"النوم في حقل الكرز": كوابيس الوطن في مخيلة مهاجر عراقي

"النوم في حقل الكرز": كوابيس الوطن في مخيلة مهاجر عراقي


14/04/2020

لم يعد بالشيء الغريب أو الجديد وجود أعمال أدبية عربية، تدور قصصها وثيماتها حول "الحياة في المنفى"، و"الحنين للوطن الأم"، و"التهجير القسري"، و"الموت تحت التعذيب في السجن لناشطين سياسيين"، و"الشعور باللا انتماء"، و"سؤال الهوية". جميعها موضوعات بات تناولها في الأعمال الأدبية ضرورة ملحة، وجزءاً من عملية تأريخ وتوثيق للأعوام الخمسة الأخيرة التي عاشتها المجتمعات العربية في أكثر من بلد عربي، تحت حكم الاستبداد والديكتاتورية العسكرية.

شهد الأهالي الذين يجمعون عظاماً وجماجم، لا يعرفون إن كانت لأبنائهم أم لا، من أكثر المشاهد تراجيدية في الرواية

ولم تكن نهاية الحكم الدكتاتوري في أكثر من بلد عربي بداية جديدة للشعوب العربية في تلك البلدان، سواء في العراق أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، التي يجتمع فيها كلّ مرتزقة العالم إضافة إلى استمرار حكم الاستبداد فيها.
تأتي رواية "النوم في حقل الكرز"، للروائي العراقي أزهر جرجيس، والصادرة عن دار الرافدين – بيروت 2019، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية 2020، في سياق تناول موضوعات وقضايا باتت جزءاً من ثقافة وتاريخ المنطقة؛ فبطل الرواية "سعيد ينسين"، وهو مهاجر عراقي في منتصف الثلاثينيات من عمره، يعيش في مدينة أوسلوا بالنرويج، في أعقاب مغادرته العراق وهو شاب في العشرين من عمره، هرباً من الاعتقال، بعد أن وشى به للأمن زميله في الجامعة؛ بسبب نكتة حكاها له تسخر من الرئيس العراقي صدام حسين.

غلاف الرواية

مأساة سعيد
لكنّ مأساة سعيد مضاعفة؛ إذ إنّ والده كان قد اعتقله النظام من قبل أن يولد، بسبب انتمائه لحزب يساري معارض للنظام، ليختفي الأب، وتختفي صورته وملامحه وأثره حتى، بعد أن أحرقت والدته كلّ صوره وكلّ شيء قد يذكر به، خوفاً على حياتها وعلى مولودها القادم.
يقول سعيد: "في الواقع، أنا لا أعرف شكل أبي من قبل، لم أرَه يوماً في حياتي، ولا أحتفظ له بصورة واحدة، لقد غاب في سراديب الضياع قبل مجيئي إلى الدنيا، وأحرقتْ أمي، ليلة القبض عليه، كلّ كتبه وأوراقه ومذكّراته وألبومات صوره".

اقرأ أيضاً: رواية "حصن الزيدي": عودة الإمامة برداء جمهوري!
تجري الأحداث في الرواية بين زمنين متداخلين فيما بينهما؛ ماضي العراق قبل دخول الحرب الأمريكية واحتلال العراق عام 2003، وبعده. وينبع تداخل الأزمنة فيما بينها هنا من سرد البطل لحكايته وهو في حالة أشبه بالمونولوج الداخلي الذي لا يتوقف في ذاكرته؛ بين أحلام يقظة في النهار وكوابيس في الليل، لتتداعى حالة سعيد النفسية، عندما تصله رسالة على بريده الإلكتروني من صديقته عبير، المراسلة الصحفية في وكالة "بي بي سي" الإخبارية، بأنّ عليه العودة إلى العراق، لأنّ هناك شيئاً يهمّه.

شبح الأب

يبدأ شبح والد سعيد في الحضور في أحلامه وخيالاته التي لا تنتهي، مترافقاً مع تلك الأمنية التي لطالما تمنى سعيد أن تتحقق، أن يرى ملامح وجه أبيه، الذي اختفى ومُحي أثره منذ لحظة اعتقاله، ليتكرّر سؤال الأب كلما أتى لسعيد في أحلامه أو تخيّلاته: "أين قبري؟".

اقرأ أيضاً: حكاية الرواية التي قيل إنها تنبأت بفيروس كورونا قبل 39 عاماً!
سؤال "أين قبري؟" المتخيل يتزامن مع اكتشاف مقبرة جماعية لمساجين ومعتقلين سياسيين في بغداد، يقول سعيد عند قراءته للخبر على أحد المواقع الإلكترونية: "تراءت لي، حين قرأت التقرير، جثة أبي نائماً على ظهره في حفرةٍ يكشف عنها القمر، فندهت عليه، لكنّ سرباً من خفافيش سوداء حجب عنه الضوء، وتلاشى".
أحلام اليقظة
تُمثل الهلاوس والتخيّلات وأحلام اليقظة، جزءاً أساسياً من لعبة السرد داخل العمل، ربما تكون أوضح مرآة تعكس الواقع المتجسد في بلد مثل العراق، بماضيه وحاضره، إذ إنّ عذابات الماضي لم تنتهِ، وهناك آلاف المعتقلين في عهد نظام صدام حسين، جثثهم مفقودة، وجميع أهالي المفقودين ينتظرون جثث ذويهم، حتى إن كانوا عظاماً وجماجم، فالزمن الحاضر عند الفرد عالق، كأنّ الماضي لم ينتهِ، يتجسد هذا كلّه في شخصية سعيد وأزمته النفسية، فبعد أن كان حلمه أن يصل إلى النرويج، وبعد أن وصل بطريقة غير شرعية في رحلة تحفها المخاطر واحتمال الموت في الطريق، يبقى "الوطن" وشبح الأب المفقود في مقبرة جماعية يلاحقه.

لغة الروائي أزهر جرجيس حافلة بالسخرية من الواقع، لكثرة المرارة، والأحداث الفانتازيا التي تتكاثر في عبثية لا تنتهي

لغة الروائي أزهر جرجيس حافلة بالسخرية من الواقع، لكثرة المرارة، والأحداث الفانتازيا التي تتكاثر في عبثية لا تنتهي، كأن يقحم مشهداً متخيلاً لعودته إلى العراق، وتحصل له حالة إغماء، وعندما يصحو يجد نفسه في المستشفى، عام 2023، ويكون العلاج في المستشفى الراقية مجاناً، وعند عودته للفندق يسأل النادل: "بالله عليك أخبرني كيف أصبحت بغداد هكذا بعد كلّ ما جرى عليها؟ ماذا صنعتم كي تعيدوا إليها الروح، وتجعلوا منها جنّة؟"، ليبتسم النادل ويقول لسعيد: "لا عجبَ، يا سيّدي، فقد مرّ على سقوط بغداد وخرابها الأخير عشرون عاماً بالتمام والكمال، ولو أتينا بحكومة من حمير، لفعلتْ ما تراه اليومَ وأكثر".
ليبدو هذا المقطع المتخيل عن حياة طبيعية، فيها بيوت آمنة وشوارع عريضة، وأنفاق وجسور، وأشجار مرصوفة على جانبي أرصفة الشوارع، مشهداً من المستحيل تحقيقه في واقع العراق وحاضره، وكأنّ هذا المشهد المتخيَّل يخرج من الأزمنة التي تدور فيها أحداث الرواية، ليلامس حاضر العراق اليوم، الذي يعيش انتفاضة شعبية على الحكومة وفساد المسؤولين والأزمة الاقتصادية.
هو مهاجر عراقي في منتصف الثلاثينيات من عمره

العودة للعراق
لكن في الحقيقة يعود سعيد للعراق، بعد أن تؤكد له صديقته المراسلة، الصحفية عبير، أنّ جثة والده ضمن مقبرة جماعية سيجري الحفر والتنقيب عنها وإخراج الجثث منها.
ولعلّ مشهد الأهالي الذين يجمعون عظاماً وجماجم، لا يعرفون إن كانت لأبنائهم أم لا، من أكثر المشاهد تراجيدية في الرواية؛ فكيف يتعرَّف الشخص إلى جثة أبيه أو ابنه بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على موته ودفنه في مقبرة جماعية؟
يقول سعيد: "لقد أيقنوا أنّ آباءَهم لن يعودوا إلى الحياة ثانية، وأنَّه لا بدّ من بناء قبور لهم ليبكوا إلى جوارها، فمن شأن القبور، حتى إن كانت غير مؤكدة، الإعانة على ذرف الدموع والتخفيف من وجع الفراق".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية