الطرق الصوفية في تركيا.. عبادة أم سياسة؟

تركيا والصوفية

الطرق الصوفية في تركيا.. عبادة أم سياسة؟


13/03/2018

 

بخلاف الصورة السائدة عنها باعتبارها حركات تميل للعزلة والابتعاد عن الشأن العام، عرفت الحركات والطرق الصوفية في تركيا ارتباطاً مباشراً بمؤسسة الخلافة والدولة العثمانية عبر تاريخها، ومع دخول تركيا حقبة أتاتورك واجهت الصوفية تحدي الاستمرار والبقاء في ظل حكم نظام تبنى العلمانية بشكل صارم، لتعود بعد ذلك إلى الحضور بقوة.
من الحظر إلى مواجهة المد الشيوعي
كانت ثورة الشيخ سعيد بيران وأتباعه العام 1925، بمثابة أول صدام واحتكاك مباشر للحركات الصوفية بالسلطة السياسية في الجمهورية التركية الحديثة، حيث قاد الشيخ الثورة التي عرفت باسم "ثورة الخلافة"، التي انطلقت في مناطق الشرق والجنوب الشرقي من البلاد، وذلك احتجاجاً على قرار أتاتورك بإلغاء منصب الخلافة العام 1924، حيث طالبت الثورة بإعادة "الخلافة" وتطبيق الشريعة، وبعد إخمادها أصدرت الحكومة التركية قوانين تحظر عموم الطرق الصوفية وأنشطتها، فما كان من هذه الطرق والحركات إلا أن اتجهت نحو السرية والنشاط السري.

 

سعيد بيران (الثاني من اليمين).. قائد ثورة "الخلافة" العام 1925

مع بداية التحولات في السياسة التركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وزيادة المد الشيوعي في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، وبعد فوز الحزب الديمقراطي في انتخابات العام 1950، بدأت تخف حدة التضييق والحصار على الطرق الصوفية وغيرها من التيارات الإسلامية في تركيا، وذلك في إطار إستراتيجية الرئيسين الأمريكيين ترومان وأيزنهاور لاحتواء الاتحاد السوفيتي وإيقاف المد الشيوعي.
وشيئاً فشيئاً أخذت العديد من الطرق الصوفية تخرج من نطاق السرية التي فرضتها عليها حقبة الحظر، لتمارس طقوسها ونشاطاتها بشكل شبه رسمي.

يعمد شيوخ النقشبندية إلى تعزيز حضور الطريقة ونشرها في أوساط أساتذة الجامعات وموظفي الدولة

ويرى الباحث في التصوف والفكر المعاصر عرابي عرابي في تصريحه لـ(حفريات) أنّه: "بالرغم من تآكل القدرة العملية لدى الحركات الصوفية في البلاد العربية إلا أنّنا نجد نظيراتها التركية كانت على النقيض من ذلك؛ فقد استفادت الطرق الصوفية من حالة الحظر التي فرضت عليها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث شكّلت لها باباً واسعاً للدخول إلى عمق المجتمع التركي في تلك الحقبة، لتنشئ شبكة من العلاقات والتعاون السري بينها وبين مختلف شرائح المجتمع التركي"، منوهاً إلى أنّ الهدف من ذلك "الحفاظ على القيم الروحية والدينية المتوارثة عن الأجيال السابقة، سواء بطريق تشكيل الجمعيات والمعاهد التعليمية التي قادها الشيخ سليمان حلمي طوناهان لحفظ القرآن، أو بث تعاليم القرآن ومعانيه، في رسائل تنويرية تهدف إلى إثبات أنّ القرآن يمتلك القدرة على معالجة مختلف مشكلات الإنسانية عموماً، وهو ما تصدّى له الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، ولعل إدراك أول حكومة ديمقراطية منتخبة في العام 1950 لهذه القوة الخفية دفعها للاستفادة منها بالسماح لها بالظهور إلى العلن، فما إن رفعت الحكومة الحظر الرسمي عن الطرق الصوفية والتنظيمات الدينية حتى سارع الناس لاتباع "الشيوخ" وأخذ العهد عليهم".
النفوذ النقشبندي
تعتبر الطريقة النقشبندية من أكثر الطرق أتباعاً في تركيا، ويعود تأسيسها إلى "محمد بهاء الدين النقشبندي"، المتوفى في بخارى العام 1389، وأدخلها إلى الأناضول أحد أتباعه وهو "عبد الله إلهي السماوي"، في القرن الخامس عشر، وتعدّ الكثير من قطاعات النخب التركية الحديثة نقشبندية، حيث يعمد شيوخ النقشبندية إلى تعزيز حضور الطريقة ونشرها في أوساط أساتذة الجامعات، وموظفي الدولة، وأبناء الطبقة الوسطى، من التكنوقراط، وأصحاب المهن الحرة، هذا إلى جانب أوساط من المثقفين، ورجال الأعمال، ورؤساء الأحزاب السياسية.

يعتبر العدالة والتنمية بمثابة التجلي الأحدث لسلسلة الأحزاب الإسلامية المدعومة من الطريقة النقشبندية في تركيا

وتتفرع الطريقة النقشبندية إلى عدة أفرع، مثل جماعة "اسكندر باشا"، التي سعى شيخها "محمد زاهد كوتكو"، المتوفى العام 1980، إلى تأسيس تيار اسلامي سياسي، من خلال تشجيع مريديه على العمل في مراكز التأثير في الدولة، ومنهم "نجم الدين أربكان"، الذي قام العام 1970 بتشكيل حزب سياسي هو حزب "النظام الوطني"، وكان معظم أعضائه منتسبين للطريقة النقشبندية.
نجم الدين أربكان.. النقشبندية في الحكم
مثّل نجم الدين أربكان، حلقة الوصل التي ساهمت في انخراط النقشبندية ووصولها بشكل رسمي بالسلطة والحكم في البلاد. حيث كان للطريقة النقشبندية حضور لافت في سلسلة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي التي أسّسها أربكان؛ ففي البداية كانت تدعم حزب "النظام الوطني"، ثم حزب "السلامة الوطني"، ثم حزبي "الرفاه" و"السعادة" بعد ذلك.
وبعد حظر الحزب "النظام الوطني"، سارع أربكان إلى تأسيس حزب "السلامة الوطني"، الذي لعب دوراً مهماً في السياسة التركية على مدار السبعينيات، حيث حاز الحزب على ما يصل إلى 12% من الأصوات في انتخابات العام 1973، وكان الشريك الأصغر ضمن حكومات ائتلافية مختلفة بين أعوام 1973، و1979.

وبعد انقلاب العام 1980، بقيادة "كنعان افرين"، قام أربكان بإعادة تأسيس الإسلام السياسي في تركيا، من خلال حزب الرفاه العام 1983، وقد خدم أربكان لاحقاً كرئيس للوزراء ضمن حكومة ائتلافية بين أعوام 1996 و1997، لكنه أُبعد عن السلطة بعد انقلاب عسكري في 28 شباط (فبراير) 1997، وهو ما أدى إلى حظر الحزب.

برز دور أربكان خلال السبعينيات والثمانينيات باعتباره أكبر المساهمين في تشكل تيارات الإسلام السياسي التركية

وفي العام 1998، انبثق عن جماعة "اسكندر باشا" النقشبندية حزب سياسي جديد، وهو حزب "الفضيلة"، الذي سرعان ما تم حظره العام 2001، وبعد حلّه ظهر حزبان إسلاميان جديدان، الأول بقيادة عبدالله غول، ورجب طيب أردوغان، اللذين وعلى الرغم من أنّهما كانا من أعضاء جماعة "اسكندر باشا"، إلا أنهما اختلفا مع أربكان حول أسلوبه في القيادة ورفضه لتقديم التنازلات، وقاما بتأسيس حزب "العدالة والتنمية" العام 2001. وأما الحزب الثاني فهو حزب "السعادة" الذي تم تأسيسه العام 2002، ومثّل الجناح التقليدي المحافظ من الجماعة.
وهكذا، يعتبر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ العام 2002، بمثابة التجلي الأحدث لسلسلة الأحزاب الإسلامية المدعومة من الطريقة النقشبندية.

اختلف أردوغان في نهجه عن أربكان وبقي الانتماء النقشبندي هو العامل المشترك

حضور سياسي واقتصادي
ومن الجماعات النقشبندية ذات الحضور في المشهد السياسي التركي: جماعة "المنزل"، ويعود تأسيسها إلى الشيخ النقشبندي "محمد راشد أرول"، وقد انتشر نشاط تلك الجماعة بشكل كبير بعد الانقلاب العسكري العام 1980، حيث اعتُبرت بمثابة الجماعة الدينية الداعمة للدولة، ما ساهم في انتشارها بشكل واسع، وتحديداً في المناطق الغربية من البلاد.
وقد عرف عن "محسن يازيتش أوغلو" مؤسس حزب "الوحدة الوطنية"، قربه من الطريقة، ولاحقاً شاركت الجماعة المنزلية في حكومة حزب العدالة والتنمية العام 2003، بوزيرين، وفي العام 2005 أنشأت جمعية رجال الأعمال "تومسياد"، التي يبلغ عدد أعضائها 1500 عضو من رجال الأعمال.

تمثل جمعية "تومسياد" نفوذ وقوة الجماعة المنزلية

تعتبر "الجماعة السليمانية"، من الجماعات النقشبندية ذات الحضور السياسي، وهي تُنسب إلى مؤسِّسها الشيخ النقشبندي "سليمان حلمي طوناخان"، وكان سعي الجماعة الأول إلى توفير التعليم القرآني والحفاظ على المساجد مفتوحة، وذلك بعد الضربة التي تعرضت لها الحركات الصوفية أثناء عهد أتاتورك، حيث حافظت الجماعة على حضور في المساجد، وبعد السماح بالدور القرآنية والمدارس الدينية العام 1949 انتشر طلاب الطريقة في جميع أنحاء تركيا، واليوم تعتبر الحركة واحدة من أكثر الحركات الصوفية انتشاراً وتنظيماً.
أما في الجانب الاقتصادي فتتميز الجماعة السليمانية بمصادرها ومواردها الاقتصادية المهمة عبر مشاريعها التجارية المتعددة، وهذه ميزة غالبية الطرق الصوفية في تركيا، أما بخصوص الولاءات السياسية لهذه الجماعة الدينية فتتسم بالظرفية وتتنوع بين مجموعة من الأحزاب المحافظة.

الشيخ سليمان طونانخان مؤسس "الجماعة السليمانية"

النورسية.. شبكات التعليم والإعلام
وتمثل "النورسية"، الجانب الآخر من الجماعات والطرق الصوفية في تركيا، وهي تنسب إلى الشيخ "بديع الزمان سعيد النورسي"، حيث تأسست الجماعة الصوفية المنتسبة اليه بعد وفاة الشيخ العام 1960، وعرفت باسم "النورسية" أو "النور"، وتعد اليوم من أكثر الجماعات الصوفية حضوراً وتأثيراً في المجتمع التركي، ولها حضور واسع في مختلف الأرياف والمدن، وخارج الحدود التركية.
وتميزت النورسية بنظرتها المختلفة إلى السياسة، والنابعة من تصور شيخهم، الذي كان قد انخرط في حملة مواجهة غزو قوات التحالف مع الاتحاديين أثناء الحرب العالمية الأولى، قبل أن ينقلب عليه الاتحاديون لاحقاً، وهو ما دفع به إلى اعتزال الشأن السياسي، فكان كثيراً ما يردد قوله: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".

للنورسية حضور واسع في مختلف الأرياف والمدن وخارج الحدود التركية

وقد اتبع تلاميذ النورسي شيخهم في اعتزال ممارسة السياسة بشكل مباشر، فلم تتجه الجماعة إلى تأسيس حزب سياسي أو الانخراط في أحزاب سياسية، كما صنعت الجماعات الصوفية الأخرى، وبدلاً من ذلك، فضّل أتباع النورسية الاتجاه إلى طباعة الرسائل وتوزيعها ودعوة الناس إلى مفاهيمها، وتأسيس مدارس تربوية وتعليمية.
ومن أبرز الجماعات المتأثرة بالنورسية والمنبثقة عنها "جماعة الخدمة"، بزعامة "فتح الله غولن"، التي استطاعت بناء شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية، من مدارس، ومعاهد، وجامعات، ومؤسسات إعلامية، من صحف، ومجلات، ومحطات تلفزيونية وإذاعية.

فتح الله غولن قائد "جماعة الخدمة" ذات النفوذ الواسع في ميدان التعليم والإعلام، داخل تركيا وخارجها

وقد اصطدمت "جماعة الخدمة" مؤخراً مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وذلك بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تموز (يوليو) 2016، حيث تم اتهام الحركة، بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، وتلا ذلك شنّ حملة ملاحقات واعتقالات واسعة، استهدفت أعضاءها ومؤسساتها.
وقد وجهت العديد من الجهات الحقوقية والرسمية في أوروبا الاتهامات للحكومة التركية، واتهمتها باتباع أساليب دكتاتورية في قمع الحركة وملاحقة أتباعها، حيث تعتبر هذه القضية أكثر القضايا بروزاً داخل المشهد السياسي التركي الراهن، ومثار انتقاد العديدين للحكومة.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية