الموت بين الدين والفلسفة: رحلة البحث عن إجابات النهاية

الموت

الموت بين الدين والفلسفة: رحلة البحث عن إجابات النهاية


04/10/2018

لا تكاد تخلو ديانة، سماويةً كانت أم أرضية، من الحديث عن الموت، ومعظمها يدّعي أنه يحمل إجابات أسئلته، والطريق الصحيحة لتجاوزه؛ فمن التحول إلى طيرٍ أو شجرة، إلى تناسخ الأرواح، وليس انتهاءً بحياةٍ أبديةٍ في الجنة أو في عالمٍ مثالي تتحقق فيه كل المتطلبات دون أدنى جهد، تم عبر العصور خلق تصورات عديدة عن الحياة بعد الموت بكل ما تحمله من آمالٍ للإنسان، بالخلود.

اقرأ أيضاً: "فقه الموت".. إستراتيجية ثابتة في الفكر الجهادي

وفي العصر الحديث، ومع دخول العلم والفلسفة مساحاتٍ لم يكن يحتلها سوى الدين، ظهرت رؤى أخرى للإنسان الذي لا يريد حياةً أخرى سوى حياته على الأرض، حتى لا يهرم أو يذل أو تصبح حياته عبئاً عليه، وظهرت أفكار تحسين نوع الحياة وإطالتها فقط، والتخلي عن طموحات ما بعد الموت، لكن ظل لأحلام الحياة الأبدية حضور طاغٍ في عقل الإنسان إلى اليوم، وفي دينه الذي يؤمن به أياً كان، فماذا تقول الأديان عن الموت، وماذا حل اليوم بهذه المقولات؟

الموت ابن الحياة

بما أن تاريخ الموت هو تاريخ البشر أنفسهم، فهو يفرض عليهم أسئلة من قبيل: من أين نأتي، وإلى أين نذهب؟  ولذا فإن أساطير الأولين اعتنت بالموت، ولعل ملحمة "جلجامش" شهدت أول نصٍ مسجلٍ وواضح، يدعو إلى البحث عن الخلود، ويندب الموت؛ حيث يسعى "جلجامش" للبحث عن الخلود في الطبيعة، ويفجعه موت صديقه وغريمه في آن "إنكيدو"، حتى أنه يحاول البحث عن طريقة ليلتقي بها صديقه هذا، بعد الموت. وتمثل أسطورة جلجامش فكرة الموت، على أنها جزء من الطبيعة، وأنه ابن الحياة وصراعاتها المتعلقة بالبقاء والوعي والعلاقات التي يراد لها أن تستمر ويقطعها الموت، وهذا ما كان سائداً عموماً حتى بدأت الديانات بالظهور.

ولعل المصريين القدماء، كانوا أول من تبنى فكرة استمرار الحياة بعد الموت، فقاموا بتحنيط ملوكهم، والحفاظ عليهم كأنهم أحياء (المومياء)، إيماناً منهم بأن للميت دوراً في الحياة الاجتماعية، وأنه يواصل هذا الدور في الحياة رغم موته.

ملاك الموت مصوراً في الفن يزور الجميع ويخيف البشر منذ الأزل

في كتابه "تاريخ موجز للموت"، يقول المؤرخ الأمريكي "دوغلاس ديفيس" إنّ "الموت بدأ يتم فهمه كنوعٍ من العقاب الإلهي" وذلك بعد ظهور الإله من خلاؤل الديانة اليهودية؛ حيث يشير ديفيس إلى أنّ "سفر التكوين برر ظهور الموت كعقابٍ على ما ارتكبه آدم وحواء من خطيئة؛ إذ قام الله بإنزالهما إلى الأرض بعدما كانا خالدين في الجنة"، ليعيشا في نعيم الحياة، لكن هذا النعيم، يظل محصوراً ومحدوداً، طالما العقاب الأبدي المتمثل بالموت دائم، ويرد في سفر التكوين (19:3) "إنكما تراب، وإلى التراب تعودان" في إشارةٍ إلى الموت المحتم.

اقرأ أيضاً: أناشيد الجهاديين.. أصوات تتغزل بالموت

ويبدو أنّ فكرة البعث نفسها راوحت بين الظهور والاختفاء ما بين المعتقدات والديانات عبر التاريخ، خصوصاً أنّ اليهودية في بداياتها التاريخية، ركّزت على "التكفير عن الذنوب من خلال الألم"، بحسب المؤرخ ديفيس، ولم تتطرق لفكرة البعث أبداً، خصوصاً أنّها "لا تؤمن بوجود الجنة بعد الموت، ولا يوجد شيء عن الحياة بعد الموت في التوراة".

لكن ديانتين أخريين، هما؛ المسيحية والإسلام، تناولتا الموت في إطارٍ أوسع، وبدأ الموت يأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامهما، فمن أجله وجد عالم كامل من الماورائيات، ومن المعرفة المتعلقة بما بعد الموت.

حديقة الموتى

"تجربة الموت، هي تجربة تقود إلى إدراك أنّه لا يمكن الاستمرار في الحياة، مما يجعل الحياة تفقد معناها، ولا يتم استعادة هذا المعنى للحياة إلا من خلال أكبر قدرٍ ممكنٍ من تبين الاتصال بالحياة بعد الموت".

حاولت الأساطير القديمة تخليد الإنسان بعد الموت إلى أن جاءت اليهودية واعتبرته عقاباً لا رجعة منه

لعل هذه الفقرة من كتاب "الموت والوجود" للمفكر والمؤرخ "جيمس كارس" تختصر العلاقة التي بنت عليها الديانات عموماً رؤيتها للموت، فهي لا بد أن تبث الأمل في البشر بحياةٍ أبديةٍ حتى يستمروا في الحياة ولا يتملكهم اليأس، وهنا يأتي دور الديانة المسيحية، في تجسيد اليأس والأمل على صورة إنسان؛ حيث إن المسيح عليه السلام بعد صلبه، وفق المعتقدات المسيحية، ويأس أتباعه والمعترفين بنبوته بسبب تعذيبه وموته، آمنوا أن المسيح عاد ليبث فيهم الأمل من خلال قيامه عن الصليب وبعثه من جديد.

لا يمتلك المسيحي الحياة الأبدية إلا إذا آمن بالرب وبالابن الذي أرسله

ويشير المؤرخ، إلى أن الأناجيل الأربعة في الديانة المسيحية تتوافق على فكرة قيامة المسيح، كما إنّها تؤكد أنّ المسيحي عموماً، يقوم ويبعث إلى حياةُ أكمل وأفضل بعد موته، حيث يرد في إنجيل يوحنا (11:25): "أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي، وإن مات، فسيحيا". وبين طيات إنجيل يوحنا، يتم الكشف عن أنّ "المسيحي لا يمتلك الحياة الأبدية إلا إذا آمن بالرب وبالابن الذي أرسله".

ويرى كارس، أن اليهودية والمسيحية تتفقان على أن الموت كان عقاب الإنسان (آدم وحواء) على تحدي "الخط الفاصل بين الوجود الإلهي والوجود البشري، فعوقب الإنسان بالموت على خطيئته الأولى والأساسية"، وهكذا لا يكون الموت في المسيحية أو اليهودية أمراً ناتجاً عن الطبيعة، بل عن علاقة الله بمخلوقاته.

اقرأ أيضاً: الموسيقى ..سلاح الحياة في وجه الموت

الإسلام، آخر الديانات السماوية من حيث الوحي والنزول، يبدو قريباً من المسيحية في تصوراته عن الموت، وهو يعرف الموت وفقاً لابن تيمية وغيره من العلماء، على أنه "انقطاع ومفارقة وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار". ويحيل الإسلام مباشرةً إلى فكرة الدار الآخرة من خلال هذه المقولة التعريفية، حيث يقول تعالى في القرآن الكريم مثلاً "وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (سورة الروم – الآية 64).

ويعد الموت في الإسلام، مجرد مرحلةٍ انتقاليةٍ من الحياة إلى الآخرة، حيث يلاقي المؤمن الله، ويخاف الكافر من لقاء ربه، لكن المؤكد في الإسلام، أنّه لا يوجد انقطاعٌ عن الوجود بعد الموت، حيث تصعد الروح إلى السماء، ويدفن الجسد في القبر، إلى أن يُبعث في يوم القيامة.

موت المسيح هو موت البشرية بحسب المسيحية وقيامته هي قيامتها

وبصورةٍ عامة، تشترك الديانة المسيحية مع الإسلام في بعض جوانب الموت؛ حيث يوجد في النهاية ثواب للمؤمنين والخيّرين، وعقابٌ للكافرين والمسيئين، بخلاف اليهودية.

وفي المسيحية والإسلام، ينعم أتباع الديانتين بحياةٍ أبديةٍ عظيمة بعد الموت والبعث؛ فالنعيم الدائم والجنان التي لا تفنى بانتظارهم، وهم بانتظار الانتهاء من اليأس والخوف والقلق، وهو ما يختلف مع دياناتٍ أخرى، ففي الهندوسية مثلاً، يقول جيمس كارس إنّ "الحياة تعتبر وهماً؛ لأن الواقع مجرد ظلمةٍ تعمي عن الحياة الحقيقية، وبالتالي، فإن الموت كذلك مجرد وهم، لأن الحياة وهم، وهكذا، لا يوجد شيء، لا حياة بعد الموت، ولا غيرها، بل مجرد ما يُسمّى بوحدة الوجود".

تحاول الديانات بث الأمل بحياةٍ أخرى بعد الموت بينما يعتبره العلماء مشكلةً تحتاج إلى دراسةٍ لحلها

أما البوذية، فإنها تركز على "أن الإنسان في حال انشغل بملذات الحياة وشهواتها، فسوف يصبح مهموماً بالموت ومجيئه، أما إذا حاول التعالي عن الحياة، والبحث عن أسبابٍ ومعانٍ أعمق لها، فإنه سوف يتجاوز الحياة العادية، وكذلك الموت".

وتشترك كل من البوذية والهندوسية، وكذلك معتقداتٌ أخرى مثل الطاوية والسيخية، بتناسخ الأرواح، الذي يعني أن "الموت سوف تليه حياةٌ أخرى للروح، التي سوف تتقمص جسداً آخر، لإنسانٍ أو حيوانٍ أو نبات، وربما تعود هذه الروح، حاملةً معها خبراتِ صاحبها قبل موته، لكن في مكان وزمن وجسد مختلفين".

ويبدو أن معظم الديانات والمعتقدات البشرية، حاولت الوقوف في وجه الموت، كونه الأمر المحتوم والأكثر تأكيداً عبر التاريخ، بل إنه لا يمكن نكرانه كنتيجةٍ للحياة، غير أن البشر يصرّون أن هنالك حياةً أخرى أفضل، وهو وما تختلف معه الفلسفة أحياناً، والعلم كثيراً.

بين الانعتاق والأسر الأبدي

في الأدب، والفنون، والتأريخ، وكل شيء، يمكن للموت أن يظهر بوضوح، فالبشر يؤرّخون لميلادهم وموتهم، ويوثّقون هذه اللحظات بالرسم والصور والتقنيات الرقمية الحديثة، ومنذ بدايات القرن الماضي، أخذ الموت مناحي مختلفة، بل وبدأ يفقد هيبته في أحيانٍ كثيرة. ومن الجدير بالذكر أنّ كلاً من "كارس" و"جيمس" يؤكدان على كون التطورات الطبية والعلمية أسهمت في عيش العديد من البشر في ظروفٍ أفضل، وحياةٍ أطول، مما جعل الموت مجرد خاتمةٍ لحياةٍ سعيدة، ومجرد نتيجةٍ طبيعية، بينما بقيت الحياة جحيماً لأولئك الذين يعيشون حياةً تعيسة، أو حروباً، أو غير ذلك، وظل الموت يعد لهم مجرد حالةٍ أقرب إلى الخلاص، لا يهم ماذا يوجد بعدها، ولا ما وُجد قبلها.

يدعو المسلمون لموتاهم إيماناً بالبعث يوم القيامة إلى جنةٍ أو نار

ولا يمكن في هذا السياق إهمال دور الفلسفات الغربية والعالمية التي تناولت الموت، فهو منذ فجر الفلاسفة، موضوعٌ مؤرق أيضاً، فسقراط اعتبره "نهاية المعرفة وغياب الوعي"، بينما رأى فلاسفة وجوديون مثل سارتر أنّه نوعٌ أقصى من أنواع الحرية، ونظر إليه علماء نفس ومفكرون من أمثال فرويد ويونغ، على أنّه نهايةٌ لعلاقاتٍ عديدة ارتبط بها الميت، كالكره والحب والمصلحة، مما يخلف وراءه بشراً يكرهونه كذلك، أو يحبونه، أو لا يكترثون لموته أصلاً.

الموت عادلٌ فلسفياً فهو يطال الجميع لكن البشر نوعوا أساليبه وفرقوا بين الأموات دينياً ووطنياً وعرقياً

ولعل الموت، يشبه مزحةً ثقيلةً من الوجود، لا يحتملها أحد؛ فالديانات حاولت توظيفه من أجل تقييد أتباعها بالإيمان، بينما نظرت إليه الفلسفة كموضوعٍ متشعب، يختلف باختلاف الظروف والتفكير والزمان والمكان، فهو مجرد "تغيرٍ" لا أكثر، بينما وضعه العلماء والأطباء على طاولة الدراسة، ورأوا أن مكافحته ببطء وتراكم، ربما تغير مصير الإنسان ذات يوم.

وفي هذا السياق، يقول المفكر جاك شورون مؤلف كتاب "الموت في الفكر"، إنّ "الموت بطبيعته عادل، لا كبير ولا صغير ولا عبقري ولا غبي ينجو منه، لكن استخدام الإنسان للقتل والحروب وتطوير أدواتهما، إضافةً إلى دور الديانات في التفريق بين ميت مؤمن وآخر غير مؤمن، جعل الموت كأنه كائن واعٍ، وقادر على التفريق".

قبل دخول العلم والفلسفة إلى حقل تفسير الموت استأثرت الأديان بالحلول الكبرى لمسألة الموت

ولا يغيب عن الأذهان، دور الديانات في وضع الأموات ضمن مراتب مختلفة، سواء أولئك "الشهداء"، أو الميتون لأنهم "خونة أو منافقون"، كما إنّهم في الحياة الأخرى يتلقون مراتب مختلفة في النعيم أو الجحيم.
وهكذا، يبدو الموت عادلاً فلسفياً، فهو يطال الجميع، لكن البشر نوّعوا أساليبه وفرّقوا بين الأموات دينياً ووطنياً بل وعرقياً.

يبقى الموت، سؤال البشرية الأكبر، مثلما سؤال الوجود، ويبدو كل من الحياة والموت جزءاً منه، أو أن الحياة نقيضة للموت، أو إنها مجرد مرحلةٍ انتقالية، أو وهم، أو شيء بلا معنى، لا يمكن اليوم تنحية آراء الديانات في الموت، ولا العلم، ولا الفلسفة، كل منها يسعى إلى تصميم صورة مقبولة له، يمكن أن ينظر إليها الإنسان وأن يتقبلها، وهو الذي تنازعه نفسه بين حياةٍ قصيرةٍ مملوءة بالمجد والآلام، أو أخرى مريحةٍ، لكنه يبقى أسيراً للثنائية الأكبر؛ الوجود والعدم.

الصفحة الرئيسية