بعد 45 عاماً .. مؤرخ بريطاني ينبش ذكريات قبرص التي مزقها الأتراك

بعد 45 عاماً .. مؤرخ بريطاني ينبش ذكريات قبرص التي مزقها الأتراك


11/07/2019

تزامَنت عودة الأطماع التركية في ثروات قبرص، ومحاولات نهب غاز المتوسط، مع مرور 45 عامًا على احتلال أنقرة جزء الجزيرة الشمالي، فالعثمانيون الجدد برئاسة رجب إردوغان، لم يكتفوا بما فعله أسلافهم من تقسيم وتدمير لوحدة الجزيرة الشهيرة باسم "أفروديت"، وراحوا يخططون للسطو على ثرواتها مجددًا.

عام 1974م خطط نجم الدين أربكان (1926 - 2011) الأب الروحي لإردوغان، ونائب رئيس الحكومة التركية آنذاك، لغزو قبرص، بالتنسيق مع رئيس الحكومة بولنت أجاويد (1925 - 2006) وبالفعل دفعت أنقرة بنحو 40 ألف جندي وضابط تركي و300 دبابة إلى الشواطئ القبرصية بهدف ذبح القبارصة اليونانيين على غرار مذابح الأرمن (1915 - 1917) التي ارتكبها آباؤهم العثمانيون المجرمون.

العملية التركية التي سماها الجيش التركي "أتيلا" أسفرت عن تصدع الجزيرة إلى شطرين، أحدهما في الشمال وهو ما يعرف بجمهورية "شمال قبرص التركية" التي لا تعترف بها أية دولة سوى تركيا، والأخرى في الجنوب وهي جمهورية قبرص، المعترف بها دوليًا والبلد العضو في الاتحاد الأوروبي منذ 2004. وبعد أكثر من أربعة عقود على الغزو التركي البربري لجزيرة قبرص، زار الصحافي والمؤرخ العسكري البريطاني كولين سميث، الجزيرة لنبش ذكرياتها المريرة.

قصة الغزو التركي لقبرص، مازالت تثير لعاب المؤرخين، ولماذا لا، والأحداث جسام، والألم مازال يعتصر قلوب القبارصة، بعد أن انشطرت أرواحهم نصفين بفعل الهمجية التركية.

حقيبة لاكيس
في ضواحي إحدى القرى الجبلية في شمال قبرص التي تحتلها تركيا قابل الصحافي البريطاني كولن سميث أحد القبارصة اليونانيين وهو لاكيس زافاليس، البالغ من العمر 77 عامًا، في سبتمبر 2014، يتدافع نحو أحد التلال الصخرية على جانب الطريق بحثًا عن حقيبة جلدية تقليدية استخدمها لأول مرة عندما كان طالبًا في كلية الحقوق في ستينيات القرن الماضي في لندن.

قبل حوالي أربعين عامًا كان زافاليس ملازمًا يقود إحدى فصائل الحرس الوطني القبرصي اليوناني، عندما أخفى حقيبته تحت إحدى الصخور، بعدما  تلقى الحرس الوطني أوامر بانسحاب مؤقت - حسبما اعتقد زافاليس حينذاك - من جبهة القتال، كان الهدف من دفن الحقيبة تخفيف الحمل خلال سيره.

مذكرات الحرب
يذكر زافاليس أن حقيبته كان بها النسخة الإنجليزية من رواية الأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين "Cancer Ward" بالإضافة إلى سترة، لأنه حتى في فصل الصيف الحار بالجزيرة، تصبح منطقة كيرينيا باردة في الليل، حيث يمكنك الاختباء هربًا من قذائف الهاون بالاختباء في حفرة في الأرض.

بين الكتاب والسترة ثمة شيء يجعل لاكيس يصر على محاولة العثور على حقيبته، وكانت هذه محاولته الثانية هذا العام فضلًا عن بعض المحاولات الأخرى التي قام بها للتنقيب هنا وهناك على حقيبته التي دفنها قبل أكثر من أربعة عقود. 

هذا الشيء هو المذكرات التي احتفظ بها عندما وجد نفسه جزءًا من قوات الحرس الوطني غير المنظمين الذين يبذلون قصارى جهدهم لمقاومة الجيش التركي، أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا أثناء الحرب الباردة، والذي أرسل قواته إلى الجزيرة كنوع من الدعم الجوي والبحري الذي كان يهدف إلى تقسيمها.

ذكرى الاحتلال
يشهد هذا الشهر الذكرى الخامسة والأربعين لعملية أتيلا، الاسم الرمزي للغزو التركي لجزيرة قبرص، والتي انطلقت العملية في 20 يوليو 1974 وانتهت بعد شهر تقريبًا في 16 أغسطس من نفس العام، وبحلول ذلك الوقت، كانت القوات التركية قد احتلت ما يزيد قليلاً على ثلث الجزيرة تحت ذريعة الأقلية القبرصية التركية والتي لا تمثل خُمس سكان الجزيرة.

ما زال الأتراك يحتلون الشطر الشمالي من الجزيرة، بل وأعلنوها جمهورية في 1983 دون أن تعترف بها أية دولة في العالم، وفي مايو 2014 قام جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بزيارة إلى قبرص أثارت بعض الآمال فيما يخص تسوية هذه القضية التي قيل وقتها إنها قد تكون على وشك الانتهاء، ولو عن طريق تقسيم غنائم الغاز الطبيعي والنفط المكتشف حديثًا في منطقة شرق البحر المتوسط.

في 15 يوليو عام 1974، نظم المجلس العسكري في أثينا انقلابا ضد كبير الأساقفة مكاريوس الثالث (1913 - 1977م) رئيس قبرص منذ أن حصلت الجزيرة على استقلالها عام 1960، كان هدف الانقلاب الاتحاد باليونان، وهو الشعار الذي سبق أن رفعه مقاتلو منظمة "أيوكا" من القبارصة اليونانيين بقيادة جورجيوس جريفاس، الذي كان ضابطًا بالجيش اليوناني وولد في قبرص، وهي المنظمة التي كافحت المستعمرين البريطانيين في أواخر الخمسينيات.

عملية أتيلا
يقول المؤرخ العسكري البريطاني إن الانقلاب أعطى أنقرة كل الذرائع التي كانت بحاجة لها لبدء عملية "أتيلا"، والتي جاءت بعد خمسة أيام فقط من الانقلاب العسكري ضد الرئيس القبرصي مكاريوس الذي نجا منه بأعجوبة، بعدما حاول قادة الانقلاب اغتياله شخصيًا.

وفي الوقت الذي كانت فيه تركيا تحوك الدسائس لحشد أكبر عدد ممكن من أبنائها في قبرص، لترجيح كتلتهم الديموغرافية على حساب القبارصة اليونانيين وهم أغلبية الشعب القبرصي، وذلك عن طريق منظمة "تي إم تي" الإرهابية التي تولت عملية وتدريب وتسليح الطلاب الأتراك ونقلهم إلى قبرص، كان بعض القبارصة اليونانيين يردون على ذلك بالدعوة للوحدة باليونان، خوفا من الأطماع التركية.

الحرس الوطني
كان هناك قرابة 650 ضابطًا من الحرس الوطني القبرصي اليوناني البالغ قوامه 15 ألف جندي محترف أتوا من اليونان، بيد أن مؤيدي الرئيس مكاريوس رفضوا دعوتهم للوحدة باليونان، وفضلوا أن تكون قبرص بمنأى عن الفاشيين الغربيين الذين حكموا اليونان، مسقط رأس الديمقراطية بعد ذلك. وأصبح المجندون المعارضون لمكاريوس في مأزق.

في عام 1972، عاد دوروس زافاليس، شقيق لاكيس الأصغر،  إلى قبرص لأداء خدمته الوطنية بعدما كان طالب قانون في أثينا حيث احتك هناك بقادة الجيش اليوناني، وعند عودته إلى قبرص انتقد خطاب ألقاه أحد الضباط، وحذر الجنود من أنهم يجب أن يكونوا على استعداد للتدخل إذا اتخذ مكاريوس منعطفًا خطأ، اتُهم بأنه شيوعي، واعتقل لمدة 20 يومًا قبل أن يتم إرساله إلى أحد المواقع الساحلية البعيدة، لمراقبة القطاع التركي من الجزيرة.

كانت المنطقة التي تسكنها أغلبية من القبارصة الأتراك بمنزلة جيوب تركية تحرسها ميليشيات القبارصة الأتراك المسلحة من أنقرة، وقد جرى تكوين هذه الميليشيات الإرهابية خلال فترة القتل الجماعي التي مارستها منظمة المقاومة التركية "تي إم تي" ضد أبناء الطائفة القبرصية اليونانية بين عامي 1963 و 1967. فبالنسبة للقبارصة الأتراك كان حلم  الوحدة باليونان يعد أمرًا مستحيلًا، وكانوا يرددون شعارا من كلمة واحدة: تقسيم.

عودة جريفاس
يُعد الانقلاب ضد الرئيس مكاريوس بمنزلة ذروة الصراع القبرصي اليوناني الذي امتد عقدًا من الزمان، وأيدت أثينا جريفاس، بطل الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، الذي عاد سراً من اليونان إلى قبرص، حيث شكل قوات "إيوكا ب" في جزيرته الأصلية، والتي رد عليها الرئيس مكاريوس بتشكيل حرس "روماني" أطلق عليه اسم قوات الشرطة الاحتياطية التعبوية.

وعندما توفي جريفاس بنوبة قلبية في يناير عام 1974، حضر جنازته آلاف المشيعين من منطقة ليماسول في الجزيرة ومن منظمة "إيوكا ب" من المسلحين من المجلس العسكري، الذين استكملوا مشوار جريفاس الساعي للوحدة باليونان.

وخلال الانقلاب الذي جرى بعد ستة أشهر من وفاة جريفاس توجهت بعض دبابات الحرس الوطني القديمة من طراز T-34، والتي جاءت هدية من الاتحاد السوفيتي آنذاك، هي التي أطلقت طلقات الانقلاب على القصر الرئاسي. لكن الرئيس القبرصي نجا من محاولة الاغتيال كما سبق أن نجا من عدة محاولات أخرى قبل ذلك، ثم هرب إلى مدينة بافوس، مسقط رأسه في قبرص، حيث نقلته مروحية بريطانية إلى قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني الموجودة في منطقة أكروتيري بالجزيرة. وفي الوقت الذي وصل فيه الأتراك إلى الجزيرة، كان مكاريوس قد وصل بالفعل إلى نيويورك لمخاطبة مجلس الأمن.

ذكريات زافاليس
في صباح الغزو، ذهب لاكيس زافاليس، الذي يقود سيارة زرقاء من طراز "موريس ترافيلر" التي تستخدمها عائلته في أعمالها الخاصة بالطباعة في نيقوسيا، إلى قرية باليوميتوتشو بالقرب من مطار العاصمة، من أجل تلبية نداء الوطن في الكتيبة 366 الاحتياطية.

يذكر أن أسماء المجندين تم تدوينها في إحدى مدارس القرية "استغرق الأمر حوالي 30 دقيقة" وفي طريقه مر على دبابات من طراز T-34 من عهد الحرس الوطني القديم. وبينما يمر عليهم، خرجت له القوات من "برج الدبابة" المفتوح وقاموا بتحيته.

وفي حوالي الساعة 8 صباحًا، كانت السماء مليئة بالدخان الذي خلفته الطائرات النفاثة التركية، التي سرعان ما قامت بقصف حاملات جنود مصفحة كانت تضم كتيبة مشاة وكانت حاملة الجنود الوحيدة التي يملكها القبارصة اليونانيون، وأسفر القصف التركي عن مقتل قائدها.

ومثل معظم سكان نيقوسيا، استيقظ زافاليس بعد وقت قصير من الفجر على أصوات إطلاق نار ودوي انفجارات وطائرات تحلق على ارتفاع منخفض، فصعد إلى سطح شقته بكاميرا سوبر 8 في الوقت المناسب لتصوير المظليين الأتراك الذين يهبطون لتعزيز جيب القبارصة الأتراك شمالي المدينة، ثم جمع بعضًا من قطع الزي الرسمي التي كان يجدها أمامه، وقبّل زوجته أنيتا وابنيهما الصغيرين وودعهما.

هجوم مباغت
من الناحية النظرية، كان القبارصة اليونانيون يفكرون في التعبئة الجماهيرية ، لكن الرئيس مكاريوس لم يجرؤ مطلقًا على السماح بإجراء تمرين كامل لاستدعاء قوات الاحتياط، خوفًا من أن يقوم ضباطه اليونانيون بمسيرة إلى القصر الرئاسي وعزله.

كان موقف القبارصة اليونانيين عصيباً، فالآلاف منهم كانوا يطالبون بفرصة للدفاع عن جزيرتهم حتى يأتي اليونانيون أو الأمم المتحدة أو كلاهما لإنقاذهم من العدوان التركي. ولأول مرة اتحد جميع القبارصة اليونانيين سواء المؤيدين لاستقلال قبرص أو الداعمين للوحدة مع اليونان.

فتح الانقلابيون السجون القبرصية وأطلقوا سراح جميع مؤيدي مكاريوس واجتمعوا معًا، من أجل صد الغزو التركي الغاشم. يتذكر لاكيس، ويقول: "بالطبع، كان هذا قبل تعرض معظمهم للقصف" من الطائرات المقاتلة التركية، وأضاف: "ولكن كان هناك الكثير من الحماس، ما كان ينقصهم هو العتاد الحربي لتجهيزهم".

مأساة العائلة
تسبب اندلاع الحرب والغزو التركي في تشتت عائلة زافاليس، فقد حضر شقيقا لاكيس في مركز لإعداد التقارير على بعد دقيقتين سيرًا على الأقدام من منزل العائلة حيث عاشت والدتهما، التي عانت من فراق أبنائها الثلاثة، وحرمت من أحدهما الذي أصيب خلال القتال.

دوروس، شقيقه الأصغر، على الرغم مما عاناه كجندي بسبب أفكاره، أمسك بآخر بندقية من طراز "لي-إنفيلد" من شاحنة تمتلىء بالأسلحة الخفيفة، وسرعان ما كان جزءًا من وحدة متجهة إلى الشمال.

أما صوفوكوليس، الأخ الأوسط الذي التحق بكلية ليدز للتكنولوجيا، فاته توزيع الأسلحة الأخير ولم يتم تعبئته أبدًا، تحول الأمر معه إلى حظ سييء للغاية في الواقع. خلال فترة وقف إطلاق النار التي تمت ملاحظتها على نطاق واسع للغاية، حاول العثور على إخوته، وأطلق الجنود الأتراك النار على سيارته وانتهى به المطاف في جناح معظم القبارصة الأتراك في المستشفى البريطاني في منطقة ديكيليا حيث تم علاجه من أربعة جروح بطلقات نارية.

غياب الجاهزية
في هذه الأثناء، اتجه كلٌ من لاكيس ودوروس بشكل منفصل للمشاركة في الحرب، وأصبح دوروس حامل الذخيرة لفريق رشاشات ثقيلة لكنه استخدم أحيانًا بندقية "لي- إنفيلد". ويذكر لاكيس أنه لم يستخدم هو ولا أخوه أية بندقية منذ التدريب الأساسي الذي حصل عليه لاكيس قبل حوالي 10 سنوات من بدء القتال.

يقول لاكيس إنه كان يحصل على السلاح والذخيرة من الجنود والضباط الجرحى بعد تعرضهم لهجوم تركي من الجو أو إطلاق نار من البحر، ويذكر أن نجمة الملازم الثاني على كتفيه لم تكن تعني أنه مؤهل لقيادة قوات المشاة في الخطوط الأمامية، لكنه كان هناك لعمله كمحام حيث كان جزءًا من القسم القانوني للحرس الوطني.

يقول المؤرخ البريطاني، كولن سميث إن رجال لاكيس الذين يبحثون معه لم يكونوا على علم بعدم جاهزيته للقتال أثناء الغزو التركي، وأن سميث عندما التقاه في سفوح سلسلة كيرينيا، حيث كانت الأرض الجافة تنفجر في الماضي لتتحول إلى سحب بنية كبيرة بواسطة المدفعية التركية، بدا أنهم على استعداد لاتباعه في أي مكان تقريبًا.

ثم يختم قائلا: "بعضهم لايزال ينقب معه حتى الآن" ففي شهر مايو، عندما كانت الحرارة أكثر لطفًا، انضم العديد من رجاله إلى ملازمهم بحثًا عن حقيبته، التي طمرها قبل نحو خمسة وأربعين عامًا، على الرغم من أنه اشتكى من أنهم لم يبحثوا كما ينبغي.

عن "عثمانلي"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية