البنوك الإسلامية: فتوى فقهية أم حيل حسابية؟

البنوك الإسلامية: فتوى فقهية أم حيل حسابية؟


07/08/2018

سعيد ناشيد


يصعب على المتتبع أن يعثر على تعريف واضح المعالم لما يسميه البعض بالاقتصاد الإسلامي، علما بأنّ معظم مَن كتبوا في الموضوع ليسوا من أهل الاختصاص والتخصص، في حين أن القلة القليلة من الذين يسمّون أنفسهم بخبراء في “الاقتصاد الإسلامي”، لم يكتبوا سوى بخلفية التسويق المبتذل، بحيث كل فكرة تقبل البيع يجب أن تباع فورا دون أدنى حرج، حتى ولو تعلق الأمر بالخرافات والأوهام، حتى ولو تعلق الأمر بالأدعية أو بصكوك الغفران. هنا يكمن المبدأ المؤسس لما يُصطلح عليه باسم “إسلام السوق”.

في كل الأحوال، بوسعنا أن نستعرض خلاصة ما كُتب في موضوع “البنوك الإسلامية” في تقرير مقتضب، وعلى النحو التالي:

عدا اجترار الكلام عن وجوب الزكاة وتحريم الربا، وترديد حكايات ذات صلة بالموضوع، من قصص الأولين إلى أخبار المتأخرين، فإن نصوص من يصطلحون على أنفسهم باسم خبراء “الاقتصاد الإسلامي”، لا تتضمن أي هدف إجرائي واضح الصياغة، قابل للقياس، وله علاقة مباشرة بإنتاج الثروة. اللهم شطحات من يجرؤون على استعادة مسائل الغنائم والجزية والخراج، وما إلى ذلك من أبواب تندرج ضمن فقه الغزوات، والذي يُفترض أن الزمن عفى عنه، أو أنه انقرض، أو هكذا يفترض.

ولأن العالم القديم محرج بكل المقاييس، يجد البعض مخرجا من الحرج في سياسة الهروب إلى الأمام، وذلك عبر الدعوة إلى أسلمة معطيات العالم الجديد، طالما لا حرج منها، من قبيل الدعوة إلى أسلمة الحداثة، والمطالبة بأسلمة العلوم الإنسانية، وانتظار أسلمة البنوك أيضا، إلخ..

في المغرب على سبيل المثال، منذ بداية عمل حكومة حزب العدالة والتنمية، لم يتورع الحسن الداودي، وهو الذي يقدّم نفسه أحيانا كخبير لما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، عن تبشير المغاربة بقرب قدوم البنوك الإسلامية التي ستنهي بضربة سحرية كل مشاكل الاقتصاد الوطني. وكانت عيونه وقتها على أموال الخليج تحديدا. وهو ما أوحت به أولى خرجاته الإعلامية في الموضوع.

والآن، بعد أن وصلت أولى طلائع “البنوك الإسلامية” إلى أرض المغرب، يحق لنا أن نطرح السؤال: ما الجديد في تجربة “البنوك الإسلامية”؟ بمعنى، ما المنتوج الجديد الذي تقترحه، أو ما الخدمة الجديدة التي توفرها؟

بعيداً عن الحيل الفقهية التي يمكن تأليفها لكل المناسبات وبلا مناسبة، لم تقم البنوك المسماة بـ”الإسلامية” بإلغاء أرباح الفائدة أو التخفيف منها ولو في سبيل الله مثلا بل ضاعفتها في كثير من الأحيان، مع إجراء تعديلات في الشكليات. وتحديداً ستطرأ تعديلات في العمليات الحسابية، بحيث ستزيد البنوك المسماة بالإسلامية من كلفة التمويل بإضافة عنصر “الشرط الجزائي”، وهو مبلغ إضافي يدفعه الزبون كغرامة عن أي تأخير في الأداء. ولمزيد من التوضيح نقول، إن هذا السلوك لهو النسيئة بعينها، والتي سبق أن أجمع الفقه الإسلامي على تحريمها. ولا بأس بالتذكير بأن المقصود بـ”النسيئة” هو الربا الناجم عن تأجيل الدفع بحسب وجهة نظر الفقه الإسلامي نفسه.

يتعلق الأمر كما يبدو بإباحة فقهاء الإسلام السياسي اليوم لربا النسيئة، بصيغ مفضوحة إلى حد إثارة السخرية، وذلك باعتماد الشرط الجزائي قياسا على حكم فقهي آخر، هو التعزير بالمال، والذي أقره بالفعل الكثير من الفقهاء القدماء، على رأسهم ابن تيمية، الذي يقول في إحدى فتاواه “والتعزير بالمال سائغٌ إتلافاً وأخذاً، وهو جارٍ على أصل أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابهُ أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها”.

على نفس المنوال ذهب الباحث مصطفى الزرقا، إلى جواز تعويض الدائن قضائيا عن تأخر المدين في السداد المؤدي للضرر (مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد 2). كما يؤكد الشيخ عبدالله المنيع بأن عقد الالتزام إن تضمن شرطا جزائيا لقاء المماطلة والذي بقدر فوات المنفعة فهو شرط صحيح واجب الوفاء (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 12).

هكذا، وقياسا على التعزيز بالمال الذي أقرّه الفقهاء القدماء، جعل فقهاء الإسلام السياسي اليوم الفائدة المترتبة عن التأخير في أداء أقساط الدين مباحة شرعا بدعوى أنها مجرد نوع من أنواع التعزير بالمال. غير أن التعزيز بالمال في الفقه القديم لم يثبت الكلام عنه في حالة التأخر عن سداد الدين، طالما الجميع كان مدركا بأن الأمر في هذه الحالة سيتعلق بأحد أسوأ أنواع الربا، وهو النسيئة.

بهذا النحو يصبح القياس لعبة بلا ضوابط، مجرد آلية من آليات الخداع المنطقي لدى فقهاء الإسلام السياسي اليوم؛ لأنه يتيح لهم إمكانية أن يبرروا ما لا يمكن تبريره، وأن يجدون لأنفسهم مخرجا، دون أن يجدوا في ذلك حرجا.

لا نجانب الصواب، ولا نتجنى على الوقائع حين نستنتج بأن كل ما تفعله التجارب التي تسمي نفسها بالبنوك الإسلامية هو أنها تختزل الأسلمة في خدمات مصرفية تكلف الزبون المسلم فوائد أكبر من فوائد البنوك التقليدية. وعلى الأرجح سيعطيها هذه المرة بلا شكوى طالما المفعول الديني قد قام بدوره. وقد لا يفطن الزبون إلا بعد فوات الأوان، وقد يرغم نفسه على ألا يفطن، على الأقل حرصا على راحة البال بعد خسارة المال. وفي كل الأحوال، تبقى “الآخرة خير وأبقى”؟


عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية