العصبية القَبَلية إذ تصنع "الحجّاج"

العصبية القَبَلية إذ تصنع "الحجّاج"

العصبية القَبَلية إذ تصنع "الحجّاج"


14/10/2021

 

ورد عند ماء هذيل، فشرب وسقا حصانه، فسلبته شرطة "الحجاز" فرسه وضربته بالسياط، فصرخ: "ما أنا إلا عابر سبيل قاصداً أمير المؤمنين عبدالله بن الزبير فلمَ تضربون؟".

 

كان الحجاج "معلم القرآن" في طريقه للانضمام إلى جند عبدالله بن الزبير، الذي كان قد نصّب من نفسه أميراً للمؤمنين بعد وفاة يزيد بن معاوية، حتى كانت واقعة ماء هزيل فارتدّ متوجهاً إلى دمشق للانضمام إلى جند عبدالملك بن مروان، عدو آل الزبير اللدود.

ربما لم تلهب السياط قلب الشاب كما ألهبته كلمات الشرطي الحارقة: "أما بلغك قول ابن الزبير فيكم بنى ثقيف: قصار الخدود، لئام الجدود، سود الجلود، بقية ثمود.. وأنّ جدّكم كان دليلاً لأبرهة الأشرم عند زحفه للكعبة".

أوغر صدر الشاب، وشد عزمه نحو الشام على قدميه، التي كادت تُقصف تحته، قاصداً عبدالملك بن مروان، بعدما ودّع تلامذته وهجر مصحفه ومهنته، التي لم تكن ترضي طموحه يوماً، ليتبدّى له الغيب من وراء حجب، ويوقن أنّه سيكون ذا شأن، وكلما كلّت همته أيقظتها سياط العسكر الزبيري، التي تتراءى له في أحلامه ويقظته.

يتحول الشاب إلى "سفّاح وسفّاك" تحت مزاعم عديدة كوحدة الخلافة ولمّ شمل المسلمين وعصا الطاعة

يتحول الشاب إلى "سفّاح وسفّاك" تحت مزاعم عديدة "وحدة الخلافة.. لمّ شمل المسلمين.. عصا الطاعة"، حتى تتحوّل تلك المبادئ لعقيدة راسخة يحرص أن يؤكد عليها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويكتبها في وصيته "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، ولا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبدالملك، عليها أحيا وعليها أموت وعليها أبعث".

يدور رحى الزمان وتصنع المواقف آلاف "الحجّاجين" الذين يقطعون الرؤوس كما يقطع الأطفال الورود فيهجرون القرآن ويتحولون إلى جلادين وذبّاحين.

في العام 2009 كان إبراهيم عواد السامرائي خارجاً من سجن بوكا الذي يشرف عليه الجيش الأمريكي المحتل للعراق منذ العام 2003، وعندما انتهت إجراءات الإفراج عنه نظر إلى سجانيه الأمريكان قائلاً: "نلتقي في نيويورك"، لكنه لم يذهب إلى أمريكا ولم يقترب منها، لكنّه حصد رؤوس آلاف المسلمين في سوريا والعراق ومصر وغيرها باسم الخلافة والطاعة وعودة الغزو المقدس.. يشبه في ذلك صدام حسين تحت أيديولوجيا مغايرة.

ذاق الشاب السامرائي هادئ الطباع خطيب الجمعة حامل القرآن مرارة الطائفية في العراق، فقرّر أن يثأر  فحمل معولاً وسيفاً ليقتل البشر  حتى من داخل جماعته.

كانت الشام ترقد على صفيح ملتهب، بعدما تركها مروان بن الحكم تعصف بها رياح الثورات، التي ضربت حكمه، حتى إنّ شرطة حاضرة الخلافة "دمشق" اهترأت واستهانت بقائدها "روح بن زنباع".

يدور رحى الزمان وتصنع المواقف آلاف "الحجّاجين" الذين يقطعون الرؤوس كما يقطع الأطفال الورود

وكأنّ ابن مروان كان ينتظر الهائم في الصحراء لينزع به أرواح من نازعوه قميص سلطانه، حتى إذا هبط في حماة، كان مشهد البداية هو رأس عمرو بن سعيد بن العاص، الذي نزغه الشيطان بمنازعة ابن عمه المُلك، فغدر به صارخاً في وجهه شاهراً سيفه: "لا أمان لمن خان البيعة والحكم لا يعرف قرابة ولا نسباً".

يشبه ابن مروان الحجاج أيضاً؛ فقد "كان" محدثاً فقيهاً وورعاً اكتسب لقب "حمامة المسجد"، وبعد وفاة أبيه وجد نفسه في مواجهة كرسي المُلك، فتحوّل إلى وحش ذكي كاسر، فظلّ منتظراً حتى أكل خصومه بعضهم بعضاً، فهبّ على من تبقّى منهم ليقضي عليهم جميعاً.

التحق الحجاج بن يوسف الثقفي بشرطة الإمارة الرخوة، التي كانت تعاني من مشكلات جمة، من سوء تنظيم، والاستخفاف بالنظام، وقلة المجنَّدين. فأبدى حماسة وانضباطاً، وسارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، وأخذ نفسه بالشدة، فقرّبه قائد الشرطة إليه، ورفع مكانته، ورقّاه فوق أصحابه، فعاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، وسيّر أمورهم بالطاعة المطلقة للسلطان، إلا جماعة "ابن زنباع" بقيت كما كانت، فتجرّأ "الحجاج" وقال لـ"روح": "أيها القائد إن جندك يتكئون على وسائد الكسل"، وجاء يوماً على رؤوسهم وهم يأكلون، فنهاهم عن ذلك في عملهم، لكنهم لم ينتهوا، ودعوه معهم إلى طعامهم، فأمر بهم، فحُبسوا، وأُحرقت سُرادقاتهم. وقطع رقبة قائدهم وعلّقها، فشكاه روح إلى الخليفة، فدعا الحجاج وسأله عما حمله على فعله هذا، فقال: إنما أنت من فعل يا أمير المؤمنين، فأنا يدك وسوطك، وأشار عليه بتعويض بن زنباع دون كسر أمره.

وهكذا فعل قادة التنظيمات الإسلاموية بعد قرون؛ ففتك عنتر زوابري، قائد الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، بالمقربين إليه، واستحل دماءهم حتى إذا ملك زمام الأمور قُتل شر قِتلة.

كان الحجاج يرى أنّه قادر على جمع أشلاء دولة بني أمية، وأنّ عبدالملك ليس قانعاً بسلطان ممزَّق بين الخوارج والزبيريين، وكل استقل بما اقتطعه من الدولة ونصّب نفسه أميراً للمؤمنين، وقرّر عبدالملك بن مروان تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على الدولة، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير.

ذاق الشاب السامرائي الهادئ،خطيب الجمعة حامل القرآن،مرارة الطائفية بالعراق فقرّر الثأر وحمل سيفاً ليقتل البشر

لم يكن أهل العراق يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلِّطه عليهم، ففعل؛ فأعلن الحجاج أن أيّما رجل قدر على حمل السلاح ولم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، وأحرق داره، وانتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاً عن المتخلِّفين، وبدأ "الحجاج" بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاع الجميع، وخرجوا معه، بالجبر لا الاختيار.

رمى عبدالملك بالحجاج إلى مكة، وكان بها والده فلم يثنه ذلك عن ضربها بالمنجنيق، حتى سقط والده قتيلاً بجوار ابن الزبير، وكان مدافعاً عنه، واستطاع الحجاج أن يفعل ما لم يفعله أبرهة الأشرم، فهدم الكعبة وصلب ابن الزبير أمامها، ولم ينزله إلا بعدما قالت له أمه أسماء بنت أبى بكر: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟".

ورمى به سيده في بقعة أخرى من الأرض، اعتبرها مرقد الفتنة والضلال، وعندما وصلها هتف خاطباً فيهم: "يا أهل العراق أما والله فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأنّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللّحى، إن أمير المؤمنين نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجّهني إليكم".

مولعة هي التنظيمات الإسلامية بحكم بني أمية وبالحجاج، تدافع عنه وتزج بالأسانيد التي تغسل قميصه من الدماء، فلا تبالي بسحق الإنسان طالما كان المقابل السيطرة والتمدد.

استطاع معلم القرآن السابق أن يُنهى ثورات التمرد ضد بني أمية، وكسر شوكة الخوارج وثورة "ابن الأشعث"، ولكنه ظل يرجو مغفرة ربه، قائلاً: "يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا.. أَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ.. أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ؟ وَيْحَهُمُ.. ما عِلْمُهُمْ بكريم العَفْوِ غَفَّارِ"!

الصفحة الرئيسية