العالم في قلب ثورة رابعة ويواجه خطر كائن "ما بعد الإنسان"

العالم في قلب ثورة رابعة ويواجه خطر كائن "ما بعد الإنسان"


06/12/2018

لطفية الدليمي

يبتدئ كتاب “الثورة الرابعة” لأستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد لوتشيانو فلوريدي بمقدمة ثرية ذات نكهة فلسفية، تسِمُ كتابات المفكرين ومن تخصّصوا في المعلومات والتقنيات المتقدمة، حيث نتبين طبيعة الكتاب ومهمة المؤلّف، الذي يقدمه على أنه “كتابٌ فلسفي في المقام الأول على الرغم من أنه ليس كتابا للفلاسفة فقط، فهو يسعى إلى تحديد وتوضيح بعض القوى التقنية العميقة التي تؤثر في حياتنا، وفي معتقداتنا، وفي أي شيء يحيط بنا”.

الثورة الرابعة
يتناول لوتشيانو فلوريدي في فصول كتابه العشرة العديد من الموضوعات الحيوية، على غرار الزمان: التأريخ المكتظّ، المكان: النطاق المعلوماتي، الهوية: الحياة دائمة التواصل، فهم الذات: الثورات الأربع، الخصوصية: الاحتكاك المعلوماتي، الذكاء: الحفر في كتاب الوجود.

كما يضمّ الكتاب أيضاً قائمة واسعة لقراءات إضافية، ومسرداً لهوامش كثيرة ملحقة بفصوله وببليوغرافيا شاملة. ويمكننا كقراء أن نرى كيف قصد المؤلف تذييل عناوين فصوله الرئيسة بعناوين ثانوية ذات شحنة درامية تكشف عن المضمون الفلسفي لما تنطوي عليه الجزئية التقنية في كل فصل من الكتاب.

إنّ كلّ التطورات التي أفضت إلى عصر الحداثة الرقمية وصعود اقتصادات المعرفة إنما هي بعض الجوانب التقنية للتطبيقات التي تمثل المعلومات مادتها الأولية الخام، وليس أبلغ دلالة في هذا المقام من أن يذهب بعض العلماء ومنظّري فلسفة العلوم والتقنية لاعتبار المعلومات الجوهر الأساسي الذي تتأسس عليه كلّ الحضارة البشرية.

اختار المؤلف عنوان “الثورة الرابعة” للكتاب، قاصداً من هذه الثورة مستوى مفاهيمياً تكون فيه المعلومات (والتقنيات المتصلة بالصناعات المعلوماتية واقتصاد المعرفة) هي المادة المؤثرة والمحرّكة في هذه الثورة؛ أما الثورات الثلاث السابقة فهي الثورة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية، وواضحٌ أنّ المؤلف قصد بهذا التقسيم المفاهيمي تأكيد حقيقة أنّ كل ثورة من تلك الثورات الأربع اعتمدت مفهوماً ثورياً جديداً للوجود مثّل باراديغما (تبعا لتوصيف فيلسوف العلم توماس كون) غير مسبوق في نظرة الكائن البشري للوجود والكون والحياة بعامة.

لا بدّ من الإشارة في هذا الشأن إلى أنّ هذا التصنيف المفاهيمي للثورات يتمايز جوهرياً عن الثورات التقنية التي تعتمد على الابتكارات التقنية المستجدة وسيلة في التصنيف؛ وعلى هذا الأساس تكون الثورة الأولى هي ثورة البخار ومثالها الأكبر هو القاطرة البخارية، والثورة الثانية هي ثورة محرك الاحتراق الداخلي ومثالها السيارة، والثورة الثالثة هي ثورة التقنية المعلوماتية وصناعات المعرفة ومثالها الأعظم هو الكمبيوتر؛ أما الثورة الرابعة طبقا لهذا التصنيف التقني المحض فهي ثورة الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المتصلة به.

يشهد الواقع البشري في أيامنا هذه طوفانا غير مسبوق من المعلومات أقرب لأن يكون “تسونامي” جارفاً اختار له المؤلف توصيف “التأريخ المكتظ” في إشارة إيحائية واضحة الدلالة على عدم القدرة المتزايدة للكائن البشري على التعامل مع الطوفان المعلوماتي.

ومن هنا ظهرت الدعوات لكائن “ما بعد الإنسان”، حيث لن يكون الكائن البشري بوسائله البيولوجية المحدودة قادراً على معالجة هذا الطوفان بل سوف يستلزم الأمر نوعاً من التعزيز الاصطناعي، رقاقات إلكترونية تُزرع في الدماغ لتعزيز قدرة المعالجة الدماغية، مستشعرات للرؤية، وغيرها. وهنا ستكون الحاجة طاغية لإعادة النظر في أطروحاتنا الفلسفية الخاصة بموضوعات الهوية “الفردية والجمعية”، والذاكرة، والوعي البشري، والسياسات الثقافية، والخصائص الجندرية.

من جانب آخر، باتت البيانات الضخمة الخصيصة الأكبر التي تسِمُ عصرنا، ومن المحتّم أن تتعاظم مفاعيل هذه البيانات (على مستوى الكمّ والتفاصيل النوعية الدقيقة) في العقود القليلة القادمة، وإذا ما امتلك الكائن البشري القدرة التقنية على معالجة هذا الطوفان المعلوماتي (وهو أمرٌ يبدو محسوماً منذ الآن) فسنكون أمام “سوبرمان” معلوماتي.

وهنا سيكون الدور المؤثر للرؤية الفلسفية في كيفية صياغة فهم الكائن البشري وتوجيهه نحو الغايات الخيّرة ومنعه من الانزلاق في مهاوي التغوّل الرقمي، كما توفّر الذائقة الفلسفية النزيهة ترياقاً مضاداً لوقوع الإنسان في لجّة العبودية الرقمية التي تفرضها الحكومات أو الهياكل المؤسساتية العملاقة التي تحتكر النطاق المعلوماتي (غوغل على سبيل المثال).

معضلات متشابكة
من المتوقّع صعود تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العقود القريبة القادمة، ولم يعُد بعيداً ذلك اليوم الذي يوصفُ بِـ“التفرّدية” حيث ستتفوّق الآلات الذكية على الكائن البشري من ناحية القدرة على معالجة الكمّ المعلوماتي الدفّاق والتعامل معه.

وعليه سيكون أمراً حكيماً منذ الآن التخلي عن الغطرسة البشرية الممثلة في المركزية البشرية بالنسبة للنطاق المعلوماتي والتحلي بروح التواضع والقبول بأن نكون سلسلة في حلقة معلوماتية فحسب، وهذا وجه واحد من الأوجه الكثيرة التي سيؤثر فيها النطاق المعلوماتي المستحدث على الأخلاقيات البشرية.

ويورد لوتشيانو فلوريدي في الفصل الأخير من الكتاب فقرة مهمة تكشف عن طبيعة المعضلات المشتبكة التي تنطوي عليها الثورة الرابعة، حيث يقول “تخلق تقنيات المعلومات والاتصالات بيئة معلوماتية جديدة سوف تقضي فيها الأجيال القادمة معظم وقتها، وإذا كانت الثورات السابقة التي أحدثت الرخاء، لا سيما الزراعية والصناعية منها، وقد أحدثت تحولات واسعة النطاق وواضحة للعيان في أنساقنا الاجتماعية والسياسية وبيئاتنا المعمارية، وفي الكثير من الأحيان من غير تبصّر كافٍ، فكثيراً ما كانت تصاحبها آثار وتداعيات مفاهيمية وأخلاقية عميقة”.

ويضيف “ليست ثورة المعلومات أقل دراماتيكية سواء فُهمت على أنها ثورة ثالثة من حيث خلق الرخاء، أو ثورة رابعة من حيث إعادة صياغة مفهومنا عن أنفسنا، وسوف نكون في مأزق خطير إن لم نأخذ مأخذ الجد حقيقة أننا نخلق البيئات المادية والفكرية الجديدة التي ستستوطنها الأجيال القادمة”.

من صحيفة "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية