التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية

التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية


23/12/2020

تكاد النرجسية تقترن بالولع بالذات، والإفراط في الدوران حولها، واستجلاب ثناء الآخرين عليها، حقاً وباطلاً، وتقييمهم وفقاً لفعلهم ذلك أو امتناعهم عن تقدير ما يراه/ يتوهمه النرجسي "مُذهلاً" في شخصيته وسماته وأفكاره ومواقفه وسلوكه وشكله.

اقرأ أيضاً: التربية الجنسية تهيّج الصراع بين الليبراليين والمحافظين في كندا
وثمة من يرى، في مقابل هذه النرجسية، أن هناك "نرجسية جيدة أو صحية" تتمثل في أن المرء، ودونما الاعتقاد أنه محور الأشياء، يشعر بكل بساطة بسعادة غامرة، وفخر وتقدير حيال ذاته وإنجازاته ومهاراته، أو تجاه مظهره وجماله، وعلى وجوه الخصوص في حالة المرأة، من دون الغفلة عن أن ثمة -في مقابل تقدير الذات- قصوراً ونقصاً وضعفاً يعتري هذه الذات الفخورة، ومن دون نُكران فضل الآخرين عليها، وأهمية الوفاء لهم ومحضهم العرفان والامتنان على جميلهم، صغيراً أم كبيراً.

اقرأ أيضاً: التربية على التسامح: مفتاح الحكمة في موسوعة السلم
هذه المسألة تكتسب مزيداً من التعقيد والتشابك إذا ناقشناها في حالة الأطفال والمراهقين وصغار الشابات والشباب. فخبراء التربية وعلم النفس يرون أنّ الطفل النرجسي يعاني ارتباكاً، وربما ضعفاً وخللاً في التعاطف مع الآخرين، وأنّ هذا الشخص يرفض تحمّل المسؤولية بخصوص أفعاله، ولا يظهر أيّ مشاعر ندم عندما يؤذي مشاعر الآخرين.

من لا يُحبّ ذاته يصعب أن يمنح الآخرين سعادة أو حبّاً مستداماً وعميقاً. المهم التمييز بين حبّ الذات والأنانية

إنّ أهمية طرح هذا الموضوع لمزيد من النقاش والسجال إنما تتبدى بسبب اتصاله بالأخلاق، التي هي أحد الأعمدة الرئيسية لأيّ تحضّر وتقدّم. وفي رأيي أنّ روح هذه الأخلاقية وذاك التحضّر يكمنان في تطبيق "لا ضررَ ولا ضِرار"؛ فالنرجسية إضرارٌ بالنفس وإيذاء للآخرين.
ولقد شاع القول إنّ جيل الألفية (من ولِدوا بعد 1980 وصولاً إلى بدايات الـ 2000) تغلب عليه النرجسية. وقد نشرت "بي بي سي" في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي تقريراً أشارت فيه إلى أنّ هناك تزايداً في إقبال أبناء جيل الألفية على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ما أثار جدلاً واسعاً بين علماء النفس، حول أنّ هذا الجيل "مُحب لذاته" (كان الأصح أن يستخدم التقرير تعبير "أنانيّ" كما سنشرح في ختام هذا المقال) ويضع مصلحته الفردية في المقدمة. ويتساءل التقرير عما إذا مهدت وسائل التواصل الاجتماعي - بما تتيحه من فرص للترويج للذات، والانشغال بالذات، إلى جانب المجتمع الذي ربما اهتم بتعزيز الثقة بالنفس أكثر من اهتمامه بتعليم التربية الأخلاقية- لظهور جيل من الشباب أكثر أنانية ونرجسية من الأجيال السابقة؟

اقرأ أيضاً: منهاج التربية الدينية وأثره في المراحل التعليمية الأولى
في العام الماضي، ألقت الخبيرة التربوية العالمية، الدكتورة ميشيل بوربا، محاضرة في العاصمة الإماراتية، أبوظبي، أكدت فيها أنّ شخصية الإنسان هي محصلة للفضائل التي يتحلى بها، وأنّ التربية الأخلاقية هي تدريس هذه الفضائل بهدف تنشئة أناس طيبين، وقد بات هذا النوع من التربية ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى، إذْ ثمة اتجاهات مقلقة تدل على وجود ما يعرف باسم "أزمة الشخصية لدى الشباب العالمي"، والتي تتمثل في تراجع التفكير الأخلاقي والتعاطف والمسؤولية المدنية، وتزايد الغش والمادية والفظاظة والنرجسية وجرائم الكراهية والتعصب والتنمر في المدارس وعبر الإنترنت. وأضافت بوربا أنه وللأسف أصبحت الشهرة والثروة هي الأهداف  الجديدة للشباب في سن المراهقة وليس الصالح العام، ولهذا "يبدو مستقبل أطفالنا والمجتمع المتحضر في خطر"، بحسب ما قالت.

اقرأ أيضاً: هل التفسيرات الدينية مصدر عنف ضد الطفل؟
ميشيل بوربا كشفت، كما نقلت عنها صحيفة "الإمارات اليوم"، عن أنها قضت نحو ثلاثة عقود من حياتها المهنية في إجراء المقابلات مع عشرات الباحثين ومراقبة الفصول الدراسية للتعرف على النموذج الأخلاقي الأمثل لأطفال المدارس، وخلصت إلى أنّ التربية الأخلاقية الفعالة تتألف من ثلاثة مكونات: المعرفة الأخلاقية، والشعور الأخلاقي، والعمل الأخلاقي، وأنّ تحقيق هذه المعادلة كفيل بحل "أزمة الشخصية لدى الشباب العالمي"، وتنشئة مواطنين أخلاقيين يراعون الآخرين، ويسعون إلى تحسين العالم.
وأوضحت بوربا أنّ المعرفة الأخلاقية هي المكون الإدراكي في التربية الأخلاقية، وهي تتطلب العمل الجاد من الجميع، فمع زيادة الدخل والامتيازات، يتراجع التعاطف والهوية الأخلاقية، ما يجعل الأطفال يعتمدون على الأشياء الافتراضية بدلاً من البشر، و"أزمة الشخصية لدى الشباب العالمي" هي أكثر انتشاراً  في المجتمعات الغنية، والعودة إلى التركيز على الفضيلة مرهونة بسؤال واحد، وهو "أي نوع من الناس نريد أن يصبح أطفالنا؟"، حيث إنّ الإجابة عن هذا السؤال تمثل خريطة طريق التربية الأخلاقية التي ستساعد الأطفال على تطوير الجانب المعرفي من الأخلاق، ومن ثم تقبل المعتقدات المجتمعية وتبنيها وتطويرها.

الدكتورة ميشيل بوربا: التربية الأخلاقية الفعالة تتألف من ثلاثة مكونات: المعرفة الأخلاقية، والشعور الأخلاقي، والعمل الأخلاقي

وأفادت أنّ التعاطف والشعور الأخلاقي، وهو المكوّن الثاني في التربية الأخلاقية، انخفض بين المراهقين بنسبة وصلت إلى نحو  40 %، وذلك في غضون الـ 30 سنة الماضية، وفي الوقت نفسه ارتفعت النرجسية بنسبة 58 %، مشيرة إلى أن التركيز على الذات عند الطفل، يحول بين الطفل وبين التعاطف مع الآخرين، ومن واجبنا الأخلاقي تجاه الأطفال أن نعلمهم الاهتمام بالآخرين، وأن نجعلهم يفكرون من منطلق الـ "نحن " وليس الـ "أنا" فقط، والبداية تكون مما تسميه "محو الأمية العاطفية"، حتى يتمكن الأطفال من قراءة العواطف ومواءمة المشاعر، وذلك يتم من خلال استعراض  نماذج بطولية مثل غاندي أو ملالا يوسف زاي أمام الأطفال، وذلك يعمل على بث الإلهام فيهم ويشجعهم على تقليدهم وتجاوزهم. وثبت، في كثير من الأحيان، أنّ مطالعة الروايات الأدبية تهذب النفس، وتسمو بالروح والذوق، وتجعل الأطفال يتخيلون، ويتحضرون، ويشعرون مع الآخرين ويتفهمونهم.

اقرأ أيضاً: الطفل العربي.. يتيم فكرياً
وبينت ميشيل بوربا أنّ العمل الأخلاقي يُعتبر المكوّن السلوكي في التربية الأخلاقية، وهو الغاية المنشودة، فنحن لا نريد للأطفال فهم الفضيلة فحسب، بل العمل بها أيضاً، حيث إنّ التحلي بالأخلاق الرفيعة يأتي بالممارسة والعمل الشاق؛ لأنّ قيم العطاء وإسعاد الآخرين ومساعدتهم، ينبغي أن تكون جزءاً أصيلاً في معمار الذات الناجحة والسوية والسعيدة.
ومن المهم في هذا الصدد أن نؤكد أنّ هذا المقال لا يتقصّد الدعوة إلى عدم حبّ الذات، بل على العكس؛ فمن لا يُحبّ ذاته يصعب أن يمنح الآخرين السعادة أو يعطيهم حبّاً مستداماً وعميقاً، بل المقصود التمييز بين حبّ الذات والأنانية، فالأخيرة تنطوي على أخذ حق الآخرين والانتقاص من نصيبهم المستحق، أي الإضرار بهم، والتقصير في تفهمهم، وهو أمر يشتدّ مع النرجسية السالبة، التي تعني أخلاقاً أقل...وتحضّراً أقلّ، وسلاماً أقلّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية