الجرهاء.. قصة أقدم مركز تجاري على ساحل الخليج العربي

الجرهاء.. قصة أقدم مركز تجاري على ساحل الخليج العربي

الجرهاء.. قصة أقدم مركز تجاري على ساحل الخليج العربي


02/03/2024

الجرهاء، أو جرها، أو جره، أسماء لمدينة مندثرة، ظهرت في القرن السابع قبل الميلاد، وازدهرت منذ القرن الثالث قبل الميلاد، واستمر حضورها حتى القرن الثالث الميلادي. اشتهرت بشدة ثرائها، وكانت مركزاً للتجارة في العالم القديم، التقت فيها البضائع القادمة والذاهبة إلى بلاد الإغريق والرومان، وممالك اليمن، والهند. شغلت الجرهاء المؤرخين الإغريق الذين خصصوا جزءاً أساسياً من كتاباتهم عن جزيرة العرب لوصفها ووصف مدى ثرائها. أما المؤرخون وعلماء الآثار المعاصرون، فقد حيّرتهم بسبب كونها مدينة مندثرة لا زال من المتعثر القطع في موقعها.

الموقع.. حيرة وترجيحات

كانت الجرهاء تقع على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وبالتحديد في نقطة التقاء طرق القوافل التجارية القديمة، القادمة  من بلاد الرافدين شمالاً والمنطلقة إلى وادي الدواسر ثم إلى قرية الفاو ونجران وبلاد اليمن جنوباً.

ذكر المسعوديّ أن مهاجرين كلدانيين من أهل بابل هم من أسّس مدينة الجرهاء

وقد تفاوتت تخمينات وتقديرات علماء الآثار المعاصرين حول تحديد موقع مدينة الجرهاء القديمة، ولكنها تركزت جميعها حول منطقة الساحل الشرقي في المملكة العربية السعودية، وبالتحديد في المنطقة المقابلة لمملكة البحرين.

غلاف كتاب الباحث الجنبي عن مدينة الجرهاء

بالاستناد إلى كتابات المؤرخين الإغريق، ومقارنة ما وصفته مع المعالم الجغرافية في منطقة الأحساء، بما في ذلك ما اندثر من معالم الواحات والينابيع، وبالاستناد إلى ما أورده المؤرخون وبالتحديد فيما يتعلق بوقوع مدينة الجرهاء قرب نهر باسم نهر "جره"، يذهب الباحث السعودي، عبد الخالق الجنبي، في كتابه "جِره؛ مدينة التجارة العالميّة القديمة"، إلى تحديد موقع الجرهاء أنه يقع في السفح الشمال الغربي لجبل القارة، الذي يقع اليوم إلى الشرق من مدينة الهفوف المعاصرة. ويشير الجنبي إلى أنّ بقايا آثارها لا زالت تشاهد حتى الآن وتحديداً في المكان المعروف  الآن باسم "الكوارج". ووفق هذا الافتراض فإنّ السفن كانت تنتقل من الجرهاء إلى البحر عبر النهر.

اقرأ أيضاً: الفاو: عاصمة مملكة كندة الأولى.. وفصول من حكاية التحضر العربي قبل الإسلام

في حين ذهب المستشرق النمساوي ألويس شبرنجر (1813-1893م)، إلي أنّ مدينة الجرهاء القديمة كانت تقع في موضع "الجرعاء" في مدينة الأحساء، وبالتالي كانت في منطقة داخليّة، وأن ميناءها على الخليج كان في ذات موقع ميناء العقير التاريخي الشهير، وهو في ترجيحه هذا كان مستنداً إلى التشابه في اللفظ بين الموضع والمدينة التاريخيّة. وذهب فريق آخر من الآثاريين، كأستاذ علم الآثار الأمريكي، دانيال بوتس، إلى احتمالية أن يكون موقع الجرهاء هو ذاته موقع مدينة "ثاج" الأثريّة،  وأن يكون ميناؤها على الخليج هو في موقع مدينة الجبيل الصناعيّة الحالية.

جبل القارة.. أحد المواقع المحتملة لمدينة الجرهاء المندثرة

التأسيس.. على يد وافدين من أرض بابل

وفقاً بما يذكره المؤرخ والجغرافي الإغريقي سترابون (64 ق.م - 24م)، في كتابه الأشهر "الجغرافيا"، فإنّ "الجرهاء مدينة تقع على خليج عميق، سكنها الكلدانيون". والكلدانيون هم قوم من بلاد ما بين النهرين أسسوا الإمبراطورية البابلية الحديثة والتي استمرت في الفترة ما بين منتصف القرن السابع والقرن السادس قبل الميلاد. ويورد عدد من المؤرخين الإغريق والرومان ذات المعلومة، وكذلك عند المؤرخين العرب، يذكر المؤرخ المسعودي في كتابه "مروج الذهب" أنّ "الجرهاء مدينة أسسها مهاجرون كلدانيون من أهل بابل". وبحسب هذه الرواية فإنّ قوماً من الكلدانيين انتقلوا من أرض بابل جنوباً، على امتداد الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربيّة حتى استقروا في موضع الجرهاء. ولا يعرف سبب انتقالهم هذا، إلا أنّ بعض الروايات تورد بأنهم كانوا منفيين من أرض بابل. وقد كان أهل بلاد ما بين النهرين على اتصال دائم بمناطق شرق شبه الجزيرة، وبالتحديد خلال أزمنة ازدهار "حضارة دلمون" هناك، منذ فترات الألف الثانية قبل الميلاد. وعلى أيّة حال، فقد اختلط كلدانيو الجرهاء بمحيطهم من العرب وامتزجوا معهم.

في مواجهة السلوقيين

بدأت مدينة الجرهاء تزدهر على نحو لافت وبدأ تعداد سكانها وثراؤها يزداد خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وهي ذات الفترة التي عرفت تحولات سياسية كبرى على مستوى منطقة الشرق الأدنى تمثلت في قيام إمبراطورية الإسكندر المقدوني ومن ثم انهيارها وقيام إمبراطوريات خلفتها، كان منها الإمبراطورية السلوقيّة، والتي ورثت حكم الأجزاء الشرقيّة من إمبراطورية الإسكندر بما فيها مناطق ما بين النهرين.

طرق التجارة القديمة في شبه الجزيرة العربية.. ويظهر موقع مدينة "ثاج" أحد المواقع المحتملة للجرهاء

وخلال عهد الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث (222 ق.م - 187 ق.م)، وبعدما قرر توسيع ملكه جنوباً، جاءت محاولة السلوقيين للاستيلاء على الجرهاء، وذلك بعدما بلغت من الثروة ما بلغت وبدأت تشتهر بكونها  المدينة التي تكتنز الذهب والفضة واللؤلؤ. فجهزوا أسطولاً كبيراً عام 205 ق.م، بقصد الإبحار لها والاستيلاء عليها.

وصف المؤرخ الإغريقي سترابون سكان الجرهاء بأنهم أغنى العرب

ويقصّ المؤرخ الإغريقي بوليبيوس (200-118 ق.م) حكاية وصول أنطيوخوس إلى المدينة، ومن ثم حصوله على جزية باهظة من المعادن النفيسة، مقابل الكفّ عن الاعتداء على المدينة. ويورد بوليبيوس بأنّ الجرهائيين "توسلوا إلى الملك ألّا يحرمهم من النعم التي منحتهم إياها الآلهة وهي السلام الدائم والحرية". وبعد ذلك أبحر أنطيوخوس إلى جزيرة "تايلوس" (جزيرة البحرين اليوم) ومنها غادر عائداً إلى بابل. وبذلك باتت الجرهاء تدفع إتاوة سنويّة للسلوقيين مقابل الحفاظ على أمنها وسلامتها.

أغنى العرب

يذكر المؤرخ سترابون عن الجرهائيين بأنه "بسبب تجارتهم أصبح السبئيين والجرهائيين أغناهم جميعهم (يقصد سكان الجزيرة العربية)". ويصفهم بأنهم "يقتنون الرياش الفاخرة، ويمتلكون آنية الذهب والفضة، والأحجار الكريمة". وينقل المؤرخ الإغريقي، ديودور الصقليّ (90-30 ق.م)، عن المؤرخ "أجاثار خيديس" والذي وضع كتاباً خاصاً عن جزيرة العرب والخليج العربي: "اتضح مما تركه السبئيون والجرهائيون أنهم كانوا من أغنى الولايات جميعاً، فقد كانت لديهم معدّات وأدوات كثيرة من الذهب والفضة والأسرّة والأوعية، فضلاً عن أواني الشرب، والمنازل الباهظة التكاليف، والمطاعم أبوابها وأسقفها بالعاج والذهب والفضة".

صورة تخيّليّة حديثة للملك السلوقيّ أنطيوخوس الثالث في زيّه الحربيّ

مركز تجاري هامّ.. على مستوى العالم القديم

جاء ثراء الجرهاء بسبب كونها مركزاً تجاريّاً وسوقاً مهماً على مستوى شبه الجزيرة العربية، وضمن شبكة خطوط التجارة في العالم القديم. وقد وصف أجاثار خيديس، المؤرخ الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، الجرهائيين أنهم "كانوا وكلاء عن كل شيء يقع تحت اسم النقل بين آسيا واليونان". ووفقاً لما يورده المؤرخ بوليبيوس، كانت الجرهاء نقطة التقاء القوافل القادمة من الممالك اليمنيّة في جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن الحجاز، ومن ثم المنطلقة باتجاه كلّ من سوريا والعراق ومصر. كما يذكر أن الجرهاء كانت من أهم موانئ التجارة البحريّة؛ فكانت تستقبل السفن العائدة من الهند، وتعيد تصدير حمولتها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية، ومن ثم تصل حتى موانئ البحر المتوسط، ومنها إلى المدن اليونانية.

كانت الجرهاء مركزاً تجاريّاً مهماً على مستوى شبه الجزيرة العربية، وضمن شبكة التجارة في العالم القديم

وعن طرق النقل، يذكر سترابون أن "الجرهائيين ينقلون الكثير من بضائعهم بالقوارب إلى بابل، ومن هناك يصعدون بها الفرات إلى ثابساكوس (مدينة دير الزور اليوم) حيث يحملونها براً إلى كافة الأرجاء". ويذكر أجاثار خيديس أنّ الجرهائيين كانوا يذهبون بتجارتهم من طيوب شبه الجزيرة العربية وبخورها إلى البتراء وفلسطين.

برديّة من برديات "البطالمة" في مصر.. تذكر البخور المستورد من الجرهاء (المربع الاخضر)

قام ازدهار وثراء الجرهاء على أداء دور الوساطة التجاريّة، وبحيث كانت مركزاً عالميّاً لحركة التجارة البريّة والبحريّة. ومنها كانت البضائع القادمة من الهند تفرّغ ويعاد شحنها وإرسالها مع البضائع القادمة من اليمن إلى بلاد الرافدين وسوريا ومصر ومدن آسيا الصغرى واليونان. وبذلك كانت مركزاً حضارياً من أهم مراكز الثروة والتحضّر العربي في مرحلة التحضر العربيّ السابق لظهور الإسلام.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية