"الجامية"... خطاب المناكفة والأحادية الدينية!

"الجامية"... خطاب المناكفة والأحادية الدينية!


17/10/2021

حسن المصطفى

"هل الجامية جزء من الصحوة؟"، سؤال يستحق نقاشاً مستفيضاً، طرحه الباحث السعودي فهد الشقيران، في مقالٍ نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، 14 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، رأى فيه أن "الجامية جزء من الصحوة، باعتبارها الوجه المشارك في السجال، فمشكلتهم مع الصحوة ليست في رجعيتها فقط، وإنما في تهاونها في بعض أحكام الشريعة".

و"الجامية" لمن لا يعرفها هي تيار ضمن "السلفية التقليدية"، على عداء مع تيارات "الإسلام السياسي"، ولذا، تسعى لأن تقدم نفسها بديلاً عن "الإسلام الحركي"، كونها تدعي السمع والطاعة لـ"الحاكم"، بوصفه "ولي الأمر".

"الجاميون" نقادٌ شرسون أيضاً للتيارات الليبرالية والعلمانية، ويحترفون الدخول في مناكفات دائمة معها، أي أنهم لا يضعون معياراً محدداً للعلاقة مع التيارات المختلفة وموقفهم منها، وإنما مروحة مشاكساتهم واسعة، تتضمن المناوئين للأنظمة السياسية الحاكمة في الخليج العربي والموالين لها!

التيار "الجامي" سعى لأن يستفيد من مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، بأن يحاول ملء الفراغ الذي أحدثه تقلص مساحة نفوذ الإسلامويين في بعض الدول، وأن يتقرب لمراكز القرار كمنافح عن "الأنظمة" ومحاججٍ لـ"الإخوان المسلمين" وخصمٍ لـ"السروريين".

إلا أن الإشكالية تكمن في أن النقد العنيف والعلني من "الجامية" لـ"الإخوان المسلمين" هو في حقيقته صراع بين "الأخوة – الأعداء"، أي منافسة على النفوذ والغلبة والتمكن من الخطاب الديني والإمساك بمقاليده، لأن الأرضية الأصولية التي ينطلقون منها واحدة، تتقاطع في كثير من مفاصلها، وتشترك في نبذ الآخر، وإقصاء المخالف، والتكفير، والتحريض على التيارات العلمانية وعلى المذاهب الإسلامية الأخرى. الفرق الوحيد أن "الجامية" لا تستخدم السلاح، ولا تخرج على "الحاكم"، إلا أنها بمواقفها المتشددة، وتكفيرها لبعض أهل القبلة، تضربُ السلم الأهلي، وتهيئ النشء ليتحول تالياً من مجرد أفراد أصحاب خطاب لفظيٍ عنيف، إلى ممارسين للعنف على أرض الواقع، ومهيئين لأن يكونوا طرائد سهلة لـ"القاعدة" و"داعش".

"الجامية" فقيرة علمياً ومنهجياً، فهي لا تمتلك أدوات المحاججة المدنية الحديثة، القائمة على نقد "الأخوان" بوصفهم جماعة خارجة على القانون أو محرضة على العنف أو منتهكة لحقوق الإنسان أو مهددة للسلم الاجتماعي أو متورطة في الإرهاب؛ وإنما تمارس سجالها مع "الإخوان المسلمين" ضمن دائرة الصراع الديني – التياري، بمفاهيم عتيقة، لا يمكنها أن تقدم بديلاً عن الأطروحات المخاتلة للإسلامويين، وأكثر ما تقوم به هو الجلوس في الفراغ الذي أحدثه غياب "أقطاب الصحوة"، وهو غيابٌ لا يمكن أن يكون مُطمئناً، لأن "الصحوة ذاتها لم تنتهِ، وإنما لاذت بجيوب السوشيل ميديا، ولجأت إلى الكمُون، وهربت إلى الكهوف، فالحركة الإسلامية باقية ما بقي المسلمون"، كما أشار الباحث فهد الشقيران. حيث أن الفكر المتشدد لا يمكن القضاء عليه بشكل تام، لأنه متعلق بالمفاهيم والتصورات الإيمانية المؤدلجة، أي الأفهام والعقول، ولذا مجابهته تكون عبر ترسيخ "سيادة القانون"، واجتراح خطاب حديث مدني يؤمن بالتعددية واحترام الآخر، ويُجرم دعوات العنصرية والمذهبية والعنف الديني.

التغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي تحديداً، لا يمكن لـ"الجامية" أن يكونوا فيها فاعلين إيجابيين. هم إذا أراد الباحث توصيفهم سيكونون ضمن خانة التيار الإسلاموي الواسع؛ أي ذلك الطيف العريض من أصحاب الأفكار الدينية المتشددة، التي وإن تباينت في+ما بينها، إلا أن نواتها الإقصائية الصلبة واحدة، وخواتيم أعمالها لا تقود إلى مجتمع حرٍ متقدمٍ وحديث.

العالم الإسلامي اليوم يحتاج إلى التخفف من سطوة رجال الدين، والفصل بين الدين والسياسة، وعدم الزج بالدين في الصراعات الحزبية والمذهبية، ولذا، ليس منطقياً التعويل على تيار ماضوي والقول بقدرته على تحصين المجتمع من الإرهاب، فقط لأنه على عداء مع "الإخوان المسلمين".

إن ما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على مواجهة الأزمات والأفكار الدموية، هو وجود دولة وطنية حديثة، قوية، مدنية، أساسها "المواطنة الشاملة" و"سيادة القانون العادل"، ويكون فيها المجتمع الأهلي متفاعلاً  ومتكاملاً مع مؤسسات الدولة.

أحد مهام هذه الدولة الوطنية "تنظيم المجال العام"، بما يساعد على وجود حواراتٍ علمية، تقود إلى بناء خطابات ومسارات دينية متعددة غير عنيفة، تقوم على رحمانية وروحانية الأديان، وحق الإنسان الكامل في الاختيار دون أي إكراهات.

هنالك مبادرات أساسية، مثل "وثيقة مكة"، و"إعلان مراكش"، و"وثيقة حلف الفضول الجديد"، وهي مشاريع ذات طابع إنساني متجاوز لخصومات الأديان وتاريخ الصراعات الدموية، دون أن تقفز عليه أو تتجاهله، لكنها تسعى لمعالجته والعمل على وضع أطر فكرية وقانونية وأخلاقية تكون بمثابة المبادئ العامة.

إطلاق ورشة واسعة للسؤال الديني الكوني، للتأمل في السرديات التاريخية دون تبجيل أو صنمية، ودون تهديد بالتكفير، وبناء نخب جديدة ذات خطاب إسلامي – إنساني يُعلي من شأن العقل، هو ما يمكن أن يقود لملء الفراغ الذي أحدثته عملية الحرب على التيارات والتنظيمات الأصولية والإرهابية، أما التعويل على "الجامية" وسواها من التيارات الرجعية - التي من حقها أن تعبر عن رأيها بحرية تامة وتحت سقف القانون - هذا التعويل لن تكون له أي نتائج إيجابية، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه. فنظرة سريعة فاحصة على أفكار دعاة "الجامية" في المنصات الاجتماعية، كفيلة بأن تُبين ما في خابيتهم، إن كانَ تبراً أم تُراب!

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية