"الذهنية الميليشاوية".. حزب الله وحركة أمل يلتفان على المبادرة الفرنسية في لبنان

"الذهنية الميليشاوية".. حزب الله وحركة أمل يلتفان على المبادرة الفرنسية في لبنان


17/09/2020

حسين طليس

لم تكن غريبة محاولة "الثنائي الشيعي" في لبنان، حزب الله وحركة أمل، الالتفاف على جوهر المبادرة السياسية الفرنسية التي جاء بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان عقب انفجار بيروت.

كذلك بالنسبة للتهديد والوعيد والتمترس الطائفي الذي رافق ذلك في الصحف والتصريحات الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي. الأمر الذي أضاء مجددا على السلوك السياسي الذي يمارسه الحزبان الشيعيان تاريخيا، والذي يشي بنهج من الابتزاز وتشويه للمفاهيم السياسية، وعلى رأسها مفهوم "المعارضة". 

وفيما كان متوقعا، وفق المبادرة التي كانت واضحة منذ بدايتها، أن يتم تشكيل حكومة إنقاذ من اختصاصيين بعيدين عن الولاءات السياسية والمحاصصة الحزبية في البلاد، تنال ثقة المجتمع الدولي واللبنانيين، بموافقة وتسهيل كافة الكتل السياسية التي التقاها ماكرون، وضمنا حزب الله وحركة أمل، عاد "الثنائي" إلى التمسك بمكتسباته وحصصه الطائفية والحزبية وهو ما يضرب المبادرة الفرنسية التي تمثل آخر بارقة أمل للبنان ولمواطنيه في أزمتهم الاقتصادية والسياسية الأشد في تاريخهم، في وقت أبدت فيه كل الكتل النيابية الأخرى استعدادها للتنازل عن حصصها وتمثيلها في سبيل تشكيل حكومة "الإنقاذ". 

اللافت أن الحزبين أطلقا حملة إعلامية بالتوازي مع إعلان موقفهما من المبادرة، جاءت على شكل تهديدات، موجهة لكل الأطراف، تحذر من خطورة استبعاد الحزبين في أي تشكيلة حكومية، وتهدد بـ "المعارضة" كخيار صدامي مع أي تركيبة قادمة لا تحفظ لهم مكتسبات التحاصص الطائفي والمذهبي. 

"معارضة لعيونك" و"ما فيكن بلانا"، احتلت هذه العبارات صدارة الهاشتاغات الأكثر استخداماً في لبنان، على مدى اليومين الماضيين، بعد ان أطلقتهما الماكينات الإعلامية والجيوش الإلكترونية التابعة للحزبين. ومن خلال هذه الوسوم عبّر أنصار "الثنائي" عن استعدادهم لمواجهة "محاولات إقصائهم" بكل الأساليب، حتى العنيفة منها، معيدين بث خطاب حديث لنصر الله يدعو فيه أنصاره إلى "الاحتفاظ بغضبهم إلى حين يطلب منهم" في إشارة إلى أن الموقف السياسي الحالي قد يتطلب غضباً في الشارع.  

وبالتوازي ازدحمت الصحف اللبنانية بحملات شنها الكتاب المحسوبون على "الثنائي"، نقلوا عبرها "أجواء" من التوعد والتهديدات السياسية المبطنة والواضحة، والتي تهدف بجملتها إلى نقل رسائل الحزبين الشيعيين إلى الداخل والخارج.

"المظلومية التاريخية"

هذه الممارسات أعادت التذكير بتاريخ الحزبين مع تجربة "المعارضة" التي يمارسانها بمفهوم مشوّه عن الدور الذي تضطلع به "المعارضات" في الأنظمة الديمقراطية ووصلوا إلى حد التهديد بالانتقال إلى المعارضة، فمنذ اتفاق الطائف وبشكل واضح أكثر، منذ عام ٢٠٠٦ وحتى اليوم، كلما أجبر الحزبان على ممارسة الدور المعارض، كان الصدام أول الخيارات المعتمدة، وهو ما ترسخ لدى الخصوم والحلفاء والجمهور المؤيد. 

ويرى الباحث السياسي لقمان سليم في حديث مع موقع "الحرة" أن "مصدر هذا الشعور مترسخ وعميق في الوجدان الشيعي، والثنائي الشيعي أمل وحزب الله يستثمران في فكرة "الطائفة المهمشة" قياسا للاجتماع اللبناني. فبالعودة إلى التاريخ كان هناك دورين كبيرين في تكوين لبنان، لم يكن الشيعة جزء من مشهدهما. الدور الأول ورثه لبنان الكبير من متصرفية جبل لبنان، وهو لعبه الموارنة والدروز بصراعاتهم واتفاقاتهم، كان حضور الشيعة فيه خجولاً وكانوا في حينها "أقلية الأقليات". 

الدور الثاني جاء على محطتين بين الإستقلال والطائف. بحسب سليم، "الميثاق الوطني الذي جاء مع الإستقلال جرى بالاتفاق ما بين الموارنة والسنة، وقدم حينها رئاسة مجلس النواب كرئاسة فخرية للشيعة غير حكمية، أو كما يصطلح عليه "جائزة ترضية"، كما هو حال رئاسة مجلس النواب في معظم دول العالم، واستمر ذلك حتى الحرب الأهلية.

"المحطة الثانية كانت مع اتفاق الطائف الذي حقق بعض المكاسب للشيعة في التركيبة اللبنانية، ولكن في حينها كان انتصارا للسنية السياسية على المارونية السياسية وليست انتصارا للمسلمين على المسيحيين، لذا قدم السوريون ضمانات لحماية المكاسب الشيعية، وإلى حينها كانوا يشعرون أنهم خارج مجموعة الحكم الطائفي هذه، فكانوا كلما دخلوها يدخلون بشروطهم وليس بشروط اللعبة، بهدف تحقيق مزيد من المكاسب"، يؤكد سليم.

تاريخ من "المعارضة" المشوّهة

أبرز تلك الصدامات وأكثرها وضوحا كان بعد العام 2005، ولو أن حقبة التسعينات ومطلع الألفية الثانية لم تخل من صدامات مع حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري، إلا أن الانقسام الذي ساد بعد اغتيال الحريري وضع حزب الله وأمل في صفوف المعارضة بقوة الأمر الواقع، وأظهر سلوك الحزبين وتعاملهما مع موقع "المعارضة". 

صدامات في الشارع، واشتباكات متنقلة، وفوضى أمنية عارمة تسببت بها التحركات الشعبية التي وجهها "الثنائي" ضد فريق 14 آذار الذي كان ممسكاً بالسلطة.

بعد إجراء الانتخابات النيابية في العام 2005، تم في 19 يوليو 2005 تشكيل حكومة لبنانية جديدة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة ضمت 24 وزيرا، وشهدت هذه الحكومة منذ تشكيلها أزمات عديدة. وإزاء تفاقم الأزمة السياسية لاسيما في موضوع المحكمة الدولية وبعد فشل هيئة الحوار الوطني في التوصل إلى اتفاق حول المحكمة، أقدم وزراء حزب الله وحركة أمل على تقديم استقالتهم من الحكومة يوم السبت في 11 تشرين الثاني 2006، بعد حرب تموز، وذلك بهدف إسقاطها من الناحية الميثاقية (أي غياب الوزراء الشيعة عن الحكومة) إلا ان النتيجة جاءت بتهميش دور الحزب وحضوره.

عام 2005 ، بحسب سليم، تعمق وزاد من الشعور العام بالاستضعاف لدى الشيعة، تحت عنوانين متناقضين. الأول جاء بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكان عنوانه "الطائفة القاتلة" المتهمة من باقي الطوائف "المقتولة"، والثاني جاء بعد حرب تموز 2006 بعنوان "الطائفة المنصورة" التي لا يعترف لها باقي الطوائف بفضلها على لبنان. وبالنظر إلى المرحلتين بقدر ما تظهران لحظات قوة، كانت لحظات شعور بالاستضعاف في الوقت نفسه، فقد شعروا بالنبذ في المرحلة الأولى، فيما عجزوا عن بيع "الانتصار" في المرحلة الثانية لأنهم اعتبروه منطلقاً لتكريس وصايتهم على لبنان، وهذا ما رفضه الآخرون.

جرى احتلال وسط بيروت وإغلاقه في الأول من ديسمبر 2006 من قبل أنصار 8 آذار، وعلى رأسهم حزب الله وحركة أمل، عبر اعتصام مفتوح ونصب خيم في وسط المدينة، وإطلاق تحركات في الشوارع هزّت الوضع الأمني في البلاد، وأدت إلى اشتباكات متنقلة واحداث امنية ممنهجة انتهت بعد 538 يوماً بأحداث 7 أيار 2008 الدموية. 

تلك الأحداث أيضا تشرح رؤية "الثنائي" للمعارضة، التي انتهت باستخدام السلاح لاحتلال شوارع بيروت ومناطق من جبل لبنان، رداً على قرارات حكومية لمسوا فيها "استهدافا وجوديا لهم"، ولم تنته هذه الأزمة إلا باتفاق الدوحة، الذي كرس مفهوم "الثلث المعطل" وعاد بالثنائي الشيعي ومن خلفهم قوى 8 آذار إلى الحكم مجدداً، وأعاد لحزب الله شرعيته السياسية كقوة مشاركة في الحكم وشرعيته العسكرية بوصفه "قوة مقاومة".

عام 2011، وعلى إثر أزمة سياسية جديدة بعد فشل تسوية "سعودية سورية" في لبنان كان يجري الإعداد لها، أعلنت المعارضة اللبنانية (أمل، حزب الله، التيار الوطني الحر) استقالة وزرائها من الحكومة بالتزامن مع زيارة رئيسها سعد الحريري إلى البيت الأبيض في واشنطن، ما جعل الحكومة بحال المستقيلة. تبنى حزب الله ترشيح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة حكومة جديدة، ورفض النائب وليد جنبلاط وكتلته النيابية التصويت لصالحه فيما كانت كتلته تمثل "بيضة القبان" الوازنة في الانقسام الحاصل في حينها.

وضع حزب الله تحت تهديد الإقصاء مجدداً في حال فشل في إيصال مرشحه إلى رئاسة الحكومة. ومجدداً جاد التهديد العلني والابتزاز الموصوف بواقعة "القمصان السود" الشهيرة.

 حين نشر "حزب الله" في 18 كانون الثاني 2011 مجموعات من عناصره بقمصان سوداء موحّدة لمدّة 40 دقيقة في بعض شوارع وتقاطعات بيروت، بشكل جعل أغلبيّة من 68 نائبًا، من بينها أغلبيّة النوّاب الذين يأتمرون بالنائب وليد جنبلاط، تُصوّت لصالح تولّي النائب نجيب ميقاتي منصب رئاسة الحكومة على حساب النائب سعد الحريري الذي أخرجَ من الحكم آنذاك.

الذهنية الميليشايوية والتبعية لإيران 

"المشكلة في العقل الميليشياوي المستخدم في مقاربة كل الملفات"، يشدد القيادي في تيار المستقبل والنائب السابق أحمد فتفت، الذي يشير إلى أن الثنائي الشيعي يعمل وفق استراتيجية "تأكيد المكاسب السابقة وإضافة مكاسب سياسية جديدة"، وكل العملية السياسية في البلاد تسير وفق هذه الذهنية فكل ما يحققه الثنائي الشيعي يصبح بالنسبة لهم واقعا محققا ومكتسبا نهائيا، ويحاولون تحقيق المزيد من المكاسب ودائما عبر الضغط الذي دائما ما ينتهي ضغطا عسكريا وإن كان بالإيحاء كما يحصل حاليا، أو بالفعل كما حصل سابقا، وهذا النهج الميليشياوي يمارسه حزب الله خصوصا.

القرار الإيراني مؤثر بارز في سلوك الحزبين الشيعيين في لبنان، ولا سيما حزب الله الذي لطالما نفذ الإرادة الإيرانية في لبنان وخاض عنها مفاوضاتها الدولية، بحسب فتفت الذي يرى حاليا إرادة إيرانية بالتعطيل بوجه المبادرة الفرنسية.

"لو كانت ممارسة سياسية بحتة، لكنا رأينا تبايناً في وجهات النظر على الأقل في الإعلام، لكن عندما نرى كامل "الميليشيا الإعلامية" تمارس الترهيب والتهديد، يدل ذلك على وجود خطة مرسومة تنفذ، عبر الابتزاز بأخذ البلد إلى الانهيار والحرب الأهلية، وهو ما هدد به نصر الله سابقاً مستندا إلى تمويله الإيراني المعلن ومنطلقاً من ذهنية أنه لن يتأثر وحزبه بما سيجري بعكس باقي اللبنانيين، في وقت ما عاد البلد يحتمل هذا النوع من التجاذبات والمنازلات".

ويخلص فتفت إلى أنها "ليست مشكلة نظام ولا أحزاب، هي مشكلة استقواء بإيران بدأت مع وصول الخميني إلى الحكم في إيران ومحاولات تصدير الثورة إلى المنطقة بالاعتماد على القوى الميليشيوية، وكل ما لحق يأتي تابعاً لهذه القصة. ونلاحظ ذلك مع بدء نشأة حزب الله الذي جاء انشقاقا إيرانياً عن حركة أمل بعدما لم يجدوها راديكالية بما يكفي للسير بالمشروع الخميني، وحينما اشتد عود حزب الله اصطفت "أمل" خلفه وبات نبيه بري كومبارس".

"منذ تلك المرحلة وحتى اليوم هناك تاريخ من التعاطي الذي يتجاهل مصالح لبنان والدستور والطائف ويعمل وفق منطق أنا القوي في سبيل تحقيق المصالح الإيرانية، وهذا ما يشدد عليه نصر الله مع كل مناسبة بأنه ملتزم بما تقره "ولاية الفقيه ومشروع الدولة الإسلامية" القائم دائماً، وليس الدستور اللبناني أو مواثيق العيش المشترك في لبنان"، يقول فتفت.

الأحزاب وضعت الشيعة على "حافة الوطن"

وفي السياق نفسه، يشرح سليم أن "الأحزاب الشيعية أبقت الشيعة كطائفة على أعتاب لبنان حتى اليوم، ورغم كل ما يزعمون تقديمه للبلد لم يستطيعوا إقناع الآخرين بأنهم شركاء، لذلك يلعبون في لحظات الشدة لعبة فرض النفس بالقوة، فالعنف هو نظير فرض النفس بالقوة القاهرة، وبالخلاصة أنه كلما اشتد التهديد، أثبتت الأحزاب الشيعية وبالتالي البيئة، قلة ثقتها بلبنانيتها.

ويضيف أن "الثنائي الشيعي أمل وحزب الله، دائما ما يستثمران في هذا الشعور لدى الطائفة الشيعية، والأحزاب لم تساعد هذه البيئة على بلورة هذا الوعي اللبناني في النفوس، ودائما ما كرست ازدواجية في الولاءات، بين ولاية الفقيه بالأساس ولبنان في وقت الفراغ، كذلك بين شخص نبيه بري بالأساس وبين لبنان في وقت الفراغ، الأحزاب اللبنانية جعلت لبنان مطلب "بارت تايم" بالنسبة إلى جمهورها. 

من الطبيعي، وفقاً لفتفت، أن تنتقل هذه الذهنية إلى الجمهور ويتشربها في سلوكه الجماعي، "كما شهدنا في مراحل عدة آخرها كان عبر تويتر منذ يومين، وهذه نتيجة التهييج الطائفي والمذهبي للانقضاض على الدولة اللبنانية، فهذه الممارسة باتت حاضرة في الذاكرة الجماعية والتاريخ، حيث اللجوء إلى القوة والاعتماد عليها في التعاطي مع "الآخر" في البلاد تظهر مع كل استحقاق يعجزون فيه عن تحقيق المكاسب بالسياسة.".

"الأمر لا يقتصر على المعارضة، حتى حينما يكونون في السلطة أو "الموالاة"، لديهم الممارسات نفسها، وتنتقل العقلية الميليشيوية إلى السلطة فالتحول بالذهنية من العقل العسكري الميليشياوي إلى العقل السياسي ليس سهلاً عندما يترسخ". ويستشهد فتفت بحادثة جرت منذ سنوات مع وزير المال علي حسن خليل في حينها، حيث عين مدير عام قوى الأمن الداخلي، ضابط شيعي في مركز بدون استشارة نبيه بري أوقف موظفين سنة عن العمل. 

ابتزاز وتهديد

ويختم سليم حديثه مؤكدا أن الثنائي الشيعي لطالما انتهج استراتيجية الابتزاز، ولم يعملا في السياسة فعلا، ولعل الحملات الإلكترونية والإعلامية منذ أيام عبرت عن ذلك بشكل واضح، وليس لديهم مشكلة في تهديد أمن البلد، ورغم أنها حجة الضعيف، إلا أنهم يستخدمونها في الابتزاز، لا بل ينفذونها بالفعل مع كل استحقاق، وهم يلعبون بأمن البلد بالفعل كل يوم. 

فتفت يضع كل تلك الممارسات في خانة الهدف النهائي الذي يصل بهم إلى مبتغى "المؤتمر التأسيسي"، يقولون اليوم "نحن نريد تعيين وزرائنا، نحن نريد وزارة المالية، نريد ان نشارك في السلطة التنفيذية وفي كل شيء وممنوع ان يشاركنا أحد في شيء، لا في السلطة التشريعية، ولا في التعيينات ولا في الترقيات، وللأسف أن بقية القوى السياسية ليس لديها الجرأة بالوقوف في وجه هذه الممارسات، وهذه مشكلة ثانية. 

ويختم فتفت محذرا أن لبنان اليوم أمام عملية انقلابية بالوضع السياسي اللبناني أكبر بكثير من مجرد قرار أو تجاذب. 

عن "الحرة"

الصفحة الرئيسية