الثقافة العربية المُشَظّاة.. ابن المقفع وابن هارون نموذجين

الثقافة العربية المُشَظّاة.. ابن المقفع وابن هارون نموذجين


14/06/2020

مما يثقل كاهل أساتذة النقد القديم في الوطن العربي، وخاصة على صعيد نقد النثر في العصر العباسي، أن يجدوا أنفسهم مضطرين لاستهلال عرضهم بالحديث عن عبدالله بن المقفع وسهل بن هارون. وأن يجدوا أنفسهم موزّعين بين أمرين أحلاهما مرّ؛ فإن هم اكتفوا بإيجاز حياة الاثنين شخصت إليهم أعين الطلاب استنكاراً لما يسمعون من سيرة الرجلين، وإن هم اكتفوا بإيجاز نصوصهم شخصت إليهم أعين الطلاب استفهاماً عما استغلق عليهم فهمه ولا يمكن تجليته إلا من خلال السيرة الذاتية لفرسي الرهان في حقل النثر العباسي.

المفارقة الأكبر في سيرة بن هارون تتمثل في شعوبيته الطاغية إلى درجة إقدامه على تحبير رسائل في ذم العرب                                                            

أما ابن المقفع فهو -علاوة على أنّه الرائد الأول للنثر في العصر العباسي ومترجم غرّته المسمّاة (كليلة ودمنة)- أول زنديق في الإسلام حد أنّ الخليفة المهدي قال: "ما نظرت في كتاب من كتب الزندقة إلا وجدت له أصلاً عند ابن المقفع)! ناهيك بما يحيط بقصة إسلامه من علامات استفهام؛ إذ يقال إنّ سيده عيسى ابن علي (عم الخليفة العباسي المنصور) قد سمعه يزمزم زمزمة المجوس في الليلة التي سبقت يوم إقدامه على إشهار إسلامه، فعاتبه لذلك، فقال: كرهت أن أنام ليلتي وأنا على غير دين!

وإذا يممنا أنظارنا صوب مناقب الرجل طالعنا العجب العجاب؛ فهناك إجماع على التزامه سمت الوقار والرصانة وعلى رجاحة عقله وكرمه الشديد! ومع ضرورة التذكير بأنّه قد قتل لأنه أوغر صدر المنصور عليه حينما بالغ في تدبيج عهد الأمان لعمه عيسى بن علي -وفقاً لأشهر وأوثق الروايات- فإنّ ما يعنينا من كل هذه المعطيات، التأشير على حال التشظي في وعي طلاب النثر العباسي؛ إذ كيف يمكن لوجدانهم الطري أن يجمع بين تقبل حقيقة أنّ ابن المقفع هو الحارس الأول لبوابة النثر العربي في العصر العباسي من جهة، وأن يتقبل حقيقة أنّه زنديق كاد للإسلام وأهله من جهة ثانية وأن يتقبل حقيقة أنّه راجح العقل ورزين جواد من جهة ثالثة!

اقرأ أيضاً: هل تفتقر ثقافتنا العربية إلى الخيال العلمي؟                   

لكن كل المفارقات التي حفّت بابن المقفع -شخصاً وأدباً-  تهون إلى جانب المفارقات التي اكتنفت حياة وإبداع الحارس الثاني لبوابة النثر العربي في العصر العباسي؛ وأعني به سهل بن هارون. فالرجل  كان موظفاً رفيع المستوى في الدولة العباسية، كما كان كاتباً وشاعراً لا يشق له غبار. وقد نحت له الجاحظ تمثالاً شامخاً من الثناء على بلاغته وظرفه وذكائه. إنّ المفارقة الأكبر في سيرة ونصوص سهل بن هارون لا تتمثل في بخله الشديد الذي بلغ به حد تحبير رسالة بديعة في ذم الكرم إلى درجة يصعب معها مقارعة حججه وفصاحته .... بل تتمثل في شعوبيته الطاغية إلى درجة إقدامه على تحبير رسائل في ذم العرب! إي والله! وأحسب أنكم تحدسون الآن بأنني سأتساءل معكم بحرقة شديدة: كيف تسنّى لشعوبي فاقع الشعوبية أن يلتحق بدواوين العباسية إبان عهدي الرشيد والمأمون..؛ أي دواوين الدولة الحامية لحمى العرب والعروبة؟ بل كيف تسنى له أن يواصل الصعود في هذه الدواوين بعد أن فاحت رائحة كرهه الشديد للعرب؟

اقرأ أيضاً: ما دلالات إفراد الجمحي طبقة خاصة بالشعراء اليهود في العصر الجاهلي؟

وأما الأدهى والأمرّ من هذا الاختراق السيادي الفادح الذي قد تفسره حقيقة أنّ يحيى البرمكي هو من ألحقه بدواوين الخلافة، فهو يتمثل في استمراء الجاحظ الثناء عليه بلا حساب، رغم أنه - أي الجاحظ - حامل لواء العرب والعروبة بلا منازع من جهة، وهو الخصم الأول للشعوبية والشعوبيين من جهة ثانية؟ فهل نضيف هذه الازدواجية في الرأي والموقف إلى قائمة التشظّي المأساوية في الثقافة العربية... أم نكتفي بافتراض أن الجاحظ اضطر لمداهنة سهل بن هارون نظراً لمكانته في الدولة العباسية وطمعاً ببعض العطاء... والأمران أحلاهما مر؟!

كيف يمكن تقبل حقيقة أنّ ابن المقفع هو الحارس الأول لبوابة النثر العربي بالعصر العباسي وأنه زنديق كاد للإسلام وأهله

قد يقول قائل بعد هذه الإفاضة: وما المستغرب في كل هذه التناقضات؟ أليست كل الثقافات تعج بأمثالها وتعاني منها؟ ويسعدني أن أجيب قائلاً: نعم. كل الثقافات فيها تناقضات، لكن أغلب شعوب هذه الثقافات لا تتنكر لها وتتعامل معها بوصفها جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، إلا الثقافة العربية، أو بعبارة أدق؛ الطريقة التقليدية في عرض وتقديم الثقافة العربية؛ فهذه الطريقة أحادية الأسلوب والمضمون والرؤية، وهي لا تتسع لعرض الشيء ونقيضه أو مقابلة الضد بضده، بل هي تصر على التحديد الصارم الحازم الحاسم؛ فالأبيض أبيض ناصع والأسود أسود فاحم، ولا سبيل للجمع بين الاثنين بنسب متفاوتة، وربما لهذا السبب رسمت صورة ثابتة للأحداث والأشخاص، دون أدنى جهد لإبراز الصراعات الداخلية الظاهرة والباطنة؛ فبدا لنا الحجّاج مثلاً طاغية مطلقاً ولم نبذل جهداً حقيقياً للإطلال على البعد الإنساني في شخصيته، وبدا لنا اجتياح المغول لبغداد غزواً غاشماً مع أنه كان نتيجة متوقعة للرسالة التي بعثها الخليفة العباسي لجنكيز خان محرّضاً إياه على سلطان خوارزم الذي تمرّد عليه! وفي كل الأحوال فإنّ من سيظل يتجرّع مرارة هذا الثبات في الأسلوب والمضمون والرؤية هم غالبية الأساتذة وغالبية الطلاب الذين لا يجدون مناصاً من التسليم بضرورة ملازمة السير لصق الحائط، وأما القلة القليلة من الأساتذة والطلاب الذين تنكر عقولهم هذه الملازمة، فإنّ أمامهم كثيراً من المسير المحفوف بالعقبات والمصاعب والتحديات .



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية