انهيار الدولة السودانية: فتّش عن خطاب الإقصاء والتزمت

السودان

انهيار الدولة السودانية: فتّش عن خطاب الإقصاء والتزمت


24/01/2018

تبدو الدولة السودانية الإخوانية الراهنة في حالة من الضعف والوهن، حدّ حيازتها كافة البراهين الدّالة على هشاشتها، وربما فشلها؛ من سيادة للعنف، وغياب للقانون والعدالة الاجتماعية، وعدم نزاهة وحيادية القضاء، وتراجع المؤسسات إزاء (الفردانية)، والتخبّط الاقتصادي، وضعف القدرة على الصمود في مواجهة الكوارث والأزمات، وتفشّي الغلاء والفساد والمحسوبية، وغياب مستوى المحاسبة.

هذه الحالة الماثلة، ليست وليدة اليوم، إنّما تصاعدت مُنذ انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية، في 30 حزيران (يونيو) عام 1989، إلى أن بلغت حالتها الراهنة؛ فقد ورد في البيان الانقلابي الذي تلاه العميد حينها، الرئيس عمر البشير: "لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مُزرية، وفشلت كلّ السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور، ناهيك عن تحقيق أيّ قدر من التنمية، فازدادت حدّة التضخم، وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل، واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم، إمّا لانعدامها، أو لارتفاع أسعارها، مما جعل كثيراً من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة، وقد أدّى هذا التدهور الاقتصادي إلى خراب المؤسسات العامة، وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية، وتعطل الإنتاج. وبعد أن كنّا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم، أصبحنا أمةً متسولةً، تستجدي غذاءها وضرورياتها من خارج الحدود، وانشغل المسؤولون بجمع المال الحرام، حتى عمّ الفساد كلّ مرافق الدولة، وكلّ هذا مع استشراء الفساد والتهريب والسوق السوداء، ما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراءً، يوماً بعد يوم، بسبب فساد المسؤولين، وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام".

حجرت محكمة الجنايات الدولية على الرئيس البشير، باعتباره مجرم حربٍ، ولضلوعه في عمليات إبادة جماعية جرت في إقليم دارفور المضطرب

خطاب يروج للعنف والإرهاب

ما ورد في الاقتباس السالف من البيان الانقلابي، يُعبِّر بدقة عن الأوضاع الماثلة حالياً، وليس عمّا سبقها، كما يزعم، فلم يشهد السودان، منذ استقلاله، تدهوراً وتخبّطاً في كافة مناحي الحياة، كما يعاني الآن، فقد تدهورت سُمعته بين الدول، بسبب دعم حكومة الإسلاميين للإرهاب والإرهابيين، والترويج للعنف، وممارسته داخل الحدود وخارجها، وما المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق، حُسني مبارك، إلّا مثالاً ساطعاً عن ذلك.

البشير: كنّا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم فأصبحنا أمةً متسولةً تستجدي غذاءها من خارج الحدود

بطبيعة الحال، ليس ثمة سبب محوري يفسر ما آلت إليه الدولة السودانية من انهيارٍ وفشلٍ، غير اعتماد حكومتها الخطاب الإسلامي، التغييبي وغير الواقعي، في سياساتها؛ فعبر هذا الخطاب الذي يحرض على الكراهية، ويروِّج للعنف والإرهاب، شنّت حكومة الإخوان المُسلمين، على الصعيد الداخلي، حروباً لا هوادة فيها على مواطنيها، في الجنوب والغرب والشرق، أفضت إلى دفع السودانيين الجنوبيين إلى اختيار الخروج من السودان الكبير، وتأسيس دولة خاصة بهم.

أمّا على الصعيد الإقليمي؛ فلم تترك جاراً إلّا وأصابته بشواظ من عنفها، فخسرتهم جميعاً؛ مصر وليبيا وتشاد ويوغندا وأثيوبيا وإريتريا. أما عن علاقتها بمحيطها العربي، فحدِّث ولا حرج، فقد كان الوجود الإيراني في الخرطوم كثيفاً، حتى كاد إخوان السودان يتحدّثون الفارسية.

فيما يلي المجتمع الدولي، فإنّ الخطاب الإخواني دأب على إرسال التهديدات إلى أكبر قوتين في العالم؛ أمريكا وروسيا، الأمر الذي كلفة أثماناً باهظة لاحقاً، فقد تقطّعت أنفاس الحكومة السودانية، وهي تلهث ساعية لنيل العفو الأمريكي، فقدّمت المعلومات الاستخبارية إلى واشنطن (مجاناً)، بعد أن حاصرتها اقتصادياً، وحجرت محكمة الجنايات الدولية على الرئيس البشير، باعتباره مجرم حربٍ، ولضلوعه في عمليات إبادة جماعية جرت في إقليم دارفور المضطرب. لكن، ما إن بدأ الأمريكيون يبعدون أصابعهم قليلاً عن خناق الحكومة السودانية، حتى هرول هؤلاء نحو روسيا، طالبين الحماية، لكن ممّن؟ لا أحد يدري.

ابتزاز الخارج وقمع الداخل

سنوات طويلة أنفقتها حكومة الإخوان المسلمين لتبييض صورتها في الداخل والخارج، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك، فها هي روسيا لا تستجيب، كما الولايات المتحدة، لم (ترفع) اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا محكمة الجنايات الدولية كفّت عن مطاردة البشير، ولا الداخل هدأ. فها هي انتفاضة الخبز تندلع، منذ مطلع كانون الثاني (يناير) الجاري، ولا تزال، ولسان حال الشعب السوداني يردّد كلام البشير الأول، الذي برّر به انقلابه، الذي وضع السودان كلّه على شفير التلاشي: "لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مُزرية، وفشلت كلّ السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور، ناهيك عن تحقيق أيّ قدرٍ من التنمية، فازدادت حدّة التضخم، وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل".

لا يعيش السودانيون، الآن، حالة فقر مدقع فحسب؛ بل مجاعة غير معلنة، ولا تعاني منها أقاصيه النائية فقط، وإنما محيط العاصمة الخرطوم.

نوات طويلة أنفقتها حكومة الإخوان المسلمين لتبييض صورتها في الداخل والخارج، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً في ذلك

منذ أن نال السودان استقلاله عام 1956، لم يعرف أوضاعاً مماثلة، لكنّ سياسة الإخوان المسلمين التي تتنكب جادة الحكمة، وتتصف بالصلف والغرور غير الضروريين، وتتّخذ الدين آلية للقمع والقتل والسرقة والفساد، أوقعته في هوّةٍ سحيقةٍ، فأصبح دولة بلا تعليمٍ، أو مؤسساتٍ، أو مالٍ، أو زراعةٍ، أو ماءٍ، أو كهرباءٍ، أو إنتاجٍ، وكي تغطّي الحكومة بعض عجزها الاقتصادي، تتسوّل بعض الدول، وتبتز أخرى، تارةً بدعوى العروبة، وأخرى بدعوى الإسلام، وها هما قطر وتركيا خير شاهدَين على ذلك.

منذ أن نال السودان استقلاله عام 1956 لم يعرف أوضاعاً مماثلة، لكنّ سياسة الإخوان المسلمين أوقعته في هوّةٍ سحيقة

عنف ومكابرة

وفي السياق ذاته؛ دأبت حكومة الإسلامويين السودانيين، في تعاملها مع مواطنيها المغلوب على أمرهم، على الجنوح للعنف، وما هو أبعد منه؛ أي الإرهاب، خاصّة أنّ العالم، بحسب تصوّرهم، يعيش كلّه، بحسب سيد قطب "في جاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية، ألا وهي الحاكمية"، ربما بناءً على هذه القاعدة، لجأت السلطات الأمنية السودانية إلى قمع المظاهرات السلمية الجارية الآن بالبلاد، احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية، وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل جنوني، وانهيار الجنيه السوداني، والانقطاع الدائم للماء والكهرباء، في مدن تنام وتصحو على شواطئ الأنهار.

الدكتور النور حمد: كان من المفترض أنْ يعيد الإسلاميون النظر في انفرادهم بالسلطة حين فشل مشروعهم

قمعٌ لا نظير له، إلى جانب حملات الاعتقالات غير المبررة لناشطين سياسيين سلميين، وصحافيين وصحافيات، كانوا يؤدّون عملهم الروتيني، باعتبارهم (خوارج) مارقين عن السلطان والحاكم بأمر الله، زهاء ثلاثين عاماً من الخراب المديد، ولا يزال يعدّ نفسه لولايةٍ جديدةٍ، سيكون ثمنها باهظاً ومكلفاً هذه المرة، وربّما يكون الوطن برمّته.

وفي هذا السياق، يقول الأكاديمي والباحث السوداني، الدكتور النور حمد لـ "حفريات": "كان من المفترض أن يعيد الإسلاميون النظر في انفرادهم المطلق بالسلطة، حين طالعهم فشل مشروعهم، خاصة بعد انفصال الجنوب، وانمحاق فقاعة النفط العابرة، وبعد انهيار العملة، وبعد أن تحوّل النظام إلى متسوِّلِ للهبات"، متابعاً "لكن لأنّ أساسهم الروحاني كان ضعيفاً، وقدرتهم على النقد الذاتي منعدمة، بسبب الهوس الديني، والصلف، والغرور، فقد انجرفوا في طريق المكابرة. وهم لا يزالون على درب المكابرة سائرين".

الصفحة الرئيسية