الخرافة الدينية والآخر في التصور الشعبي.. جهل أم عنف؟

الخرافة الدينية والآخر في التصور الشعبي.. جهل أم عنف؟

الخرافة الدينية والآخر في التصور الشعبي.. جهل أم عنف؟


31/08/2023

العقل البشري يكره الفراغات؛ لذا يعود إلى تفسير ما لا يفهمه بالغيبيات والخرافات، التي غالباً ما توجه أنماط التفكير والسلوك في المجتمعات المنغلقة، التي تتسم بمحدودية المعرفة، أو تلك التي يُمارس على أفرادها شتى أنواع الهيمنة، وتكالب القوى المتصارعة المصحوبة بسلطة المقدس.

والخرافة، كمصطلح، تحمل عدة معانٍ مختلفة ذات أصل وبنية موضوعية، تؤدي وظيفة ما، أو تفسر واقعاً مجهولاً بناءً على انعكاسات المتخيل، المستمد من طبيعة التكوين المعرفي والثقافي المهيمن، وفي هذا الصدد يهمنا تعريف الخرافة؛ بوصفها قناعة مغلوطة تصير مع الزمن راسخة حدّ اعتناقها كحقيقة كلية مريحة.

ويعدّ كلّ ما هو خارج ذواتنا وانتماءاتنا باختلافها، مادة خام لبناء خرافة ما، تزداد احتمالية وجودها وسريانها أينما وجدت سياسات العزل والتجهيل والتعتيم، وفي المجتمعات التي يحكم بنية ثقافتها الدين بمفهومه المطلق الراديكالي، يصبح الآخر، المغاير دينياً أو مذهبياً، موضوعاً قابلاً للتأويل والتقييم وتضارب المشاعر، وبالتالي بلورة قناعات مغلوطة، تصير خرافة من أجل تفسير أو إدانة هذا الاختلاف، ومن ثمَّ تبرير ممارسة نبذه وإقصائه.

كي تلاقي الخرافة نجاحاً في وظيفتها لا بدّ أن تثير المشاعر الإنسانية المتوترة التي تمسّ الحياة وتهددها

وينطوي الموروث الشعبي على عدة خرافات من هذا النوع، تعمل على مستويين؛ التفسير الظاهري أو الطقوسي، والأساسيات العقائدية، وكي تجد الخرافة حيزاً من الوجود يضمن نجاح وظيفتها، لا بدّ من أن تثير المشاعر الإنسانية المتوترة التي تمسّ الحياة بشكل مباشر وحسّي، كالخوف من تهديد الاستقرار والأمن الاجتماعي على المستويين؛ المادي والمعنوي.

فمثلاً؛ تعكس إحدى الخرافات الشعبية الآخر المسيحي، في صورة شخص عدواني متأهب دائماً للحرب على المسلمين، ولا ينقصه سوى اللحظة الحاسمة؛ ودلالته أنّ الكنائس والأديرة ما هي إلا مخازن للأسلحة، واقتناء الوحوش الكاسرة مثل الأسود والنمور!

اقرأ أيضاً: التديّن الشعبي للمرأة المصرية..عادات أم عبادات؟

ويمثل جسد الآخر، بوصفه موضوع معاينة مادية ملموسة، عنصراً أساسياً في تكوين الخرافة الشعبية ودلالاتها؛ لأنّ الجسد الإنساني مميز بالكمال والجمال، مقارنة بأي مخلوق آخر: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة العلق (4)]، وبالتالي فهذا التقويم البشري نعمة إلهية تستوجب الشكر والإيمان، إضافة إلى أنّ معيارية الطهارة والدنس تشكل أحد المحاور المهمة، في فهم النسق القيمي لدى التدين الشعبي.

يمكن ردّ الإشكالية لاعتقاد المؤمن الراسخ بأنّ دينه وحده من يشكل منظومة الأخلاق وما عداه غير ملتزم أخلاقياً

ولذلك؛ يُحمل جسد الآخر برموز الدنس؛ فالمسيحي ذو رائحة كريهة، والملحد يتلبس جسده الشيطان، ولربما يتحوّل إلى مسخ مشوه، أو حيوان ذي سمعة كريهة كالقرد والخنزير، وفي المسألة الأخيرة تتفق جماعة المؤمنين باختلاف تصنيفهم الديني.

وغالباً، لا تصنع الخرافة من عدم، وإنّما تتأسس على تأويل بعد رمزي ظاهري، أو نصّ تأسيسي أُسيء استغلاله عمداً أو جهلاً، ما يجعلها ممنطقة وقابلة للتصديق والاعتقاد، نجد مثلاً أنّ دلالات الأسد المتعددة التي يتضمنها التراث المسيحي ونصه التأسيسي، إضافة إلى كونه رمز القديس مار مرقس، ثم في رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 6-11 التي تنص على آية: "ألبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس"، ربما كانت أساس بنية موضوع الخرافة المذكورة أعلاه. مثله النص القرآني الذي يقرّ بإمكانية تحويل البشر العاصين إلى مسوخ حيوانية وقردة وخنازير، مثل الآية (65) من سورة البقرة: {قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئينَ}.

اقرأ أيضاً: المثل الشعبي إذ يكرس العنف والتطرف

ونلاحظ أنّ الخرافة المعنية هنا ترتكز بشكل جوهري على تابوه الجنس، بصفته أحد أهم مقومات السلطة الانضباطية دينياً واجتماعياً، وهنا يصير العقل الشعبي ثرياً ومتوثباً في رسم خيالاته، فمثلاً في أعياد المسيحيين ساعة إطفاء أنوار الكنيسة يلجأ الرجال إلى تقبيل النساء، أما زنا المحارم، فهي التهمة التي تلاحق كلّ آخر، كالشيعي والبهائي والملحد والعلماني... إلخ، فيما قد نسميه "نمذجة الخرافة" (Standard)، يُطبق على كلّ مغاير في الدين أو المذهب أو الفكر.

ويمكن ردّ تلك الإشكالية إلى اعتقاد المؤمن الراسخ بأنّ دينه هو وحده من يشكل منظومة الأخلاق، وكل ما عداه هو بالضرورة غير ملتزم أخلاقياً، بالمفهوم المتفق عليه اجتماعياً، أو قد تعكس الخرافة هنا نوعاً من ممارسة الكبت النفسي؛ إذ يمثل الحديث عن الجنس متعة يتوق اللاوعي إلى تفريغها في بناء قصصي تخيلي.

تُصوّر إحدى الخرافات الشعبية المسيحيّ في صورة شخص عدواني متأهب دائماً للحرب على المسلمين

وهنا يصير الآخر ومجاله الحيوي سطحاً مسرحياً فارغاً للخيال، طيّعاً لتشكيل الرغبات الإنسانية المحتجبة، وأخيراً لربما يكون ذلك توريطاً للآخر في شيء يصعب عليه إثبات نفيه، ومن ثمّ الإبقاء عليه في حوزة المشاعر العدائيةـ التي تقي المؤمن من افتتان مساحات القرب بينه وبين الآخر بصفته كافراً، تحرم سلطة الدين بمفهومه المؤسساتي والأصولي الاختلاط به، إلا فيما تقتضيه الضرورة.

الأسوأ أن تُدوّن الخرافة في نصّ متماسك يعطيها صفة الثبات، ويسهل تمريرها وتداولها، وأن تكتسب حال السيرورة الزمنية، والصيرورة الذهنية؛ إذ تتغلغل وتهيمن على الوعي، ويسطو التخيلي على الواقع المعيش، فينتج سلوكيات وتعبيرات متولدة من عقل غير نقدي، مما يساهم في تنميط الآخر، وبناء مزيد من الحواجز النفسية العازلة، حتى بين صفوف المتعلمين، فلا عجب أن نجد شاباً جامعياً يقسم لك أنّ جاره المسيحي ذو رائحة شديدة العفن، حتى لو علم أنه يستحم بعدد ساعات اليوم.

اقرأ أيضاً: أغنية العمل بين التدين الشعبي والاختراق الأصولي

وتأخذ الخرافة منحى الخطر حين توظفها أيديولوجية دينية سياسية ما، ضمن أدوات الاستقطاب وتبرير فعل العنف، وهي تستقطب بذكاء ممنهج حسب الهرمية الاجتماعية؛ فالقاعدي الشعبي وتره النسق الأخلاقي المهدد، أما الأعلى فتأسره بشعارات القضايا الأممية والقومية؛ إذ تشكل المؤامرة عنصر الحبكة الخرافية، ويوصم الآخر المستهدف "بالخائن"، الذي تتشابك مصالحه مع القوى الصهيونية الماسونية ...إلخ.

تتأسس الخرافة على تأويل بعد رمزي ظاهري، أو نصّ تأسيسي أُسيء استغلاله عمداً أو جهلاً

ولنتذكر مثلاً، تصريح محمد سليم العوا، أحد المحسوبين على تيار الإسلام السياسي، عام 2010، الذي أدلى به إلى قناة الجزيرة؛ ومضمونه أنّ "الكنيسة المصرية بواسطة أبناء بعض رجال الدين المسيحيين تستورد سلاحاً من إسرائيل، بغرض استخدامه ضدّ المسلمين". ويتجسد توظيف الخرافة بشكل جليّ في حادثة قتل الشيعة الأربعة بقرية أبو مسلم عام 2013، بوصفهم مدنسين يستحقون القتل وتطهير القرية من معتقداتهم التي تشرعن أفعالهم الفاسقة.

والخرافة لا تُواجه سوى بحق المعرفة وحرية تداولها بالتساوي لكل مختلف، ويلزم المعرفة آليات ضبط وتنظيم ممنهجة تضمن فعاليتها وحمايتها "أدلجة مقابل أدلجة"، وفي زمن الفضاءات المفتوحة، أصبح هناك محاولات فردية من المعنيين بمعالجة تلك الخرافات والقناعات، ولكن تظلّ كلها محاولات عشوائية مشتتة، غير أنّ منصات التواصل الاجتماعي تحولت بمرور الوقت إلى صورة من الواقع، مجرد موضوعات للاستقطاب الديني والسياسي، و"جيتوهات" مغلقة؛ كُلّ يبحث عن شبيهه ويتابعه، بل انتقلت الخرافات من حيز الشفاهي إلى نصوص مدونة ومؤرشفة على جدران الأشخاص الإلكترونية، في تداول حرّ متباين السياق والهدف، بل واختلاق خرافات جديدة مضادة، حتى يُخيل لك أنّ الخرافة أصبحت أسلوب تفكير لدى الكلّ ضدّ الكلّ.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية