الليبرالية القلقة: الوفد والقومية والاستقلال

الأحزاب

الليبرالية القلقة: الوفد والقومية والاستقلال


01/05/2019

كان الوفد أكبر وأول الأحزاب الجماهيرية في مصر؛ انتمى مؤسسوه إلى مجموعة حزب الأمة القديم، وأخذوا عن الأخير تقاليده الليبرالية والقومية العلمانية، واستلهموا راديكاليتهم السياسية من منبعين: الأول تقاليد الحزب الوطني، وزعيمه مصطفى كامل، وذلك فيما يتعلق بجذريته تجاه التواجد الاستعماري البريطاني في مصر مع التخلي عن العنصر (العثماني) في فكر كامل.

اقرأ أيضاً: الأحزاب العربية: خيبات الفرص الضائعة
أما المنبع الثاني؛ فكان ثورة 1919، التي نشأ الحزب في تيارها الجارف، والتي تمثل الحراك الجماهيري الأول من نوعه في تاريخ مصر الحديث؛ بسبب انطلاقها من أسس قومية جامعة، عبّر عنها الوفد بصفته "حزب الحركة الوطنية" الجامع لكل الطبقات والطوائف، المطالب باستقلال مصر، والمحدود سياسياً بحدودها الجغرافية، وقد منحته جماهير الثورة شرعية الحديث باسم الأمة المصرية، الشرعية التي احتفظ بها حتى النهاية (ولو صورياً في فترات تدهور شعبية) مُمثلة في المبدأ الجمهوري (الذي أثار قلق الإنجليز)، والقائل: إنّ "الأمة هي مصدر كل سلطة"، متأرجحاً بين ضربات الملك والإنجليز والأحزاب المعارضة تارة، وتناقضاته الداخلية تارة أخرى.
انتمى مؤسسوه إلى مجموعة حزب الأمة القديم

الجذور الاجتماعية لفكرة الاستقلال
مع نهاية القرن التاسع عشر؛ كان التمايز الطبقي الحديث للمجتمع المصري يزداد تعمقاً وانتشاراً، بالترافق مع إلحاق مصر بالسوق العالمية، عبر تجارة المحاصيل النقدية (في مقدمتها القطن)، ونشوء بنوك التسليف الزراعي؛ حيث صعدت طبقة من كبار الملاك بالتزامن مع النهضة الزراعية التي واكبت إنشاء الجمعية الزراعية الخديوية.

انتهج الوفد منذ البداية إستراتيجية الاعتماد على الجماهير ومحاولة الاتساق مع رغبات وأحكام الرأي العام

تدريجياً؛ نمت في صفوف تلك الطبقة مشاعر العداء للاحتلال كردّ فعل على سياسته في تصدير القطن، والتي منحت الأولوية والتسهيلات الكافية (عبر التحكم في الأسعار والتعامل المباشر مع المستوردين) لضمان أكبر قدر من الأرباح للحكومة والمُصدرين، وغالبيتهم من الأجانب، وذلك على حساب الملاّك أنفسهم، والذين أقاموا بعيداً عن ملكياتهم، على عكس طبقة متوسطي الملاك من الأعيان المقيمين في الريف، والذين تقع ملكياتهم بين 10 إلى 200 فدان، وقد عانى هؤلاء من تحكّم بنوك التسليف التي وقع جميع سكان الريف تحت رحمتها؛ بحكم أنّهم كانوا ينفقون مداخيلهم مقدماً.
توافقت مصالح كبار الملاك ومتوسطيهم إذاً في السعي نحو تنظيم اقتصادي مختلف لإدارة ملكياتهم، وبالتالي فهموا المسألة باعتبارها سياسية، واقتنعوا بأنّ التخلص من سلطة بريطانيا ومصالحها التجارية في مصر؛ هو ضمان لمصالحهم المالية الخاصة، ونما هذا الوعي في صفوف طبقتي كبار ومتوسطي الملاك على مدار العقدين الأولين من القرن العشرين، خاصة مع تفاقم أزمات الرهون، والتهديد بالحجز على الأراضي من قبل بنوك التسليف الزراعي.

اقرأ أيضاً: الشرعية الأصولية وإرباك المشهد السياسي في مصر
كما تصاعدت مشاعر الاحتلال في المدينة التي شهدت توسعاً في الإدارة الحكومية لم يناظره توسع مماثل في توظيف المصريين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة، رغم قلة أعدادهم في ذلك الوقت؛ حيث احتل الأجانب المناصب العليا في الحكومة، واحتجت الإدارة البريطانية بقلة عدد "الخبراء" المصريين المتاحين، مع إبقائها على مستوى منخفض للإنفاق على التعليم، مما جعل عدد الطلاب في المدارس العليا؛ كالطب، والهندسة، والتجارة، أقل من الطلب في حالة منح المصريين الفرصة كاملة للانضمام للحكومة، كذلك ساهم التحيز ضدّ المصريين في سياسات التوظيف إلى عدم اكتسابهم الخبرة العملية المطلوبة، واتُّهموا من جانب سلطات الاحتلال بفقدانها، كما كان لتمييز موظفي الحكومة الأجانب عن المصريين دور في مضاعفة السخط ضدّ الاحتلال، وبالتالي تنامى السخط على الاحتلال من قبل الطلاب والموظفين والمهنيين الذين شكلوا الطبقة المتوسطة المدينية، أو طبقة "الأفندية"، الذين رأوا في مصر المستقلة فرصاً أوسع في التعليم وأفضل في الوظائف الحكومية.

اقرأ أيضاً: الكشف عن ثروة خامنئي يستفز أحزاباً شيعية في العراق
شكلت الطبقات الثلاث قاعدة وبُنية الوفد طوال مسيرته السياسية؛ حيث شكّل كبار الملاك أغلبية الهيئة العليا للوفد منذ تأسيسها، في نيسان (أبريل) 1919، بينما شكل الأفندية قيادات الوفد على المستوى المحلي، وكان كثير من الأفندية بالأساس أبناء متوسطي الملاك في الريف وقد تعلموا وتوظفوا في المدن؛ فسهّل تنقلهم السلس بين نمطي حياة الريف والمدينة قياداتهم الحراك في الأيام الأولى للثورة، التي قادتها، وفق ماريوس ديب في كتابه (سياسة الحزبية في مصر .. الوفد وخصومه 1919 ـ 1939)، "التطلعات الاقتصادية لطبقات المجتمع المصري المختلفة، والتي اتفقت في تلك اللحظة من التاريخ على أنّ في الاستقلال تحقيقاً لتلك التطلعات على اختلافاتها، وعلى أن الوفد هو الممثل الأمثل والأكثر جدارة لحقيق تلك التطلعات".
شعار حزب الوفد

ليبرالية الحد الأقصى
اكتسب الوفد شرعية تمثيل الشعب من رغبة الأهالي التي يعبّر عنها رأساً أو بواسطة مندوبيه في الهيئات النيابية، وبالتالي انتهج منذ البداية إستراتيجية الاعتماد على الجماهير ومحاولة الاتساق مع رغبات وأحكام الرأي العام، إما لنزعة ليبرالية ودستورية حقيقية وجدت طريقها بالفعل لدى زعمائه (كان أغلبهم من الحقوقيين)، وفي مقدمتهم سعد زغلول، أو لأنّ الجماهير مثّلت الشرط الذي يحفظ وجوده في مواجهة خصومه: القصر والإنجليز والأحزاب "المعتدلة"، أو لكلا السببين معاً.

تمثّل حلّ سعد زغلول للمسألة الوطنية بمسارين قانونيين سلميين هما: تدويل المسألة المصرية أو التفاوض المباشر

تمثّل حلّ سعد زغلول للمسألة الوطنية في مسارين قانونيين سلميين، هما: تدويل المسألة المصرية بإنشاء هيئة تديرها عصبة الأمم للضغط على البريطانيين، أو التفاوض المباشر (المشروط) مع بريطانيا، وتحقيق الاستقلال بوصفه "مناظرة عقلية" تقودها الحجة والإقناع ووعود بريطانيا (أثناء الحرب العالمية الأولى) بالاستقلال؛ حيث يمكن إحراج الحكومة البريطانية أمام ناخبيها والعالم، وفضح ممارسات وسوء الإدارة البريطانية لمصر تحت ضغط الحراك الجماهيري (المنضبط) وحملات المقاطعة الاقتصادية.
عاد سعد زغلول مُحبطاً من مؤتمر الصلح الدولي بباريس، العام 1918، ليجد نفسه في مواجهة "المعتدلين" من أتباع عدلي يكن، رئيس الوزراء وزعيم "الأحرار الدستوريين"، وهو حزب نخبوي بلا تنظيم قاعدي، وكان على استعداد للتفاوض مع بريطانيا دون شروط مسبقة، وهو ما تحقق بقبول يكن المفاوضات التي أعقبت تحقيق "لجنة ملنر" في أسباب الثورة، والتي أطلق الوفد (بقيادة سعد) حملة لمقاطعتها أحرزت نجاحاً ساحقاً، ليتم نفي زغلول هذه المرة إلى جزيرة سيشل، بهدف تعزيز مواقف "العناصر المعتدلة"، بحسب رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، لويد جورج.
اكتملت، في النهاية، مفاوضات عدلي-كيرزون، ونتج عنها تصريح فبراير الشهير، من طرف بريطانيا، والذي أنهى الحماية المفروضة منذ الحرب العالمية الأولى، محولاً مصر من سلطنة إلى مملكة، ومانحاً إياها استقلالاً شكلياً حَفِظَ لبريطانيا كلّ مصالحها وامتيازاتها العسكرية والاقتصادية.

اقرأ أيضاً: هكذا ردت الأحزاب الجزائرية على مقترح قائد الجيش
وتضمّن التصريح تشكيل لجنة لإعداد الدستور، الذي صدر العام 1923، رغم اعتراضات الوفد على عملية وضعه، وقد عكست الاعتراضات طابعاً ديمقراطياً حقيقياً، تجلى في مطالبة زغلول بانتخاب لجنة لإعداد الدستور، وتمسكه بقانون انتخاب للبرلمان دون شروط مقيدة للحريات، واعتراضه على مواد الدستور التي صيغت على خلاف مبدأ أن "الأمة هي مصدر كلّ السلطات".
وعقب عودته من منفاه الثاني؛ قاد سعد حملة الوفد الانتخابية (طبقاً لدستور 23)، ليفوز الحزب بـ 90% من مقاعد البرلمان وترأس سعد أول حكومة وفدية في 1924 ستضع أيديولوجيا الحزب أمام أول اختبار حقيقي.
لم يكن حكم الوفد مقبولاً لدى الإنجليز إلا في حالة طرح "مشروع معاهدة أو اتفاق"، وذلك لأنّ دخوله في اتفاق مع بريطانيا يعني تأمين التصديق الشعبي عليه، في الوقت الذي اتبع البريطانيون فيه سياسة الحكم عبر وسطاء ممثلين في القصر أو القريبين منهم داخل حزب الأحرار، بينما اصطدم طموح الوفد الدستوري البرلماني بطموحات الملك فؤاد الأوتوقراطية لإلغاء الدستور والانفراد بالحكم، في ظلّ اتهام الإنجليز للوفد بانتهاج سياسة إحلال وتمييز ضدّ موظفي الحكومة الأجانب، خاصة المستشارين القانونيين والماليين، ومحاولته تحجيم نفوذهم.

اقرأ أيضاً: الانتخابات الرئاسية في الجزائر تشق أكبر الأحزاب الإسلامية
دخل سعد المفاوضات مع حكومة رامزي ماكدونالد العمالية، اعتقاداً منه باختلاف موقفها عن موقف "الإمبرياليين"، لكن المفاوضات فشلت نتيجة رفض سعد لأيّ تواجد عسكري بريطاني على الأراضي المصرية، وبالطبع رفض المساهمة في تكاليف التواجد البريطاني بمصر، ومع فشل المفاوضات أدرك الإنجليز ضرورة التخلص من حكومة سعد لتأتي، في العام نفسه، حادثة اغتيال اللورد لي ستاك الحاكم العام للسودان، ويتم استخدامها ذريعة للضغط على سعد لتقديم استقالته، وهو ما حدث.
عقب تنحيته عن الوزارة إلى رئاسة البرلمان؛ حاول سعد التدخل في مشروع قانون يسمح بانتخاب العُمَد بدلاً من تعيينهم من قِبل وزارة الداخلية؛ حيث مثلت اللامركزية جزءاً أساسياً من أيديولوجيا الوفد المنبثقة بدورها عن تطلعات الملاك المتوسطين والأفندية في السيطرة على المجالس القروية والبلدية.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية المصرية بعد ثورة يناير: متى تتجاوز مربع الشعارات؟
ويصف بانيوتي فاتيكوتيس سلوك الوفد الحزبي وأغلبيته داخل البرلمان خلال تلك الفترة بأنّه كان "منسجماً مع تطور نظام برلماني ودستور سليم في مصر"، وقد تم بالفعل تعديل قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات عبر مجلس الشيوخ، رغم معارضة سعد، وكان لأزمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق دور في بيان السلوك الديمقراطي داخل صفوف الحزب نفسه؛ ففي حين اتخذ سعد موقفاً معارضاً لعبد الرازق، وقف مثقفو الوفد إلى جانبه في الكتابة والتعبير، رغم انتمائه لخصومهم من الأحرار الدستوريين.
انتهت تلك الحقبة من حياة الوفد بحل الملك للبرلمان، واعتزال زعيمه التاريخي، سعد زغلول، للسياسة حتى وفاته العام 1927.
سعد زغلول

حصار النظام البرلماني
تولى النحاس زعامة الوفد عقب وفاة زغلول، ليتحول موقف الحزب، بين عامَي 1926-1928، نحو القبول بالأحرار الدستوريين كشركاء في الحكومة، على أساس ائتلافي؛ حيث دفع عداء الإنجليز والملك وأحزاب القصر للوفد إلى تبنيه إستراتيجية قائمة على حماية النظام البرلماني حتى لو طغى ذلك تدريجياً على مهمته التي أعلن القيام لأجلها، أي إجلاء الاحتلال، وبالتالي ارتفعت أولوية النظام البرلماني فوق مستوى أولوية الاستقلال؛ والحال أنّ مطامع الملك فؤاد في الحكم الديكتاتوري (على أساس ديني في ظلّ تودده للأزهر طمعاً في لقب "الخليفة" عقب سقوط الإمبراطورية العثمانية)، لم تكن تصبّ سوى في مصلحة الإنجليز.

عاد زغلول مُحبطاً من مؤتمر باريس 1918 ليجد نفسه في مواجهة "المعتدلين" من أتباع عدلي يكن

لكن ذلك لم يعق مساعي الملك وبعض قادة الأحرار الدستوريين عن حلّ البرلمان، وهو ما حدث العام 1929؛ بقرار من رئيس الوزراء، ورئيس الأحرار الدستوريين، محمد محمود، وبمواقفة إنجليزية ضمنية، ليرد الوفد في المقابل بحملة مقاطعة لنشاط الحكومة الجديدة المكونة من حزبي الأحرار والاتحاد (الحزب التابع للملك)، ومع ذلك عاد الوفد لاكتساح الانتخابات التالية، ليبدأ بعدها مفاوضات جديدة مع الإنجليز الذين دأبوا على نفس السياسة المتمثلة في عدم السماح للوفد بتولي الحكم إلا ضمن إمكانية التوصل لمعاهدة.
ولم يمر عام حتى أظهر الملك ما كان يُضمره، وألغى دستور23 (رغم معارضة الوفد والأحرار الدستوريين) مُعلِناً دستوراً جديداً، العام 1930، أقل ديمقراطية وأكثر تماشياً مع رغبته في الحكم الأوتوقراطي؛ حيث ضمن له سلطات تنفيذية وتشريعية واسعة، وقد أيده الإنجليز الذين خافوا من تولّي الوفد للسلطة حال وفاة الملك فؤاد المتوقعة، وتأسيس "الجمهورية"، وعزّزت تلك المخاوف المواقف الراديكالية للنحاس ومكرم عبيد والنقراشي، وكان الثلاثة مُصرّين حتى تلك اللحظة على أنّ "أية وزارة ينبغي أن تكون وزارة أغلبية"، إلى جانب تحريضهم وتنظيمهم المستمر لحملات المقاطعة التجارية للإنجليز.
كان الفلاح المصري مرادفاً لكل ما هو نقيض لـ "الأتراك/الأجانب" والطبقات العليا المصرية

الوفد والقوى الاجتماعية
من الأهمية بمكان معالجة علاقة الوفد بالطبقات والفئات التالية: الفلاحين، والعمال، والبرجوازية المحلية، والطلاب (خاصة دورهم في عودة دستور 23) والتحولات التي شهدتها تلك العلاقة منذ الثورة وحتى المؤتمر العام الأول للوفد، عام 1935، الذي أقرّ أول برنامج إصلاحي (اجتماعي-اقتصادي) للحزب، استهدف تلك الفئات بالتحديد.

عقب عودته من منفاه الثاني قاد زغلول حملة الوفد الانتخابية ليفوز حزبه بـ90% من مقاعد البرلمان

شَكّل الفلاحون الغالبية العظمى من مجموع السكان، وكان الفلاح المصري مرادفاً لكل ما هو نقيض لـ "الأتراك/الأجانب" والطبقات العليا المصرية على السواء، وقد عانى تحت وطأة المرض وسوء التغذية، ما دفع الوفد نحو اتخاذ خطوات جادة لتحسين أحوال القرية، وتشريع توزيع أكثر عدالة للضرائب في برنامجه، عام 1935، والمنبثق عن مؤتمره السنوي الأول.
كان الفلاحون مؤيدين عفويين للوفد، وقادتهم في ذلك مشاعر الاضطهاد المُضاعَف من قبل الحكومة التي تعمل لصالح الإنجليز، وملاك الأراضي؛ فرأوا في الاستقلال فرصة حقيقية لتحقيق إصلاح زراعي (بدأ مع إقرار قانون التعاونيات الزراعية في 1927) يكفل لهم ظروفاً صحية ومعيشية أفضل، ويمكن القول: إنّهم استعاروا الوعي السياسي لأعيان قراهم من الملاك المتوسطين، خاصة أنّ غالبيتهم كان لهم أقارب من الأزهر أو المصالح الحكومية أو الأفندية".
كانت لكاريزما سعد زغلول، وتأكيده المستمر على أنّه "فلاح ابن فلاح"، وقبوله بنعت "زعيم الرعاع" دور في التفاف الفلاحين حوله، وانخراطهم الملحمي في مقاومة قوات الاحتلال أثناء ثورة 1919، إلى الحدّ الذي تخطى حدود وطموحات سعد وكلّ الوفديين.

اقرأ أيضاً: العراق.. الأحزاب الدينية تُطارد الشباب بتهمة الإلحاد
في المقابل؛ لم تظهر البرجوازية المصرية إلى الوجود إلا مع الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت شرائح من كبار الملاك في التوجه نحو الاستثمار الصناعي مستفيدة من إجراءات الحماية البريطانية أثناء الحرب، لكن تلك البرجوازية ظلت جزءاً من "اتحاد الصناعات" الواقع تحت السيطرة الأجنبية، حتى تأسس بنك مصر، العام 1920، لمجابهتها معتمداً في البداية على تمويل كبار الملاك وكبار التجار المصريين، وقد عبّر طلعت حرب مؤسس البنك عن هذا الهدف بقوله: إنّ "الاستقلال السياسي هو مطلب التجار"، وذلك من أجل "توفير ظروف اقتصادية أفضل"؛ حيث أدرك التاجر والمُصنِّع المصري أنه بلا نفوذ فيما يتعلق بالاتفاقيات الاقتصادية والتعريفات الجمركية التي تفرضها حكومته، تحت ضغط مصالح الاحتلال التجارية.

اقرأ أيضاً: أحزاب تونسية تكشف بالوثائق تورّط "النّهضة" في الاغتيالات السياسيّة
وقد دعم الوفد حملات ترويج للمنتجات المحلية وحشد الدعم لبنك مصر؛ الذي نشأ في أعقاب ثورة 19، تعبيراً عن الطموح البرجوازي المديني في صفوفه، وصفوف الطبقة الوسطى المدينية بصفة عامة، وقطاع المهنيين منهم خصوصاً (والذين ازدادت أعدادهم مع إعادة فتح الجامعة المصرية عام 1925)، وذلك على أمل توفير فرص عمل أمام الأفندية الممتعضين من سيطرة الأجانب على الأنشطة التجارية والصناعية الكبرى، وبالتالي عدم منحهم الفرصة لاكتساب الوظائف أو الخبرة في تلك المجالات.
وفيما يخص العمال؛ أنشأ الوفد "لجنة الشؤون العمالية" بمجلس النواب، التي أقرت العديد من التشريعات العمالية، ضمن برنامج الإصلاح في الفترة 1935-1939؛ حيث تم الاعتراف الرسمي بالنقابات العمالية من جهة وزير التجارة والصناعة الوفدي، عبد السلام فهمي جمعة، وهي النقابات التي سبق للوفد الانخراط بها منذ أول يوم للثورة، مع تأسيسه "الاتحاد الأعلى لنقابات العمال بوادي النيل"، الذي سعى إلى مواجهة النفوذ الشيوعي داخل الحركة العمالية التي دانت بولاء كبير للوفد حتى خلال الفترة التي بدأ نفوذه فيها بالتراجع.

اقرأ أيضاً: "جيل 2018" في البصرة يلفظ النظام والأحزاب السياسية... وميليشيات إيران
لكن، في الوقت الذي وقف فيه الوفد بالمرصاد، ضدّ أيّ نزوع يساري للحركة النقابية العمالية، وضدّ احتلال المصانع، تعاطى بتعاطف مبدئي مع مطالب العمال بزيادة الأجور، وتخفيض ساعات العمل، وضمان التأمينات والمعاشات، والإجازات مدفوعة الأجر، وكذلك الرقابة الحكومية على تعاقدات العمل، وعلى المنشآت الصناعية، وقد تطور ذلك الدعم إلى منح إجازات مدفوعة الأجر للعمال، دون استشارة مكتب العمل التابع لوزارة الداخلية، والذي لم تتوقف المطالبات الوفدية بفصله عن الوزارة.
وجرى هذا في ظلّ سعي الوفد المحموم لتوحيد القوى الاجتماعية تحت قيادته، حتى أنّ سعد زغلول أنكر وجود فوارق طبقية بمصر لمواجهة اتهام طبقة الباشوات للحركة الوطنية بسعيها لتكريس "حكم الفلاحين" المستبد، وكانت تلك السمة "الشعبية" التي ترفض أيّ شكل من أشكال الانقسام داخل المجتمع، بحسب ماريوس ديب، تمثل ميلاً طبيعياً لأيّة حركة وطنية تواجه استعماراً.

اقرأ أيضاً: هل تستميل الأحزاب العراقية الناخبين بالخداع؟
ومثلما اعتمد الوفد على القوى العمالية كان الطلاب أحد رهاناته الأساسية في الصراع مع الإنجليز والقصر، وتجلى ذلك في انتفاضة الطلبة، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1935، التي كانت بمثابة عامل الحسم في عودة العمل بدستور 23؛ فقد أدت حادثة "كوبري عباس" في ذكرى "عيد الجهاد"، إلى مقتل 3 طلاب على يد ضباط إنجليز، ما دفع الحركة الطلابية للضغط على النحاس للانضمام لـ "الجبهة الوطنية"، من أجل إعادة العمل بدستور 23، وبدء المفاوضات مع الإنجليز، وبالفعل سمح الإنجليز بعودة دستور 23، وتشكيل النحاس للوزارة بعد فوز الوفد بالأغلبية، وهو ما أسفر عن معاهدة 1936 التي ألغت الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية الإسلاموية.. إلى متى؟
وحين تولى فاروق العرش، العام 1937، أُقيل النحاس، وعُيِّن محمد محمود، الذي مارس هوايته المعتادة في حل مجلس النواب، وتم التلاعب بانتخابات 1937 الجديدة من خلال تزوير الدوائر الانتخابية لصالح منافسي الوفد، وإرهاب الوفديين باحتجاز بطاقاتهم الانتخابية، وهكذا استمر الانحلال التدريجي للوفد من على دفة قيادة الحركة الوطنية مع تزايد نفوذ القصر ممثلاً في علي ماهر، وإنشائه لوزارة "الشؤون الاجتماعية" لمواجهة سيطرة الوفد على الجماهير، وتصاعد نفوذ الجماعتين الجديدتين: "مصر الفتاة" و"الإخوان المسلمين" وحصولهما على دعم سياسي ومالي وتنظيمي من القصر، وتمثل خطرهما الحقيقي على شعبية الوفد في اكتسابهما الشعبية في صفوف طبقة الأفندية (المتأثرة بظروف البطالة)، وهي الطبقة التي مثلت حتى ذلك الوقت رأس حربة الوفد وعنوان قوته.
ثورة 1919، التي قادها الوفد، كانت بمثابة التجلي الأول للقومية المصرية

القومية العلمانية
لا بد ختاماً من جرد نقدي لموقف الوفد من الدين والهوية، بصفته حزباً قومياً علمانياً؛ خصوصاً أنّ ثورة 1919، التي قادها الوفد، كانت بمثابة التجلي الأول للقومية المصرية القائمة على النزعة الوطنية الليبرالية، المتمثلة في قطع الروابط بين مصر والإمبراطورية العثمانية من ناحية، وبين مصر والاستعمار البريطاني من ناحية أخرى.

لم يكن حكم الوفد مقبولاً لدى الإنجليز إلا في حالة طرح "مشروع معاهدة أو اتفاق"

وكانت مصر، بالنسبة إلى سعد زغلول، الدولة التي "يتحد فيها المسلمون والأقباط بالرباط المقدس للولاء للوطن، والتي تقوم فيها حكومة دستورية، وتُصان فيها حقوق الفرد وتتحرر المرأة، ويصبح التعليم الوطني فيها عاماً وتُرفع صناعتها الوطنية مستوى المعيشة"، وظلّ الوفد مؤمناً بالأسس الديمقراطية لسلطته المستمدة من الشعب، وليس من "الحق الإلهي" أو الوراثي/الملكي.
وتبدّت علمانية الوفد في انحياز مثقفيه لعلي عبد الرازق في أزمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي أنكر فيه وجود حكومة في الإسلام، وهو الكتاب الذي صدر بالتزامن مع جولات الملك فؤاد، الطامحة للقب الخليفة، كما رفض الحزب، العام 1937، برئاسة النحاس، إقامة حفل ديني معادل لحفل تتويج الملك الجديد فاروق، كان يضم شيوخاً من الأزهر وأمراء من أسرة محمد علي، وفي العام نفسه؛ واجه الوفد معارضة طلاب الأزهر الذين وقّعوا عريضة طالبوا فيها بإدخال التعليم الديني للجامعة المصرية، ومنع اختلاط الجنسين، وهي المطالب عينها التي رفعها حزب "مصر الفتاة" الإسلامي (الفاشي) الذي دأب على مهاجمة أحد أهم مكتسبات ثورة 19، وهو خروج المرأة للتعليم.

اقرأ أيضاً: أحزاب معارضة تركية تتحالف لمواجهة أردوغان
وما تزال علمانية الوفد تثير جدلاً لا ينضب بين الباحثين؛ حيث يصف نداف صفران ليبرالية الحركة الوطنية بأنها لم تكن أيديولوجيا "إلا بالقدر التي عكست به الأفكار التي اعتنقها زعماؤها، وليست تعبيراً عن إجماع شعبي على هذه الأيديولوجيا"، ويؤكد صفران أنّ القوى الحقيقية التي حركت ووحدت جماهير العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة تمثلت في "كراهية السلطة الأجنبية من الوجهة الدينية القائمة على نظرة الإسلام للعالم، والمعاناة الاقتصادية الشديدة".
ويشير صفران، بالتالي؛ إلى أنّ علمانية الوفد كانت محدودة بنخبته، بينما تحركت الجماهير وفق أيديولوجيتها الدينية المعادية للاستعمار، تلك الأيديولوجيا التي ستتأكد مع نهاية الثلاثينيات في حركتي الإخوان ومصر الفتاة.
وإلى جانب صفران؛ يقدم شريف يونس، من خلال أفكاره حول طبيعة الدولة المصرية الحديثة طرحاً يبرز نخبوية خطاب ثورة 1919، ويرى يونس أنّ لأنتلجنسيا (طبقة متعلمة متخصصة) الدولة المصرية الحديثة خطاباً واحداً يحركها، هو خطاب الهوية، الوطنية أولاً، ثم الإسلامية لاحقاً، وكلاهما يعبر عن مصالحه الخاصة المرتبطة بجهاز الدولة.

اقرأ أيضاً: "الأحزاب الإسلامية".. كيف نقرأها؟
وبالنسبة إلى يونس؛ تأسست دولة محمد علي من أعلى، مستخدمة أدوات قسر وتجميع مركزة داخل جهازها المتنامي والذي تكوّن من أنتلجنسيا تفصلها عن عموم الشعب مسافات بعيدة، ما دفعها دوماً للسعي وراء مصلحتها الخاصة، مرة في نزاعها مع ضباط الجيش غير المصريين على المراتب والأجور (ثورة عرابي)، وأخرى في نزاعها مع الموظفين الأوروبيين داخل الحكومة (الأفندية في ثورة 19)، وقد "كانت تلجأ دائماً لطبقات وفئات اجتماعية أخرى لدعم ثورتها" التي ارتبطت دوماً بفقر جهاز الدولة لا الشعب؛ حيث يؤكد يونس أنّ عمليات "النهب الواسع للريف ولعديد من أقسام السكان في عهد محمد علي من أجل بناء الدولة الحديثة، وكذلك في النصف الأول من عهد إسماعيل" لم تحرك شعرة واحدة في رأس تلك الأنتلجنسيا.
ويـمثّل الوفد، في رأي يونس، تلك الأنتلجنسيا في ثوبها الحقوقي المدني هذه المرة، والتي أُتيح لها أن تقود شعباً من "طلاب القوت"، و"تحشره في قمم الشعارات الوطنية التي كانت قد تبلورت بشكل محافظ ونسقي، على يد أحمد لطفي السيد، وحزب الأمة من جهة، وبشكل شبه إسلامي (راديكالي)، على يد مدرسة مصطفى كامل والحزب الوطني من جهة أخرى، لتتسلم السلطة في النهاية طبقة كبار الملاك، التي دخل بعض أفرادها عالم الصناعة آنذاك".

اقرأ أيضاً: 9 دول ينشط فيها اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية
في المقابل؛ يرى ماريوس ديب أنّ علمانية الوفد كانت كاملة، غير منقوصة، وممتدة عبر قطاع واسع من الطبقة المتوسطة المدينية، بل والبرجوازية المحلية الناشئة، ويقصر النخبوية على حقل المطالب الاقتصادية لطبقات الأفندية وكبار ومتوسطي الملاك.
في المحصلة؛ مثّل الوفد تجربة فريدة في تاريخ السياسة المصرية، كانت التجربة الليبرالية؛ بل الحزبية الوحيدة من نوعها، التي حرصت على الديمقراطية البرلمانية، ونفرت من التضحية بها على مذبح الملك أو الوطنية أو الإسلام، وظلّ الحزب في الجزء الأكبر من حياته مستنداً إلى الجماهير، مراكماً رصيداً سياسياً على أساس وطني، في ظلّ تحوّل الجماهير لمصدر ضغط على الحزب وتوجيه له، في وقتٍ شكلت فيه اللجان المحلية ولجان الدوائر الانتخابية مصدر قوة أعضاء الحزب من المتعلمين والمثقفين، ومصدر ضغطهم على قيادة الحزب، ما جعل تمركز السلطة في يد الهيئة العليا للحزب ديمقراطي الطابع.

اقرأ أيضاً: انتكاسة غير مسبوقة لأحزاب الإسلام السياسي في الجزائر
سعى الوفد للتأسيس لحكم دستوري قائم على برنامج جامع شعاره القومية العلمانية، محاولاً تجاوز إشكاليتي "إسلامية السياسة" المتجذرة في تكوين الدولة المصرية، والسلطوية الراسخة منذ أيام محمد علي، لكن وجود سلطة استعمارية غاشمة كانت متربصة لابتلاع أيّة محاولة لتأسيس مجال سياسي دستوري حرّ، جعلت محاولات الوفد تدور في دائرة مفرغة كسرها الضباط بسهولة حين تداعى النظام أمام تناقضاته.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية