب الجزائر، لكنها لن تقدم "اعتذارات".

وذكرت مصادر في الإليزيه أنها "عملية اعتراف"، ولكن "الندم (...) وتقديم اعتذارات غير وارد"، وذلك استنادا إلى رأي أدلى به ستورا الذي ذكر أمثلة اعتذارات قدمتها اليابان إلى كوريا الجنوبية والصين عن الحرب العالمية الثانية ولم تسمح "بمصالحة" هذه الدول.

وبين "الخطوات" التي سيتم القيام بها، نقل رفات المحامية المناهضة للاستعمار جيزيل حليمي، التي توفيت في 28 تموز (يوليو) 2020، إلى البانثيون الذي يضم بقايا أبطال التاريخ الفرنسي، بحسب وكالة "فرانس برس".

اقرأ أيضاً: هجرة العقول هرباً من الاضطهاد السياسي والديني في تركيا

هذا الموقف لم يرُق لجزائريين، إذ يرى العقيد المتقاعد عبد الحميد العربي شريف الخبير الأمني والإستراتيجي الجزائري، أنّ فرنسا لا تريد الاعتذار، لأنها ارتكبت مجازر مروعة، حيث قتل أكثر من خمسة ملايين منذ 1832 إلى 1962، وضمنها مجازر جماعية، كما أبيدت بعض القرى والمدن عن بالكامل.

وأضاف في تصريح نقلته وكالة "سبوتنيك"، أنّ الإرث الاستعماري سيلاحق فرنسا، وأنها تخشى الاعتذار أو الاعتراف به، نظراً لأنها ستكون مطالبة بدفع التعويضات عن هذه الجرائم.

نحو أربعة آلاف كلم قنابل مضادة للأفراد تركتها بعد الاستقلال، ورفضت إعطاء خرائط تواجدها، بحسب الخبير العسكري، الذي يؤكد أنها تسببت في عشرات الآلاف من الضحايا بين قتلى ومبتوري الأطراف حتى اليوم على الحدود الشرقية والغربية.

في غضون ذلك، يشن ساسة من اليمين في إسبانيا حملة ضد الدعوات الموجهة لإسبانيا، للاعتذار عن ماضيها الاستعماري المظلم، معبرين عن ازدرائهم لموقف الرئيس الأمريكي جو بايدن، لناحية اعترافه حديثاً بالفظائع التي ارتكبت بحق السكان الأصليين.

كريستوفر كولومبس يثير الجدل

ووصف قائد الحزب الشعبي المحافظ في إسبانيا، بابلو كاسادو، توسع الاستعمار الاسباني في الأمريكيتين بأنه "أهم حدث في التاريخ، بعد الامبراطورية الرومانية"، عشية احتفال إسبانيا بذكرى اكتشاف كريستوفر كولومبس للعالم الجديد، في 12 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1492، وفق "بي بي سي".

كريستوفر كولومبس

وأضاف في مقطع مصور بثه عبر حسابه منصة تويتر: "هل ينبغي على المملكة الإسبانية أن تعتذر، لأنها قبل 5 قرون اكتشفت العالم الجديد، وتواصلت مع من كانوا هناك، وأسست الجامعات، وحققت الرخاء، وبنت مدناً كاملة؟ لا أعتقد ذلك".

وقال بايدن في خطاب العام الماضي بمناسبة يوم كولومبس، الذي يعدّ عيداً وطنياً في الولايات المتحدة، إنّ وصول المستكشف الإسباني لسواحل الأمريكيتين، أدى إلى "موجة من الدمار" بالنسبة للسكان الأصليين، مطالباً الأمريكيين بعدم "دفن الأجزاء المخزية من ماضينا".

وأصدر بايدن قراراً باعتبار العيد الوطني في 11  تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، يوم ذكرى للسكان الأصليين، بالتوازي مع ذكرى يوم كولومبس.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية