الرها: المملكة العربية الأولى خارج الجزيرة العربية.. هذه قصتها

الرها: المملكة العربية الأولى خارج الجزيرة العربية.. هذه قصتها
الجزيرة العربية

الرها: المملكة العربية الأولى خارج الجزيرة العربية.. هذه قصتها


05/04/2020

في القرن الثاني قبل الميلاد، ومع تراجع سطوة حكم السلوقيين، خلفاء الإسكندر المقدوني في بلاد الشام، بدأت تظهر الممالك المستقلة في المنطقة، وفي الفترة نفسها التي كان العرب الأنباط يؤسسون فيها مملكتهم شمال غرب الجزيرة العربية، ويتوسعون شمالاً باتجاه المناطق الجنوبية من بلاد الشام، كانت قبيلة عربية تشقّ طريقها وتتوغل شمالاً، حتى استقرت على ضفاف نهر الفرات لتؤسس المملكة العربية الأولى خارج شبه الجزيرة العربية.
التأسيس
استغلت القبيلة، التي ستعرف لاحقاً باسم الأباجرة، فرصة ضعف الحكم السلوقيّ، وبحسب المخطوطة السريانية التي عثر عليها في "دير زقنين"  (قرب ديار بكر اليوم)، فإنّها تمكنت من تأسيس مملكة مستقلة، في حدود عام 135 ق.م، في المقاطعة المعروفة باسم "أسرونيا"، الواقعة في الشمال الغربي من الجزيرة السورية، في حين تشير مخطوطة سريانية أخرى من مدينة الرها، إلى تاريخ التأسيس بأنّه عام 132 ق.م.

 


ووفقاً لرواية مخطوطة زقنين؛ فإنّ الفرس في ذلك العام كانوا قد احتلوا المقاطعة، لكنّهم فضلوا ألّا يحكموها مباشرة، وصادف ذلك وصول الأباجرة فقرروا جعلهم عليها حكاماً على أن يكونوا حلفاء لهم، فتأسس بذلك حكم الأباجرة في أسرونيا، واتخذوا لقب الملوك، لتؤسس بذلك المملكة التي عرفت باسم "مملكة الرها"، أو مملكة أسرونيا"، أو "عربايا".

 

اقرأ أيضاً: ديانة الدولة وتسييس الدين
وسرعان ما تمكنوا من فرض نفوذ المملكة الجديدة على الأراضي الممتدة من نهر الفرات وصولاً حتى نهر الخابور شرقاً، وهو أقصى اتساع وصلت له المملكة، في حين يشير المؤرخ الروماني، تاسيتس، إلى أنّها تجاوزت نهر الفرات، وتوسعت غرباً حتى وصلت مدينة أفاميا، بالقرب من الساحل السوري.
مملكة العرب
الاسم ذو الدلالة المهمّة الذي حملته المملكة، هو "مملكة عربايا"؛ أي مملكة العرب، وهو الاسم الذي ورد في عديد المصادر القديمة، وحمل دلالة على عروبة السلالة الحاكمة، وعروبة السّكان، الذين كانوا في الواقع خليطاً من القبائل العربية المهاجرة باتجاه الشمال، إضافة إلى سكان المنطقة من الآراميين (سيعرفون لاحقاً بالسريان)، إضافة إلى أقوام أخرى محيطة بالمنطقة مثل الأرمن، والإغريق الذين استوطن بعضهم في المنطقة بعد فتوح الإسكندر المقدونيّ في الشرق.

كانت روما تنظر للرها باعتبارها مملكة عازلة تؤدي دور حائط الصد أمام أيّة هجمات فارسيّة

ويذكر المؤرخ الألماني، جان ريستو، أستاذ التاريخ العربي القديم في جامعة غوتنبرغ، في كتابه "العرب في التاريخ القديم"، أنّ القبائل العربية كانت متواجدة في مملكة الرها، ويرد في نص المؤرخ الروماني، بلينيوس الأكبر، في القرن الأول للميلاد: أنّ "سكان الرها هم من العرب، وتسمى المنطقة بالعربيّة"، كما ترد تسمية مملكة الرها بالعربيّة، أو "عربايا"، في نقوش "أثار سوماتار" السريانية، قرب مدينة أورفا التركيّة الحالية، التي ترجع إلى القرنين الثاني والثالث الميلادي.
على مستوى اللغة؛ لم تكن اللغة العربية قد تطورت بالشكل الذي نعرفه عليه اليوم، والذي يعود إلى القرن السابع الميلادي، وكانت القبائل العربية الشمالية، وخصوصاً التي امتدت باتجاه مناطق بلاد الشام تستخدم لهجات مشتقة من الآرامية كلغة محكيّة، والتي تطورت وتفاعلت لاحقاً، عن طريق التجارة بالأساس، مع اللهجات العربية في الحجاز والجزيرة العربية، وكذلك كان حال مملكة الرها التي كانت تعتمد الآرامية في المكاتبات الرسمية، في حين كان لها لهجة آرامية محكيّة خاصة، قريبة من اللهجات النبطيّة، عبر قرابة الأربعة قرون (132ق.م - 242) تعاقب على حكم الرها ثلاثين ملكاً، عشرة منهم كان يلقب باسم أبجر، ومنهم أخذت السلالة الحاكمة اسمها، وتسعة منهم حمل اسم "معنو"، وهو "معن" في اللهجات العربية التي تطوّرت لاحقاً بالجزيرة العربية، إضافة إلى أسماء أخرى، مثل "بكرو" و"عبدو"، ووفقاً لعلماء اللغات الساميّة فإنّ الأسماء التي تنتهي بالمقطع "ــو" هي أسماء نبطيّة.

فسيفساء مكتشفة عام 2016 بالقرب من بحيرة باليكلي تعود إلى حقبة مملكة الرها يظهر فيها الطابع العربي للباس

بين الفرس والرومان
حاول الجنرال الروماني، ماركوس ليسينيوس كراسوس، التوسع شرقاً باتجاه المناطق المتاخمة للإمبراطورية الفارسية، وفي عام 53 ق.م، اصطدم الجيشان، الروماني والفارسي، في معركة "كارة"، التي وقف فيها الأباجرة إلى جانب الفرس، وكان النصر فيها حليفاً للفرس، إثر ذلك اختار الأباجرة الدخول في حلف مع الفرس، استمر قرابة القرنين. وفي عام 116 شنّ الرومان حملة على المملكة واحتلّوها بالقوّة، وخلع الإمبراطور الروماني، تراجان، ملكها أبجر السابع.

اقرأ أيضاً: 10 معلومات عن الديانة اليارسانية التي يعتنقها بعض الأكراد

وبعد عامين، أعاد إليها الإمبراطور هادريان عرشها، على أن تكون خاضعة لسلطة الإمبراطورية الرومانية، وكانت روما تريد منها أن تكون مملكة عازلة تؤدي دور حائط الصدّ أمام أيّة هجمات فارسية محتملة، وبذلك حافظت الرها على نوع من الاستقلال الذاتي مدّة قرن تقريباً، مع تحوّلها إلى دولة عازلة بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية الفرثيّة، كما يظهر في الصورة أدناه:

موقع مملكة الرها بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في القرن الثاني الميلادي

المرحلة الوثنيّة
على مستوى الديانة، مرّت مملكة الرها بدايةً بمرحلة وثنيّة، عبدوا فيها عدداً من الآلهة، التي انتقلت إليهم من حضارات وثقافات متعددة، وبحسب مصادر من القرون الميلادية الأولى، مثل كتابات الأديب السرياني، لوقيان السميساطي، ونقوش سريانية من مواقع متعددة، فإنّ من بين مجموعة الآلهة التي عبدوها، تبرز أسماء بيل، ونابو، وهما إلهان بابليان، انتشرت عبادتها في عموم الهلال الخصيب، وهناك الإلهة اترعتا (أتارجاتيس)، وهي من أشهر الآلهة المعبودة عند عموم العرب الأنباط، وإله السماء هدد، من أشهر آلهة الهلال الخصيب، وهو ذو جذور أكاديّة، ومن بين الآلهة الأخرى، المشهورة في عموم الهلال الخصيب، التي يرد ذكرها في النقوش المرتبطة بمملكة الرها، بعل شمين (سيد السماء)، وكذلك سين، إله القمر.

تمثال للإله البابلي نابو يرجع للقرن الثامن قبل الميلاد

أولى الممالك المسيحيّة
عام 200؛ قرّر الملك أبجر التاسع اعتناق المسيحية، لتصبح مملكة الرها بذلك أول مملكة في التاريخ تعلن اعتناقها الديانة المسيحية، ومنذ ذلك الحين أصبح لها دور مهم في نشر الديانة المسيحية واحتضان المؤمنين الأوائل الفارّين من بطش الرومان.

كانت الرها بيئة خصبة تلاقت فيها التأثيرات الساميّة والإغريقية والفارسية مع الديانة المسيحيّة التي اعتنقتها عام 200

وبحسب المؤرخ البيزنطيّ، يوسابيوس القيصري، فإنّ الملك أبجر الخامس كان قد علم بأن يسوع يشفي من الأمراض فأرسل له كي يأتي ويعالجه من البرص، لكن يسوع لم يأتِ وقام بإرسال أحد رسله إلى الرها، الذي قام بنشر تعاليم المسيحية هناك. وكانت تلك بداية دخول المسيحية إلى المملكة، قبل أن تتبنهاها بشكل رسميّ في حدود عام 200، وبعد دخولها المسيحيّة، لم تبقَ سوى مراكز معدودة على الوثنيّة، أهمها حرّان، في أقصى شمال المملكة، والتي حافظت على العقائد الوثنيّة، وتحديداً عبادة الإله "سين"، وبقيت مركزاً مزدهراً للعلوم الطبيعيّة والفلسفة.

رسم متخيل لملك الرها أبجر الخامس عند استقباله رسول يسوع

مهد الثقافة السريانية
من الناحية الثقافية، كانت الرها بيئة خصبة تلاقت فيها التأثيرات الساميّة والإغريقية والفارسية مع الديانة المسيحيّة، فكانت مهداً للأدب والفلسفة والعلوم التي ارتبطت لاحقاً بالسريان، وهو الاسم الذي صار لاحقاً يطلق على عموم سكان المنطقة، ومن أبرز الأسماء التي برزت في مملكة الرها، اللاهوتي والشاعر والفيلسوف  برديصان (154-222)، المعروف بتصوّفه ومذهبه الغنوصيّ، والخطيب الفيلسوف مليطون السرديني، والذي ظهر في الفترة نفسها، وكانت له شروح وإضافات سعت للتوفيق بين المسيحية والفلسفة الإغريقيّة.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الديانة اليزيدية؟
وكانت الطبقة المثقفة في الرها بالعموم متأثرة بالثقافة الإغريقية التي استمرت في هيمنتها على الفضاء الفكري والثقافي في العصور القديمة حتى القرن السادس الميلادي، وكانوا يعتمدون المصطلحات الإغريقية، وأحياناً يكتبون رسائلهم بالإغريقية، وتميزت المدارس الفكرية، في مملكة الرها عموماً، باتجاهها ومنحاها الفلسفي الغنوصيّ، الذي يركز على تحصيل المعارف عن الطريق العرفان والطريق الروحاني، بدلاً من الاعتماد حصراً على العقل والمنطق.
النهاية
في نهاية القرن الثاني الميلادي اشتد الانقسام ووقعت حرب أهلية داخل الإمبراطورية الرومانية، حين سيطر حاكم سوريا، بسكينيوس نيجر، على المنطقة الشرقية من الإمبراطورية وسعى للاستقلال بها، فتصدى له الإمبراطور سبتيموس سفيروس.

اقرأ أيضاً: الديانة التي كانت محرمة على النساء!
استغل الملوك الرهاويون الأوضاع وتحالفوا مع ممالك أخرى في منطقة الجزيرة السوريّة، وهي مملكة حدياب ومملكة الحضر العربيّة، وأعلنوا استقلالهم التام عن الإمبراطورية، وعام 194 تمكّن سبتيموس من سحق تمرد نيجر، وتوجه بعدها لمملكة الرها وألحق الهزيمة بها وجعها مقاطعة رومانيّة من جديد، واستمر الحال قرابة العقدين إلى أن قرر الإمبراطور الروماني كاراكالا، عام 214، خلع الملك أبجر التاسع، وإلغاء حكم السلالة الأجريّة الفعليّ، وأحلّ فيها جالية رومانيّة ليحوّلها إلى مستعمرة، واستمر الأباجرة بممارسة حكم اسميّ، في عهد معنو التاسع وأبجر العاشر، إلى أن قرّر أبجر العاشر الانتقال إلى روما والاستقرار فيها عام 242، ليكون بذلك آخر الملوك الأباجرة، ويُسدل بذلك الستار على قصة هذا المملكة، وللمفارقة كان ذلك العام ذاته الذي قضى فيه الفرس على مملكة الحضر، المملكة العربية المجاورة، إلى الشرق من الرها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية