اللامبالاة السياسية: يأس أم إحياء للفلسفة الرواقية القديمة؟

اللامبالاة السياسية: يأس أم إحياء للفلسفة الرواقية القديمة؟


21/10/2021

"لا توجد حقيقة، وإنما هنالك تأويلات"؛ اشتُهرت هذه العبارة على لسان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، كما وردت في كُتيب خواطره في خريف 1887، وأصبحت من أكثر الأقوال المأثورة تداولاً كلما نشب خلاف حول ماهية الحقيقة.

وإذا كان البشر مختلفين في قراءة حدث ما وقع في زمانهم، فكيف يأتيهم اليقين لتصديق ما جرى في الماضي،  إلى حدّ الدفاع موتاً عن رؤيتهم الأيديولوجية التي ورثوها؟

إذا كان البشر مختلفين في قراءة حدث ما وقع في زمانهم فكيف التيقن مما جرى في الماضي

ومن أكثر الأمور المُختلف عليها في الزمن المعاصر، هو مدى تأييد أو معارضة المواطنين للأنظمة السياسية في بلدانهم، وقد يصل الاختلاف في التأويلات إلى استنتاجات مغايرة تماماً بين الجماهير، على حسب المرجعية السياسية والدينية لكلّ فرد.

على سبيل المثال، حين يعزف ملايين المواطنين عن المشاركة في الانتخابات في بلدانهم، فقد يرى معارض الحكومة هذا العزوف انتصاراً لقوى الاحتجاجات، على الرغم من أنّ تلك الجموع ذاتها قد تعزف في الفترة الزمانية نفسها عن تلبية دعوة للتظاهرات، وهنا يتراءى للمناصرين   أنّ العزوف عن التظاهر بمثابة رضا شعبي عن النظام السياسي، لذا اختلف التأويل حسب الموقف السياسي، وافتقد إلى الرؤية البعيدة غير الذاتية.

اقرأ أيضاً: خلدون النبواني: الفلسفة اليوم ليست بخير

لكن سنجد أنّ القاسم المشترك ظاهرياً -دون تعميم- بين الجموع العازفة، هو عدم الاكتراث بالمشاركة، تأييداً أو معارضة لأنظمتها، ممّا قد يتمّ تفسيره على أنه شكل من أشكال اللّامبالاة،  وقد تكون لامبالاة ناتجة عن تقديم أولويات الحياة المعيشية على المشاركات السياسية أو الثورية على حدٍّ سواء، وقد تكون نابعة من اعتقاد الفرد بعدم قدرته على التأثير والتغيير، سواء بمشاركته السياسية أو الاحتجاجية.

هل فقدان القدرة على المقاومة قيمة سلبية بالضرورة؟

في واحدة من محاضراته الصوتية النادرة، يقول الفيلسوف البريطاني آلان واتس- 1915) 1973  ): "شعور المرء بأنّ جميع الاختيارات المتاحة أمامه لا تعود عليه بالنفع، يفقده   القدرة على المثابرة".

 

لعلّ أبرز أنماط اللّامبالاة هي تلك التي تُصيب أولئك الذين يتبنّون قضايا حقوقية

  ربما استخدم واتس كلمة المثابرةResilience  في هذا السياق، إلا أنه كان يشير إلى فنّ المقاومة لإحباطات الحياة،  فلم تكن نبرة واتس مثبطة للهمم ولا سلبية الطابع، بل كانت رؤيته التحليلية أقرب إلى جنوح بعض البشر بعيداً عمّا يستنزف طاقتهم وميلهم إلى التركيز على ما يعود عليهم بالنفع ذاتياً، مع تركيزه على النفع المعنوي والارتقاء بالمهارات.

وقد نجد تناصّاً بين رؤيتي واتس والشاعر الفلسطيني محمود درويش، حين قال الأخير في قصيدته (اللّامبالي): "إنّ اللّامبالاة صفة من صفات الأمل"، مع إدراك الاختلاف في السياق المعرفي والتاريخي بينهما.

اقرأ أيضاً: كيف عادت السلطة الفلسفة والفلاسفة في التاريخ الإسلامي؟

اللّامبالاة ليست بالضرورة صفة سلبية في جميع أحوالها، ولا تُعبّر بالضرورة عن فقدان الأمل في كافة المواقف، وإنما قد تكون –أحياناً- درجة من درجات الصمود التي تحمي أصحابها من الانزلاق في دوّامات اليأس، خاصّة بعدما يكونون قد تعرّضوا للضغط النفسي والعصبي جرّاء تجارب عسيرة، سواء شخصية أو عامة، استنزفت طاقاتهم.

متلازمة اللّامبالاة بعد النضال الحقوقي

 ولعلّ أبرز أنماط اللّامبالاة هي تلك التي تُصيب أولئك الذين يتبنّون قضايا حقوقية، بدون تحقيق إنجاز يُذكر بعد سنوات من النضال، بل قد يتعرّضون لمشاكل اجتماعية وقانونية، لذلك فإنّ اللّامبالاة التي تصيبهم قد تكون ناتجة عمّا يُعرف في الطب النفسي بال Burn Out أو إنهاك القوى، وعدم  القدرة على ممارسة الجدال نفسه وتكراره، والدفاع عمّا يبدو بديهياً.

 

لا بدّ أن يُدرّب المرء نفسه على تجاوز الإحباطات عن طريق عدم الاكتراث بالنتيجة السلبية

تلك الحالة هي التي جعلت كثيراً من المتطوعين وبعض الحقوقيين والنشطاء يؤثرون الانسحاب أو ترشيد المجهود بعد أعوام من النضال في المجال العام، ويتبنّون خطاباً يبدو أقرب إلى خطابات التنمية البشرية، كما حدث بعد سلسلة الاحتجاجات في المنطقة العربية في العقد الأخير. 

 لكنّ المثير للاهتمام في بعض هذه الحالات الشخصية، هو أنّ اللّامبالاة ليست مصحوبة بالحزن أو الانفصال عن الواقع، وإنما قد تتجلى في صورة عدم تكرار تجارب ماضوية مؤلمة، ويتحوّل اهتمام الفرد إلى الاعتناء بنفسه بدنياً ونفسياً، مع ترشيد الطاقة في العمل لا تركه تماماً. أي قد تضفي اللّامبالاة الظاهرية صفة العقلانية والتوازن على أصحابها، وتعيدهم إلى الاهتمام بأنفسهم بقدر ما يهتمّون بالعالم ومصيره.

اقرأ أيضاً: ماذا يعني حضور الفلسفة في الفضاء المعرفي السعودي؟

أي إنّ اللّامبالاة هنا قد تكون ضدّ خطاب التضحية بالذات، الذي تسعى الأقطاب السلطوية أو الثورية أو الدينية (على حد سواء) لترويجه بين مناصريها على أمل تحريك الجموع لصالحها. هنا تتحوّل اللّامبالاة إلى درجة من درجات الوعي ضدّ استغلال المشاعر؛ أي تتحوّل اللامبالاة إلى حالة منطقية في عين صاحبها. 

اللّامبالاة المنطقية: هل هي إحياء لفلسفة الرواقية؟   

عدم الانهماك في تفاصيل الواقع، الذي يعجز البشر عن تغييره، يُعدّ نواة الفلسفة الرواقية Stoicism التي تبلورت في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، على يد زينون الرواقي، الذي كان يُدرّس فلسفته لمريديه في رواق مُعمّد، ومن هنا جاء اسم شهرته، وتباعاً الفلسفة التي أرساها، وظهرت مجموعة من المفكرين الرواقيين من بعده، من أشهرهم الإمبراطور الروماني الـ16 ماركوس إيريليوس، والكاتب المسرحي الروماني سينيكا الأصغر.

 

تشجّع الرواقية على اللّامبالاة حيال الشخصيات المسمومة التي تستنزف قوى من حولها

المذهب الرواقي لا يرى العالم مثالياً، ولذلك يحثّ أتباعه على التمييز بين ما هو خارج عن إراداتهم، وما هو تحت سيطرتهم، ويستند المذهب إلى الحكمة البراغماتية، والاعتدال في ردود الأفعال والمشاعر بثبات انفعالي، سواء بالأمل الزائد أو الخوف، وعدم الاندفاع في أمور أكبر ممّا يحتملها المرء.         

من خلال كتابه الصادر بالإنجليزية في العام 2017 How to Be a Stoic: Using Ancient Philosophy to Live a Modern Life  كيف تكون رواقياً: فلسفة قديمة للحياة العصرية، يقول أستاذ الفلسفة الإيطالي والمحاضر بجامعة مدينة نيويورك ماسيمو بيجليوتشي:  

"الرواقية هي تطويع قدرتنا الذهنية للتركيز على ما هو في حدود سيطرتنا، وألّا نبالي بما لا نستطيع عليه صبراً، ولا تُعدّ اللّامبالاة هنا عدم اكتراث، وإنما تفهّم عميق بأننا لا نضمن أن تكون النتائج في صالحنا".    

اقرأ أيضاً: أصل الفلسفة اليونانية.. ابحث عن حكمة الشـرق

يركز بيجليوتشي في كتابه على تفنيد تعاليم الفيلسوف الرواقي أبكتاتوس، وتنطوي فلسفته على عدة محاور، من بينها: ضبط الانفعالات تجاه الأحداث التي نفقد السيطرة عليها، وإدراك أنّ الحياة واللحظة الحالية زائلة بكلّ ما فيها، وبالتالي هناك ضرورة لعدم استهانة المرء بالقليل الذي يملكه أو بالأحباء الذين يحيطون به.

 كما تنطوي الفلسفة على فهم أنّ الاجتهاد لا يكلل بالنجاح كلّ مرّة، ولهذا لا بدّ أن يُدرّب المرء نفسه على تجاوز الإحباطات عن طريق عدم الاكتراث بالنتيجة السلبية، حتى لا تؤثر على قواه النفسية وتثبطه فيما بعد.   

لكنّ الفلسفة الرواقية أكثر شمولاً من إدراك ما يُمكن التحكم فيه من عدمه، فهي مرتبطة بارتقاء الذات، والابتعاد عن الصغائر والوقوع في خطيئة الاستفزاز، وعدم جلد الذات، وعدم إصدار أحكام مُسبقة ضد الآخرين، وعدم الحكم على الآخرين بارتكاب المعصية، أي التنحي عن تقمّص دور روح الله على الأرض، لهذا قد تكون الرواقية على مستوى جماهيري مضادة للفكر الثيوقراطي.  

اقرأ أيضاً: الفلسفة كوصفة طبية

 كما تشجّع الرواقية على اللّامبالاة حيال الشخصيات المسمومة التي تستنزف قوى من حولها، وضرورة اختيار الدائرة المقرّبة بعناية، وتحثّ الرواقية على عدم قبول الإهانة، لكن ليس بالشجار، وإنما بالسخرية ممّن يمارسون الإهانة والاستهانة بعقول الجماهير؛ أي إنّ الرواقية تستند إلى التمرّد الهادئ، والردّ على الحروب النفسية بمثيل لها.

النشطاء الرواقيون 

لكن هذا لا يعني أنّ اللّامبالاة المنطقية حالة مثالية بشكل مُطلق، فاللّامبالاة ـ من ناحية أخرى -  حتى وإن كانت لأسباب منطقية، قد تكون مرتعاً للاستبداد والاستقواء على يد من يعوّلون على صمت الجماهير المُنهكة.

 

تأثر مانديلا بكتابات الفلسفة الرواقية الأولى بعدما قرأ في سجنه خواطر ماركوس إيريليوس

لهذا ظهرت دراسات حديثة في إطار الجمع بين المشاركة الفعالة للمواطنين في مجتمعاتهم من ناحية، والرواقية الحديثة Modern Stoicism  من ناحية أخرى، وظهر معها مصطلحات مثل: النشطاء الرواقيونStoic Activists ، على اعتبار أنّ الرواقية لا تعني عدم الاكتراث بالظلم أو آلام البشر أو سطوة الاستبداد، كما ورد في دراسة صادرة عن جامعة بنسلفانيا في العام 2018  بعنوان: (الرواقيون ما بين الأمل والخوف: كيف تكون رواقياً مشاركاً سياسياً The Stoics on Hope and Fear: How to Be a Politically Engaged Stoic للباحث (جيسون ريدوخ).

فالتحكّم في ردود الفعل أمام سطوة القهر والتجبر، وغياب العدالة وعدم الانجراف في مغامرات غير محسوبة، لا يعني التوقف عن النشاط الحقوقي، لكنّ الرواقية الفاعلة هنا تعني ضرورة اختيار طرق تضمن الاستمرار لا الانتحار على صخرة النضال؛ أي إنّ الناشط الرواقي هدفه صنع جماعات للضغط، وليس تقديم نفسه ومن حوله قرباناً. كما أنّ الرواقية واختيار المعارك بعناية وسيلة للحماية من الانهيارات العصبية والشتات الذهني.

وقد عُرف هذا التوجّه الفكري باسم (المعارضة الرواقية) Stoic opposition  في القرن الأوّل الميلادي في عهد الأباطرة الرومان، لكنّ تسميتها هكذا كانت من نتاج الأعمال الأدبية للمؤرخ الفرنسي (غاستون بواسييه)  في القرن التاسع عشر.

اقرأ أيضاً: لماذا يهاب العرب والمسلمون الفلسفة؟

في هذا الصدد، يُمكن تلخيص الرواقية بالقول: إنها ترك المرء ما لا يسعه تغييره، في سبيل الاهتمام العقلاني بما يُمكن تغييره، حسب إمكاناته المتاحة.  

 قد تتعرّض الفلسفة الرواقية، في ظلّ الأحداث السياسية العالمية، لكثير من الانتقادات العصرية، وهو أمر مطلوب لمراجعة الفكرة، إلّا أنّ تلك الفلسفة القديمة تجلّت في فكر كثير من المناضلين، ومن بينهم الرئيس جنوب الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، خاصّة في فترة سجنه التي استمرّت 27 عاماً في سجون حكومة التمييز العرقي.

لقد تأثر مانديلا بكتابات الفلسفة الرواقية الأولى، بعدما قرأ في سجنه خواطر ماركوس إيريليوس، وساعدته على تجاوز الذات وتمييز ما لا يسعه تغييره في محبسه، وتجلّت في مذكراته: long walk to freedom  طريق الحرّية الطويل، الصادر العام 1994.   

لا يُمكن القول إنّ مانديلا كان لامبالياً سياسياً، وإنما أصبح غير مبالٍ بالتمسّك بأسلوب نضاله القديم، واستمرّ في نضاله، لكن عن طريق تطوير الذات، أو تحرّر العقل من سجونه قبل تحرّر الجسد نفسه من المحبس، فما قد يبدو أنّه لامبالاة ظاهرية وانهماك في التأمل والفلسفة الذاتية، قد يكون استجماع قوى لتحدّيات مستقبلية.  



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية