المرأة العاملة والمساواة الزائفة

المرأة العاملة والمساواة الزائفة


07/03/2018

يرجح بعض الباحثين أنّ اليوم العالمي للمرأة، جاء نتيجة الإضرابات النسائية التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1856في مدينة نيويورك ضد الظروف اللاإنسانية التي كنَّ يجبرن على العمل فيها، وتم قمع هذه المظاهرات بوحشية، لتعود من جديد في 8 آذار 1909 حيث قادتها عاملات النسيج في مدينة نيويورك، تحت شعار "خبز وورود"، وفي عام 1945 على إثر انعقاد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس تم الاحتفال بيوم المرأة العالمي. وفي عام 1977 تم اعتماد الثامن من آذار كيوم عالمي للمرأة بعد أن تبنّته منظمة الأمم المتحدة، للتأكيد على حقوق المرأة، وتقدير إنجازاتها؛ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

لا يسعنا في مثل هذا اليوم إلّا أن نلقي نظرة على الخيبات التي مازالت تتمرّغ بها الدول العربية

لا يسعنا في مثل هذا اليوم إلّا أن نلقي نظرة على الخيبات التي مازالت تتمرّغ بها الدول العربية، وذلك من خلال تقرير الفجوة بين الجنسين، الذي أطلقه منتدى الاقتصاد العالمي للعام 2017، وجاء فيه أنّ الدول العربية مازالت تقبع في ذيل القائمة المؤلفة من 144 دولة، فيما يرتبط بحقوق الجنسين، ومشاركة النساء في الاقتصاد، وسوق العمل، والتحصيل العلمي، ومستوى العناية الصحية، والتمكين السياسي؛ حيث احتلت تونس المركز117 عالمياً، وهي الأولى عربياً، واليمن في المركز 144، أي الأخيرة عالمياّ وعربياّ.

الفجوة التي تقصّاها التقرير، تخفي في واقع مجتمعاتنا فجوات أبعد من تفاوت الحقوق المدنية والسياسية بين الجنسين، وهي حرمان المرأة من إنسانيتها، من خلال التناقض بين القوانين التي أقرّت حقها في المساواة، والمنظار التقليدي الذي يغلّف هذه القوانين، لنصل إلى نتيجة أنّه حتى هذه النسبة الهزيلة والمؤلمة التي بيّنها التقرير، ما هي إلا حقيقة ظاهرية لمساواة زائفة، تخبّئ بين طيّاتها ما هو أشد ألماً، والأمثلة على ذلك كثيرة.

تقرير الفجوة بين الجنسين الذي أطلقه منتدى الاقتصاد العالمي للعام 2017: الدول العربية بذيل القائمة المؤلفة من 144 دولة

سأكتفي هنا بنموذج المرأة العاملة في مجتمعاتنا لتأكيد زيف هذه المساواة، فبالرّغم من المساواة القانونية التي يمليها قانون العاملين الموحّد، والذي يحقق لها شروطاً مساوية للرجل داخل حقل العمل، إلّا أنّ المرأة تحمل أعباء مضاعفة يلقيها النظام الذكوري العام على عاتقها، فينقلب العمل من حالة مساواة وتعبير عن الذات وتأكيداً لها، إلى حالة تشظي وسحق للذات، وأظن أنّ الجميع قد تسنّى له رؤية المشهد المزري للمرأة العاملة قبل ذهابها إلى العمل وبعد عودتها منه، وهي تلهث راكضةً لتنجز المهام الملقاة على عاتقها، لا يتسنى لي بعد هذا المشهد إلّا أن أقترح استبدال مصطلح المرأة العاملة بالمرأة اللاهثة.

ما حققه العمل للمرأة أنّه ضاعف وعمّق أعباءها الجسدية والنفسية، وذلك مردّه للشروط الاجتماعية التي تقتصر صورة المرأة فيه على الصورة التقليدية (زوجة، أمّ، ربة منزل)، هذا ما يجعل من العمل إجحافاً واضطهاداً إضافياً بحقها؛ إذ يتعيّن عليها بالإضافة إلى العمل أن تقوم بوظائفها التقليدية من اهتمام بالمنزل والأطفال والزوج، دون أن يكون هناك تعاون أو حتى مساعدة من الرجل، ويترتب على هذا الإجحاف تبديد الكفاءات الأنثوية وتعطيلها، مما يؤدي إلى إحجامها عن العمل، أو رفضها الترقيات الوظيفية، أو شغل المراكز المهمة، هذا ما يجعل من طموح المرأة العملي والعلمي يتوقف أو يتبدد في خضم الضغط الهائل الذي تتعرض له ويستنزف طاقتها، فاستمرار المرأة في عملها والذي أصبح ملحاً من الناحية الاقتصادية في مجتمعاتنا، ظل مشروطاً بالرجل، وذلك بعدم تقصيرها في الواجبات المنزلية والأسرية والاجتماعية، لهذا نجدها تقبل تحمّل هذه الأعباء وحدها وبرضا، مقابل ألّا تخسر عملها الذي تتوهم أنه يحقق ذاتها ويمنحها وجودها. والحقيقة عكس ذلك تماماً، فبدل أن تكسب المرأة في العمل ذاتها وقدرتها على التحقق، فإنّ مجمل الظروف الاجتماعية التي تحيط بهذا العمل جعلت منه مكاناً لهدر حريتها وكرامتها الإنسانية، فلن ينتج عن هذه المساواة المزيفة سوى حرية مزيفة.

مازالت فكرة تحرر المرأة تشغل أولويات الأجندات الإنسانية، وهذا ما يشير إشارة كافية إلى مأزقية الوضع الذي تعيشه المرأة، فهذه الفكرة في أفضل تجلياتها أحد استتباعات المجتمع الذكوري، الذي أنتج هوية نهائية للمرأة، من حيث أنه فرض منذ بداية التاريخ نمطه المؤسس للوعي الاجتماعي، وهذا الوعي لم يعامل المرأة إلّا كتابعة وخاضعة، ومن البديهي أن يحدد خصائص ومميزات كلا الجنسين (المرأة/ الرجل)، ناسباً ما هو سلبي للمرأة وإيجابي للرجل.

المرأة تحمل أعباء مضاعفة يلقيها النظام الذكوري على عاتقها، فينقلب العمل من مساواة وتعبير عن الذات لحالة سحق للذات

التراتبية التي أسسها الوعي الذكوري قامت على مصادرة المرأة، فلا يمكن للمجتمع الذكوري أن ينتج نفسه بعيداً عن قانوني الإخضاع والهيمنة، اللذين يكرسان في المجتمع أو الجماعة قوة النفي والإلغاء، هذه القوة العادمة تنتج بالضرورة هدراً مستمراً للفرد المؤنث والمذكر في المنحيين المدني والسياسي، خاصةً المرأة المنتَجة بشروط الوعي الذكوري وقوانينه. فأي خلل على الإطلاق مردّه العميق إلى عدم التوازن بين الجنسين، وأي توازن لا يحقق فعالية ما، هو وهم توازن أُعلن كحقيقة أملاها الطرف الذي أملى شروطه، ومع هذه الشروط التي فرضتها الهيمنة الذكورية، نرى أنّ العالم يبتعد مسافات كبيرة عن إنسانيته المنتجة.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ فكرة المساواة التي نضجت مع النسوية الثالثة بتجاوزها للنسويتين السابقتين القانونية والسياسية، تعتبر التحرر وكما عرّفته الباحثة ناهد بدوية "ليس نسخ تجربة الآخرين، ولا يعني تقليد ما فعلته الحركات النسوية السابقة؛ بل النسوية تعني أن نجد طرقنا الخاصة للحرية، وأن تكون أصيلة ونابعة من رغباتنا وقناعاتنا وظروفنا نحن، كما يمكن أن تتغير مع كل جيل ومع كل فرد ومع كل ثقافة ولون". وعلى ضوء ذلك لا يمكن لحرية المرأة أن تتحقق إلّا بتحقق حرية الرجل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية