بعد واشنطن الجولاني يتغزّل بروسيا وإيران!

بعد واشنطن الجولاني يتغزّل بروسيا وإيران!


03/07/2021

عبدالله سليمان علي

يضحك أبو محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) في سرّه ـ ومن حقه أن يفعل ـ وهو يتابع المؤتمرات الصحافية للمسؤولين الروس والأتراك، للحديث عن اتفاق تلو اتفاق لاجتراح حلول شكلية أو غير قابلة للتنفيذ بشأن ملف إدلب التي بات يهيمن على معظم مساحتها الجغرافية منذ عام 2018.

هو يدرك أن أيّ اتفاق جديد، أيّاً كانت بنوده وغاياته، سيكون مصيره كمصير أسلافه من الاتفاقات السابقة التي لم تستطع لهذا السبب أو ذاك أن تجد طريقها للتنفيذ على أرض الواقع، وبقيت مجرد حبر على ورق، بينما تمنحه متوالية الاتفاقات التي لا تكاد تنتهي مزيداً من الوقت لبسط سيطرته وتكريس سلطته في مناطق سيطرته التي تقارب مساحة دولة لبنان.

مبعث ارتياح الجولاني يتأتّى من أمرين: الأول إدراكه أنه استطاع أن يفرض نفسه لاعباً أساسياً في المشهد الإدلبي، بعدما تمكن من إزاحة كل خصومه من الفصائل المسلحة الأخرى، الأمر الذي جعله صاحب الحل والعقد الذي تجتمع بين يديه معظم خيوط اللعبة. ويتمثل الثاني في ركون الجولاني إلى إحساسه بوجود دور وظيفي موكل إليه من بعض الجهات الإقليمية والدولية، وهو ما يحاول استغلاله بجدارة من أجل تطويره والانتقال به من خانة الاستخدام إلى خانة التخادم، في مسعى منه لمقايضة هذه الجهات، وربما ابتزازها في بعض المراحل، لتجميع أوراق قوة تمكنه من حجز كرسي له على أي طاولة مفاوضات تُعقد لحل الأزمة السورية.

وتشيع أوساط مقربة من الزعيم الجهاديّ معلومات حول ركائز السياسة التي يتّبعها للوصول إلى أهدافه، ومن أهم هذه المعلومات أن الجولاني يتبنى عقيدة "إدلب المفيدة" التي تشمل مدينة إدلب والشريط الحدودي مع تركيا شمال طريق أم فور. ورغم الأهمية العسكرية لمناطق جبل الزاوية وبعض البلدات الواقعة جنوب طريق أم فور، وبخاصة لجهة تحصيناتها الطبيعية التي تشكل حائط صد أمام أي قوات معادية، إلا أن قناعة الجولاني تتلخص في اعتقاده أن الحصن الأهم الذي يمكنه الوثوق به هو خطوط الدفاع البشرية التي يقيمها ما يقارب مليونين ونصف مليون مدني قد يتسببون بتفجير قنبلة لجوء وهجرة جديدة في وجه تركيا والدول الغربية.

كما أن الجولاني فرض معادلة "يا لعّيب يا خرّيب" على التفاهمات الثنائية بين روسيا وتركيا بخصوص ملف إدلب، واستطاع توظيف هذه التفاهمات لفرض نفسه رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه بسهولة. ومن ذلك أنه لم يمانع مبدئياً تنفيذ التفاهمات بل استنفر جهازه الأمني من أجل حماية الدوريات المشتركة الروسية – التركية على طريق أم فور، وهو ما كرّسه بمثابة وكيل معتمد لتنفيذ ما تتفق عليه تركيا وروسيا. وحتى عندما قررت موسكو وقف مساهمتها في الدوريات المشتركة في شهر آب (أغسطس) الماضي، لم يؤثر ذلك في دور الجولاني، لأن توقف موسكو لم يترك انعكاسات سلبية على المشهد، بل ترك انطباعاً مفاده أن الدوريات إما أن تكون بحماية الجولاني أو لا تكون.

ومع مرور ستة أشهر على قدوم جو بايدن إلى البيت الأبيض، ازدادت طمأنينة أحد أبرز المصنفين على قوائم الإرهاب الدولية بأن سياسة الإدارة الديموقراطية تجاه جماعته الجهادية لن تكون بالسّوء الذي افترضته بعض التوقعات والتحليلات. ويكفي للدلالة على ذلك أن الطائرات الأميركية من دون طيار المحملة بصواريخ النينجا قد غابت عن أجواء إدلب منذ ذلك التاريخ. ويشير ذلك إلى أن بايدن الذي سعى إلى إحياء سياسات إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قد استثنى القرار الذي وقعه الأخير في آخر أسبوع من ولايته الثانية عام 2016، وكان يتضمن توسيع الغارات الجوية ضد "جبهة النصرة".

وقد استغلّ الجولاني عناصر المشهد السابق من أجل البحث عن مسارات تمكنه من إعادة تلميع صورته وتقديم نفسه بصورة معارض سياسي أو مقاتل من أجل الحرية ضد الاحتلالين الروسي والإيراني، في رسالة واضحة لكسب ود الولايات المتحدة، وقد قابل المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جيمس جيفري هذه الرسالة بأحسن منها، عندما أعلن أنه لعب دوراً في تأمين حماية الجولاني من أي عملية اغتيال مفاجئة.

غير أن الجولاني الذي ينضح على ما يبدو من بئر حركة "طالبان" الأفغانية، منتهجاً سياسات مطابقة أو قريبة من سياساتها، لم يشأ أن يضع كلّ بيضه في السلة الأميركية تحسباً من أي قرار أميركي مفاجئ بالانسحاب من سوريا، كما فعلت في أفغانستان، تاركة المشهد نهب قوى إقليمية متناقضة ومتضاربة في ما بينها.

قد تكون هذه القراءة هي التي دفعت الجولاني إلى القيام بتحركات ضد بعض الجماعات الجهادية التي تنظر إليها كل من إيران وروسيا على أنها أخطر من غيرها بالنسبة الى أمن الدولتين. ورأى بعض المراقبين أن حملة الضغوط التي باشرها الجولاني ضد "أنصار الإسلام" و"جند الشام" أخيراً، ما هي إلا رسائل موجهة إلى طهران وموسكو، مفادها أنه مستعد لتقديم أوراق اعتماده لهاتين الدولتين مقابل أثمان معينة.

وتتكون "أنصار الإسلام" من مقاتلين كرد إيرانيين، وتعمل السلطات الإيرانية على ملاحقتها والقضاء عليها منذ عام 2001، نظراً الى ما تشكله من تهديد للأمن القومي الإيراني، باعتبارها من الحركات السلفية الإرهابية. أما "جند الشام" فيغلب عليها المقاتلون من الجنسية الشيشانية ويقودها مسلم الشيشاني أبو الوليد الذي يعتبر من أبرز المقاتلين القدامى في أفغانستان في عهد الاحتلال الروسي.

وفي هذا السياق، ذكرت قناة "رد عدوان البغاة" على تلغرام، وهي قناة متخصصة في تسريب معلومات من داخل كواليس "هيئة تحرير الشام"، أن أمر ملاحقة هاتين الجماعتين صدر من الاستخبارات التركية، وقالت إن "المخابرات التركية طلبت من زيد العطار، مسؤول المكتب السياسي في الهيئة، إنهاء وجود جماعة أنصار الإسلام، باعتبارها خارج الوصاية التركية، ونتيجة ضغوط إيرانية على تركيا، باعتبار أغلب عناصر جماعة أنصار الإسلام من الأكراد الإيرانيين، وهؤلاء تعتبرهم إيران خطراً على أمنها القومي، ولعلها حدثت صفقة بين تركيا وإيران ويكون الجولاني هو المنفذ لها".

وفيما اعتقل الجولاني خلال الأسابيع الأخيرة أبرز قادة "أنصار الإسلام"، ومنهم القائد العسكري العام عبد المتين الكردي وأبو عبد الرحمن الشامي وعمار الكردي وأبو علي القلموني، وضع "جند الشام" أمام خيارين: إما مبايعته أو حل الجماعة والخروج من إدلب. وفي  الوقت نفسه حاول الجولاني عدم قطع شعرة معاوية مع هاتين الجماعتين، بخاصة "أنصار الإسلام"، إذ سارع إلى الاجتماع مع بعض قياداتهما الكردية ممن يمكنه التأثير فيهم واستقطابهم إلى دائرة نفوذه بعيداً عن حالة الاستقلال التي تصر عليها قيادة الجماعة المعتقلة. وكأنّ الجولاني بذلك يحاول توجيه رسالة مزدوجة إلى كل من روسيا وإيران مفادها أن علاقته مع هاتين الجماعتين وصلت إلى منعطف حاسم، فإما أن يقوم بتصفيتها والقضاء عليها كما فعل مع عشرات الفصائل خلال السنوات الماضية، وإما أن يعمل على استقطابها وتعزيز قوتها، ويقف ذلك على طبيعة رد فعل طهران وموسكو على عرضه.

وإذا كان من المستبعد أن تلقى رسالة الجولاني أي استجابة من الدولتين المعنيتين،  لا سيما أن موسكو وطهران تصران على وضع بند القضاء على التنظيمات الإرهابية، بما فيها "هيئة تحرير الشام"، على رأس مقررات اجتماعات أستانا وغيرها من مخرجات الاجتماعات المتعلقة بالملف السوري، فإن ذلك لا يقلل من أهمية أن الزعيم الجهاديّ الذي يدّعي كلُّ الأطراف الفاعلون في المشهد السوري ملاحقته والسعي للقضاء عليه، قد بات يشعر بحالة من الاسترخاء والطمأنينة تمكّنه ليس من تفادي عداوة هذه الأطراف وحسب، بل من القيام بخطوات محددة من أجل كسب ودها أو على الأقل تخفيف العداوة معها. وحتى على فرض أن هذه الرسائل لم تجد طريقها إلى صندوق بريد موسكو أو طهران، فإنها ستكون قد نجحت في خلق انطباع عامّ بأن "إمارة إدلب" باقية حتى إشعار آخر ما دامت الاتفاقات والتفاهمات الثنائية أو الثلاثية لا يمكن أن تمر إلا من قناة الجولاني نفسه.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية