الثورات الكاذبة.. الخميني نموذجاً

الثورات الكاذبة.. الخميني نموذجاً


10/01/2018

كما أن هناك ما يعرف بالحمل الكاذب، فثمة ما يعرف أيضاً بالثورة الكاذبة، وبمثل ما يوقع الأول على المتوهمات من آلام نفسية عميقة، فإن الثاني يوقع ما هو أشد وأبلغ، فالصدمة الكبيرة غير المحتملة أن تكتشف الشعوب الواهمة، بعد سنوات طويلة، أنها حملت على أكتافها ثلة من الأفاقين الذين اختطفوا أحلامهم وجيروها لأطماعهم ومآربهم الدونية، مستخدمين لأجل ذلك كل المبادئ ذات البعد الأخلاقي والديني، وكذلك الشعارات البراقة، لجذب الجماهير وتثبيته في خانتها، كي تنساق مغمضة الأعين بلا وعي لإرادتها، لتبقى فكرة القطيع أو الرعية حقيقة لواقع مر يكرر نفسه ويتوالد بصيرورة دائمة، تجسد علاقة الإنسان المستلب ثقافياً وتعليمياً بمن يحكمه أو يفرض عليه صيغة حكم معينة، يتخذها لنفسه ويحرك بها قطيع العميان بطرق ديماغوجية إلى حياضه السياسية، وساعة يحكم قيادها تنتزع كل الأقنعة وتكشر الوجوه عن أنيابها، مستخدمة لأجل حماية نفسها فوق كراسيها أدوات أكثر صلافة ورعونة.

يجسد هذا المشهد بجلاء تكرسه وقائع وأحداث ما يجري اليوم في إيران، فالشعب الإيراني، الذي انتزع عن كاهله حقبة شاه إيران المريرة، مستعيضاً عنها بحكم الملالي، الذين اقتحموا لجة الثورة المشتعلة، وجيروها لحسابهم، في وقت عميت فيه الأبصار وتبلبلت العقول وتشتت الرؤى. أخذوهم بادئ ذي بدء بعدما آلت إليهم الأمور بالحديد والنار؛ نصبت المشانق وأريقت دماء كل عاقل لم يكن يرى تحت العمائم إلا جحيماً قادماً، راح ضحية ذاك العماء الشعبي نخبة من المثقفين الطامحين إلى إخراج إيران من مأزق الحكم الثيوقراطي الشمولي إلى فضاءات سياسية أرحب محكومة بالعقل والمنطق، الذي يرى المصالح العليا للشعب أولوية لا يتنازل عنها، لأجل بناء دولة ذات سياسة متزنة، تفيد من كل إمكاناتها المادية والبشرية، بعيداً عن النظر إلى ما هو أبعد من كيانها المسؤولة عنه بشكل مباشر، وبعيداً عن توريط هذا الكيان بعلاقات ملتبسة بمطامع توسعية بشعار المذهب، أو بمعنى آخر تسييس المذهب، كما تفعل إيران تحت حكم الملالي. اليوم، بعد انكشاف أكذوبة ثورة الخميني، أي بعد ما يقرب من الـ40 عاماً من معاناة الشعب الإيراني وتجرعهم كل الويلات، تلك التي تبدأ من الفقر وتنتهي بالإعدام لكل معارض حر، بتهم كالردة والحرابة والنفاق، طاولت هذه التهم، في عملية تصفيات منظمة، كل المعارضين في الداخل والخارج، الشعب الإيراني المتطلع كان يبحث في ثورته ضد الشاه عن عدالة تمكنه من العيش بكرامة، باستثمار المقدرات النفطية وغيرها التي تنعم بها الأراضي الإيرانية، ولا تثل إلا لثلة من الناس، البسطاء الذين خدعتهم الشعارات الخمينية، التي كانت تعدهم بمستقبل زاهر ليس للظلم والجور فيه مكان، لم يلتفت هؤلاء المساكين إلى المعنى للمجازر المقدسة التي ارتكبها النظام الخميني لمعارضيه من دون محاكمة، لم يعوا أن المصلحين الحقيقيين كانوا يسوقون بين أيديهم دلائل الصفح والعفو عن كل الناس، وحرق كل الملفات القديمة المليئة بالسواد، ما حدث آنذاك العكس تماما، لقد ساق الخميني وزمرته الويل والثبور للشعب الإيراني، ولكي يحمي كيانه الهش بإحكام شاغل الإيرانيين ردحاً من الزمن، أولاً بالعداء لأميركا والدول الأوروبية التي مكنته من الوصول إلى سدة الحكم، مقحماً إياهم في شعارات غوغائية صنعت لهم وهم القوة، ومن ثم اشتغل هذا النظام على بناء مفاعله النووي، الذي حارب لأجله واستعدى الدول العظمى، ليتفيأ الإيرانيون ظلال الجوع والفقر، عبر معاناة طويلة من الحصار الغربي.

ظن هذا النظام الفاشي أنه، بتوريط إيران بحروب خارجية، سيصنع له مجداً من نوع ما، وستمكنه لاحقاً من فرض وجوده بالقوة على الأراضي العربية، التي لا تنتمي إلى إيران شكلاً ولا مضموناً، واقعاً وتاريخاً، لم يع الملالي أن قياساتهم وخططهم لم تكن سوى أوهام، وأن الشعب الذي جرب الثورة مرة سيخوضها مرات، وإنما لكل شيء حدو، حتى الصبر، فلم يعد الخوف مساكناً قلوب الإيرانيين الذين باتوا سنوات طويلة صابرين على تجاوزات هذا النظام الأفاق، وهم يرون ثروات بلادهم تنثر بلا حساب على قضايا هامشية لا تعني الإيرانيين، لقد عبرت عنها جلياً شعارات الثورة الأخيرة بجلاء وكان «كل الصيد في جوف الفرا»، لقد رفعت الأصوات مجلجلة تندد بالجمهورية الإسلامية الزائفة التي اتخذت الإسلام ذريعة لقمع الناس وتجويعهم، فحق لهذا النظام الأرعن الموت، لقد رفعت شعارات التنديد بتدخلات النظام الإيراني الفاشي في لبنان والعراق واليمن.

لقد وعى الإيرانيون، بعد فوات الأوان، أنهم كانوا تحت حكم الشاه، على ما كانوا يعانونه، في حال أفضل. هذا الشعار الأخير يعيد إلينا صوراً مكررة للثورات العربية التي كان لملالي طهران إسهام مباشر في صياغتها، حتى دمرت المدن والحواضر وسوتها بالأرض، وأزهقت أرواح آلاف الأبرياء العزل، كما سحقت معها كثيراً من الأخلاق والقيم، وأصبح قوام الإنسان داخلها هشاً غير ذي اعتبار حقيقي.

لماذا؟ ليس لأن الثورات بصياغتها الأخيرة المدمرة قوامة كاملة على المشهد، بل لأن الإنسان مع شديد الأسف أصبح مستلباً، تحركه أطماعه الدونية، لا ينظر إلى أبعد من شراك نعليه، فإن أعطي رضي وإن منع سخط، بعيداً عن العقل وإمعان التفكير قبل اقتحامه لجة ممانعة من نوع ما، وقبل أن يسلم ذقنه لمتآمر يعزف على وتر آنيٍّ حساس، منها الحاجات الاستهلاكية التي مع شديد الأسف أصبحت المقوم الأساسي والمعيار الوحيد لقيمة الإنسان، بعيداً عن مقومات الإنسان الوجودية الأخرى، والتي من أهمها الأمن والاستقرار، الضامنان الحقيقيان لبقاء الروح والعقل قيد الوجود، وبهما يستطيع معرفة قيمة الحياة الحقيقية التي يجب أن تبدأ من معيار حقيقي لها، وهو قيمة الجمال للحياة، وبشاعة الفوضى والحرب المدمرة له، فقط لو وعينا تماماً أن ثمة من يعمل حثيثاً لإثارة الفوضى بيننا، كي يسحب البساط من تحت أقدامنا ويتركنا في مهب ريح تحولات عاتية، بمثل ما ندم الإيرانيون أشد الندم على زمن الشاه، والعراقيون على زمن صدام حسين، والليبيون على زمن القذافي، ومع ذلك لن يندم الإيرانيون البتة على نظام الملالي الفاسد فيما لو اقتلعوه، لأنه في محصلة أكيدة سيجلب لهم الحرب لا محالة، إن تركوه يتنعم بسلطانهم المطلق ويتشفى بتعذيب شعبهم الأعزل.

محمد المزيني-عن"الحياة"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية