المونديال والعولمة: لماذا كرة القدم أكثر عالمية من قمم السياسة؟

المونديال والعولمة: لماذا كرة القدم أكثر عالمية من قمم السياسة؟


01/07/2018

ليست العولمة التي نعيشها اليوم مجرد اقتصاد وتجارة واستثمارات متخطية للحدود القومية؛ فهي أوسع وأعمق من ذلك، إنّها التفاعل بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا، التي تعدّ المحرك الأساسي في تلك التفاعلات المتسارعة الآن.

إنّ أكثر الخرافات خطراً وتأثيراً على مستوى العالم هي تصوير سيرورة العولمة الجارفة (إيجابياتها /سلبياتها)، وكأنّها تجلٍّ للاقتصاد فقط، وهذه، للأسف الشديد، خرافة سائدة ومسيطرة في العالم العربي، بتأثير خليط من رواسب يسارية، وأخرى إسلامية وطيف واسع من "حركات مناهضي العولمة" في العالم يتركز نقده على المحرك الليبرالي، أو ما يطلق عليه "الليبرالية المتوحشة للعولمة"، وهنا يتم ترسيم أمريكا كزعيم للعولمة! وتعريف العولمة على أنّها "أمركة" العالم. 
مع أنّ الدلائل الواقعية والإحصائية تؤكد أنّ هذا مجرد خرافة صدقها البسطاء لعدة أسباب، يصعب حصرها هنا، لكن أهمها مراقبة سلوك ترامب والإدارة الأمريكية التي تعمل بإصرار منقطع النظير ضدّ كلّ آليات العولمة، وإن بتفاوت، من سياسة تقييد الهجرة واللجوء إلى الحمائية التجارية.
وهنا يأخذ نقد العولمة ومعارضتها شكله الأيديولوجي، مع أنّ العولمة التي نقصد ليست أيديولوجية، كما أنها ليست نظرية واحدة لفهم العالم.
إنّ مباريات مونديال 2018 التي تجري الآن في روسيا، تعدّ "قمة عالمية" لجمع إرادات شعوب العالم اليوم، وهي أكثر أهمية من قمة "الدول السبع" التي عقدت في كندا، ومن قمة ترامب وكيم جونغ أون، ومن قمة منظمة شنغهاي التي عقدت كلها بالتزامن مع انطلاق مباريات كأس العالم لهذا العام.
فكم شخصاً تابع القمم السابقة واهتم بها، عدا الساسة ورجال الأعمال والاقتصاد والإعلام مقارنة مع عدد متابعي مباريات كرة القدم في روسيا؟

تعد مباريات مونديال 2018 التي تجري الآن في روسيا "قمة عالمية" لجمع إرادات شعوب العالم 

تشير الدراسات والإحصائيات الأولية، إلى أنّ بطولة كأس العالم في "روسيا 2018" حققت أرقاماً قياسية من حيث الشعبية حول العالم، ورغم البث المباشر لمباريات البطولة التي تقدمها الشبكات المختلفة في جميع أنحاء العالم، يختار العديد من محبي كرة القدم المشاهدة عبر الإنترنت بدلاً من التلفاز، ورغم كونها ما تزال في مرحلة المجموعات من البطولة، فإن أرقام البث المباشر لكأس العالم تجاوزت بطولة "سوبر بول" الأمريكية الشهيرة بنسبة 40%.
ووفق موقع (إندبندنت) البريطاني، الذي قام بجمع البيانات من قبل ناشري البث المباشر في كأس العالم؛ تبين أنه عام 2010 كان هناك 1.5 مليون مشاهد عالمي لكأس العالم، وفي العام 2014، شاهد البطولة 3.2 مليون مشاهد، قفزت الأرقام إلى 7.7 مليون مشاهد في العام 2018 في روسيا، وهو معدل أعلى من مشاهدي مباريات "السوبر بول" الأمريكية الشهيرة.

وعلى سبيل المثال؛ ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية، أنّ فوز إنجلترا على تونس تابعه 3 ملايين مشاهد من خلال منصة (أي-بلايير) فقط.

اقرأ أيضاً: مونديال روسيا 2018: سعادة وسياسة وجنون

في "قمة كأس العالم لكرة القدم" تجلت العولمة التي نقصد في أكثر مظاهرها وضوحاً وعمقاً، من حيث الترابط والتفاعل الكبير بين آليات العولمة كلها؛ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، إن كانت العولمة الاجتماعية الثقافية هي الأكثر بروزاً هنا، لماذا؟
لأنّ سيرورة العولمة تفترض عملية دمج عميقة وواسعة على مستوى البنى الاقتصادية في الأسواق المالية الدولية والعالمية، والانسياب وحرية الحصول على الخدمات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الرقمية، لكن ما حصل هو حصر واحتكار عمليات بثّ المباريات من مالك احتكاري لعملية البثّ (وهو هنا بي إن سبورت)، التابعة لمجموعة "بي إن" الإعلامية القطرية، التي يرأسها القطري ناصر الخليفي مالك نادي سان جيرمان الفرنسي، وهو ما يتعارض مع الافتراضات الرئيسة لسيرورة العولمة خاصة في التكنولوجيا.

رغم المعوقات البشرية لسيرورة العولمة تبقى كرة القدم اليوم مظهراً بالغ الدلالة على قوة العولمة الاجتماعية والثقافية

ورغم أنّ هذا الإجراء قانوني من حيث المبدأ، بين اتحاد الفيفا الذي منح حقوق البث الحصري للقناة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لكنّه في النهاية عرقل سيرورة العولمة؛ لذلك نرى أنّ لهذا الاحتكار آثاراً وردود فعل شعبية غاضبة واسعة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تماماً كما فعل العام 2010 في كأس العالم لكرة القدم في جنوب إفريقيا، ولعلّ البعض يذكرون كيف حصلت عمليات التشويش "والتهكير" لبث بعض المباريات، والتي اتهم بها الأردن آنذاك.
لكن، ورغم هذه المعوقات البشرية لسيرورة العولمة، تبقى كرة القدم اليوم مظهراً بالغ الدلالة والوضوح على قوة العولمة الاجتماعية والثقافية.

اقرأ أيضاً: كيف حرم "احتكار البث" الفقراء من مشاهدة الساحرة المستديرة؟

إنه عالم مترابط؛ يندمج في الزمان والمكان، ولو بشكل مؤقت، وقت بثّ المباريات، فيصبح أكبر وأضخم من مجموع الأجزاء والدول والمؤسسات؛ حيث يبلغ عدد دول العالم حالياً 196 دولة، ويبلغ عدد دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة 193 دولة، فيما يبلغ عدد الدول والمقاطعات المستقلة الأعضاء في الأمم المتحدة 241 دولة، ويبلغ عدد أعضاء الفيفا 209 أعضاء، يمثلون كونغرس الفيفا الذي يمثل كل قارات العالم، وهناك 32 فريقاً دولياً يلعبون الآن في التصفيات في مونديال روسيا 2018.

العبرة في عولمة كرة القدم؛ أنّها تكثف العالم ليصبح عالماً واحداً يتخطّى الزمكان، عالم أكبر وأعظم كثافة من مجموع دوله وسكانه، ومفارق لإكراهات الاقتصاد والسياسة ومحاولات احتكار التكنولوجيا، يسخر من كل محاولة لعرقلة ترابطه ودمجه وشعورة بالفرح المتزامن في كل أنحاء العالم يكبر ويتعاظم كل لحظة ولا يمكن إنكاره.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية