الحداثيون والتراثيون.. هل الجميع بريء من مشكلاتنا؟

الحداثيون والتراثيون.. هل الجميع بريء من مشكلاتنا؟


19/02/2020

من ضمن ما قاله شيخ الأزهر أحمد الطيب في حواره مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت، في ختام مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي في 28 كانون الثاني (يناير) الماضي، أنّ جامعاتنا بكل ما فيها لم يسهم منتجها في صناعة إطار سيارة، وأن ترامب وإسرائيل يأخذون القرارات فيما يتعلق بنا مع غياب القيادات العربية، كاشفاً عن إخفاق السلطة الزمنية.

اقرأ أيضاً: هل عارض الفقهاء اختطاف السياسة للدين؟
ثم قال إنّ التراث الذي تتكلمون عنه هو الذي جعل المسلمين يضعون قدماً في الأندلس والأخرى في الصين، بما يعني أنّه يقول للسلطة الزمنية انشغلوا بإخفاقاتكم، فليس التراث هو المشكلة، والسؤال: هل حققت المؤسسة الدينية - الأزهر والأوقاف - نجاحاً في أداء رسالتها الروحية؟ وما مدى مسؤولية التراث عن تدهور أو انحطاط حضور الإسلام حضارياً في العالم؟ وما هي مسؤولية التراث عن العنف وبعض مشكلاتنا الراهنة؟

مَن يمارس العنف باسم الإسلام يكون بناء على اعتقاده بأن ما يقوم به مطلق اليقين والصواب

إذا كان فضيلة الإمام قد تحدث عن إخفاق السلطة الزمنية، فهل قام الإمام بدور فعّال كصاحب سلطة روحية على مدار أكثر من عشرة أعوام؟ الواقع أنّه قد اعترف بإخفاقه حين كان رئيساً لجامعة الأزهر في إحداث تغيير حقيقي بالجامعة، كما وضح للعيان إخفاقه أيضاً وهو على رأس المؤسسة الدينية في عدم تطوير مستوى الدعوة الدينية، ومستوى الخطاب الموجّه لجمهور الشعب المصري، فحين نبحث عن أسباب بعض الظواهر الاجتماعية الجديدة في المجتمع المصري مثل ظاهرة الإلحاد، وانتحار بعض الشباب، وانتشار العنف في الحياة اليومية للمجتمع المصري، واستشهاد أبنائنا من الجيش والشرطة على حدود البلاد علي يد الجماعات الإرهابية، فإننا نشير إلى أنّ أحد أسبابها إخفاق المؤسسة الدينية عن أداء دورها كواحد من جملة الأسباب التي تقف خلف هذه الظواهر، فالكل في الإخفاق سواء ولا ينبغي أن نتنصل من المسؤولية التاريخية.
  وأما ما ورد من كلامه بأنّ التراث هو الذي جعل المسلمين يضعون قدماً في الأندلس وأخرى في الصين، فهذا كلام يحتاج إلى مراجعة؛ لأنّ ذلك يعود إلى الإسلام -كدين وفكرة وقيمة- في بكورته الأولى، وما كان له من مقدرة على الحشد هو الذي فعل هذا في القرنين؛ الأول والثاني الهجريين، وأسهم التجار والصوفية المسلمون في نشر الإسلام في أقصى شرق آسيا وأواسط إفريقيا عبر الفكرة الدينية الحاملة لقيم التسامح والعدل.

اقرأ أيضاً: التراث كان يحكم حتى الحملة الفرنسية.. فما الذي حدث؟
ومن جانب آخر فإنّ الفتح الإسلامي -في جانب منه- كان نتاجاً لضعف الدولة الرومانية الشرقية، والدولة الفارسية، وأنّ الدولة الإسلامية حينما تعرضت للضعف غزاها الصليبيون والتتار، وذبح المسلمون وطردوا من الأندلس، وحين عاودها الضعف في العصر العثماني عجزت عن فتح أسوار فيينا واقتطع الأوروبيون أجزاء منها، ومع مزيد من الضعف استطاعت إنجلترا وفرنسا تقاسم أراضيها في الحقبة الإمبريالية الحديثة، ولم يمنعهم لا الدين ولا التراث عن هزيمة المسلمين، ومن ثم فإنّ الحضارة الإسلامية بدولتها ونظم حكمها قد حكمتها دورات الحضارة من النمو والازدهار والانهيار شأنها شأن كل الحضارات في العالم كما قرر ذلك ابن خلدون في "مقدمته".

كل فصيل من حركات الإسلام السياسي التي اختطفت الإسلام يحاول أن يخصخص الدين لصالحه وفقاً لرؤيته

وأما تراث المسلمين الكتابي المدون -الذي تحدث عنه الإمام الطيب- فلم يبدأ تدوينه إلا في نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين؛ أي بعد ترسيم معظم أرجاء الخلافة الإسلامية، كانت تشكلات التراث وفقاً لتطور حركة الاجتماع الإسلامي الزمنية، صعوداً وهبوطاً، تسامحاً وتشدداً، فتخلق المذهب الحنبلي وفقاً للخلاف بين أحمد بن حنبل والمعتزلة إبان عصر المأمون والمعتصم والمتوكل، وتخلق تراث ابن تيمية في سياق تدهور وانحطاط العالم الإسلامي إبان الغزوين على العالم الإسلامي فحمل مذهبه الكثير من التشدد، والسعي إلى تعزيز تراث استعلاء الجماعة المسلمة على بقية أهل الكتاب، وأصّل علم العقائد -في مرحلة التدهور- لميراث الصراع والإقصاء والتكفير المتبادل بين المذاهب الإسلامية، فترك هذا ميراثاً من الكراهية والاستبعاد بين المسلمين بعضهم بعضاً، وبين المسلمين وأهل الكتاب؛ حيث رسخ تراث فقه أهل الذمة لتمايز واستعلاء الجماعة المسلمة على أصحاب الأديان الكتابية، وكل ذلك تم تخلقه وفقاً لتطور حركة الاجتماع في التاريخ، بما يعني تاريخية هذا التراث الذي هو في مجمله إنتاج بشري للعقل المسلم في التاريخ.

اقرأ أيضاً: حوار الطيب والخشت.. أي إصلاح ديني نريد؟
وحين نتحدث عن تجليات العنف الذي يحدث في العالم باسم الإسلام الآن، ونقول هل ثمة مسؤولية تاريخية لهذا التراث عما يدور من عنف وكراهية للآخر؟ الإجابة نعم، وذلك لأنّ مَن يمارس العنف باسم الإسلام يكون بناء على اعتقاد لديه بأنّ ما يقوم به مطلق اليقين والصواب، وأنّ الجنة في انتظاره، وهم يستندون إلى تراث فقهي وديني قديم رسخ له الإمام أحمد بن تيمية وغيره.
وحين ننظر لممارسات حركات الإسلام السياسي التي اختطفت الإسلام نرى أنّ كل فصيل يحاول أن يخصخص الدين لصالحه وفقاً لرؤيته هو، فالجميع يفعل ذلك استناداً لتفسيرات تراثية قد انتقاها لخدمة توجهه سواء كان توجهاً دعوياً أو عنيفاً، وما الأحداث الطائفية، واستهداف الكنائس في مصر بين فترة وأخرى إلا نتاج الإيمان بفقه أهل الذمة الذي رسخ لاستعلاء المسلم على الكتابي، والنظر إلى الآخر المغاير لي في الدين على أنّه كافر وضال، وما أحداث القتل وسفك دماء المسلمين – من قتل المصلين في العريش إبان صلاة الجمعة، وقتل أبنائنا من الشرطة والجيش في مشهد مستمر- إلا نتاج حركات منحت نفسها التمايز على المجتمع الذي وصمته بالجاهلية والكفر، ويسعون في تغييره بكل الوسائل التي يملكونها، وذلك باستدعاء الموروثات القديمة – التاريخية – ليكون لها حاكمية على الحاضر بكل تطوراته، فالأزمة في اتخاذ الخلف من تراث السلف الذرائع والمبررات لممارستهم الحاضرة، وتجاهلهم أنّ الزمن قد تغير، وبأنّ الأمة المسلمة التي كانت منتصرة أصبحت الآن مهزومة ومنكسرة ومفككة، ونحن بحاجة إلى قراءة جديدة بفكر ديني جديد وفقاً لظروفنا الحالية.

نحن في حاجة ماسّة إلى مزيد من الحوار بين الأصوليين والحداثيين حول مسألة التجديد

وإذا كنا نؤمن أنّ التراث ابن زمنه وتاريخه ومجتمعه، فإنّ الأزمة الآن ليست في التراث بحد ذاته بل في استقالة العقل لدى علماء عجزوا عن الاجتهاد في الفكر الديني في زمانهم الحاضر بكل تعقيداته وتشابكاته وظروفه المستجدة ومخاطره المستمرة، فإذا بهم يتجهون إلى الاعتصام بالتراث القديم لمواجهة واقعهم المهزوم، معتقدين أنّ التمسك بالتراث والتاريخ المجيد هو سبيلهم القويم للنجاة من ذلك الواقع المهزوم، فإذا بنا نكتشف أنّ الواقع يزداد انهزاماً وتفككاً كل يوم.
إنّ الحوار بين الإمام الطيب والدكتور الخشت هو مواجهة بين تيارين، تيار يرى أنّ التجديد لا بد أن ينطلق من الأصول التقليدية القديمة؛ لأنها الأعمدة الثابتة، وهو تيار الشيخ، وتيار آخر يرى أنّ التجديد لا بد أن يأتي من الخارج باستخدام أدوات العصر من علوم إنسانية وفلسفة، وهو تيار الدكتور الخشت.

اقرأ أيضاً: هل الحاجة ملحّة إلى تجديد العلوم الإسلامية؟
والتيار الأول يخشى أن يكون التجديد طريقاً لتبديد الأصول والتفريط فيها فلذلك يعض عليها بالنواجذ، في حين أنّ التيار الثاني يرى أنّ الأصول في علوم الدين في حاجة إلى نظرة عصرية جديدة، والتيار الأول يتهم الثاني بأنّه يريد أن يفكك حضور الدين في المجتمع، ويحصر سيطرتهم على المجال العام الاجتماعي، والتيار الثاني يتهم الأول بأنّ نظرته مهما اجتهدت فهي جامدة؛ لأنها لا تراعي تطور حركة التاريخ والمجتمع، وفي ظل هذه النظرة المتبادلة من الشك والريبة لا ينظر أي من الطرفين إلى ما في موقف الآخر من إيجابية؛ لأنّ كلاً منهما يدين الثاني ويغمض عينيه عما في موقف الآخر من إيجابيات.

اقرأ أيضاً: هل نتنصّل من مسؤوليتنا باسم القضاء والقدر؟‎
ومن ثم فإننا في حاجة ماسة إلى مزيد من الحوار بين الأصوليين والحداثيين حول مسألة التجديد، حوار يكون هدفه مصلحة الوطن والمجتمع، فنحن جميعاً نقطن في سفينة الوطن التي حين يصيبها العطب فالكل مهدد بلا استثناء، وليس فصيلاً واحداً، فهل ثمة آذان صاغية لأهمية الاستمرار على مائدة حوار واحدة؟
أتمنى أنّ ينصت الجميع لمصلحة الوطن، وضرورة رعاية مصالح العباد التي هي هدف أساسي للإسلام كدين، وبدون ذلك وفي ظل المخاطر التي تحيط بمصر من جهاتها الأربع، وفي ظل ضعف تماسك البناء الاجتماعي لها فإنّ سفينة الوطن قد تتعرض للانهيار والتفكك، فهل لنا من سبيل إلى المحافظة على ما تبقى لنا منها، وذلك بالحفاظ على تماسك البنيان الاجتماعي الداخلي لكي نملك القوة في مواجهة المخاطر الخارجية التي تحيط بنا من كل الجهات من مشاكل المياه ومواجهة حركات العنف والمطامع الخارجية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية