"بلاش تبوسني": "توبة" الفنانين بعيون فيلم ساخر

"بلاش تبوسني": "توبة" الفنانين بعيون فيلم ساخر


20/12/2018

قررت الفنانة المصرية المعتزلة "حلا شيحا"، في آب (أغسطس) من العام 2018، خلع الحجاب والعودة للعمل الفني مرة أخرى، ما أثار حفيظة بعض التيارات المحافظة في مصر، وتضاربت ردود الأفعال من الجمهور، التي عكس حدتها مواقع التواصل الاجتماعي.
مستغلاً مثل هذا الجدل الذي أثارته حالات سابقة قدّم المخرج أحمد عامر في العام 2017 فيلمه "بلاش تبوسني" في إطار درامي ساخر، وعرض من خلاله تشريحاً درامياً صادماً للكثيرين، لمعضلة الفنان التائب، التي عرفها المجتمع المصري في العقود الأخيرة.

في البدء كانت القبلة

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كثيراً ما كان منزل الشيخ الشعراوي بالقاهرة الكُبرى يعُج بفنانات بكامل أناقتهن، ليخرجن منه معلنات توبتهن من العمل الفني باعتباره إثماً كبيراً، مرتديات للحجاب وزاهدات في متاع الدنيا، وعلى أثر هذه الموجة اعتزلت العشرات من أشهر فنانات مصر، مثل تحية كاريوكا، شمس البارودي، ومديحة كامل وغيرهن الكثيرات.

اقرأ أيضاً: هل ظلمت السينما المصرية النساء؟

جاءت تلك الموجة انعكاساً للجو المحافظ الذي انغمس فيه المجتمع المصري، منذ مطلع السبعينيات، ورد فعل على انتشار مشايخ الوعظ في المساجد والتلفاز، وشرائط الكاسيت، التي غزت المنازل والمحافل العامة، وبين متردد وعازم، تراجعت بعض الفنانات عن قرار الاعتزال وأخضعن الفن لشروطهن، فظهرت مع بداية الألفية الفنانات المحجبات مثل سهير البابلي، وحنان ترك، ومنى عبدالغني، وغيرهن.

رفضت العديد من فنانات السينما المصرية الكلاسيكية القبلات في أفلامهن أبرزهن فاتن حمامة

هذا المزاج الفني المرتبك، لم يلتفت إليه علماء النفس أو الاجتماع، لكنّه استوقف الفنان والمخرج أحمد عامر، حين قَدِمت إليه إحدى الفنانات الشابات، للمشاركة في فيلم، بشرط أن يتم حذف مشهد القبلة من السيناريو، وهذا ما أوحى له بالفكرة، التي أخذت بعداً ساخراً، حيث تدور أحداث الفيلم في إطار فيلمين متداخلين، يبدأ بمشاهد تصوير لفيلم يحمل عنوان "السراب"، في مشهد حميمي بين البطل والبطلة، يحوي قبلة في إطار درامي، تمتنع الممثلة (فجر) التي تؤدي دورها ياسمين رئيس، عن أداء القبلة، على الرغم من اشتهارها بتقديم أدوار إغراء، لكن هناك ما يمنعها هذه المرة، بعدما طاردتها كوابيس مزعجة، فسّرها لها أحد المشايخ، بأنها إنذار إلهي لتمتنع عن العمل الفني المليء بالمعاصي.

الفنانة ياسمين رئيس

متلازمة الفنان التائب

مع بزوغ الألفية الجديدة، انتشرت موجة الدعاة الجدد التي قادها الداعية عمرو خالد، سالكاً نهج الشعراوي، فقد جذبت طريقته العديد من نجوم الفن، الرجال والنساء على حدٍ سواء، وكان أبرز تابعيه الفنان الشاب أحمد الفيشاوي، الذي فاجأ متابعيه بظهوره على الشاشات في برنامج دعوي مع الداعية أحمد الشقيري، بعنوان "يلا يا شباب"، وكان أقرب إلى الوعظ الأخلاقي منه إلى الدعوة الدينية، ليبدي الفنان على أثر ذلك ندمه على أدوار أخلّ فيها بقواعد الشرع، ويدعو فيها الشباب إلى التوبة.

قيود فنانات من الأجيال السابقة لم تنبع من وازع ديني أكثر من الخضوع للمنظومة الاجتماعية

على غرار ذلك تصرفت فجر بطلة "بلاش تبوسني"، والتي استرجعت ذكرياتها مع أدوار الإغراء التي قدمتها، وتتمنى لو امتلكت أموالاً لشراء أفلامها حتى لا يشاهدها أحد، وتترنح فجر بين إغراء الفن بما يمثله من سلطة وقوة وشهره لصاحبه، وبين رغبتها في التوبة والرجوع إلى الله، وهنا يظهر الشيخ الذي تحاوره، ليرشدها ويدلها إلى طريق الله، ويشد من عزيمتها للمضي قدماً في طريق التوبة.

رفضت العديد من فنانات السينما المصرية الكلاسيكية، القبلات في أفلامهن، كانت أبرزهن فاتن حمامة، التي لطالما أخضعت المخرجين لقيودها في المشاهد العاطفية، وكانت قبلتها الأولى التي استمرت طويلاً مع عمر الشريف في فيلم "صراع في الوادي"، التي كشفت عن علاقتهما العاطفية، ومع نهاية تصوير الفيلم، أعلنا زواجهما، وكذلك الفنانة سميرة أحمد التي رفضت القبلات الحقيقية في السينما، نظراً لخلفيتها الصعيدية.

أخضعت فاتن حمامة المخرجين لقيودها في المشاهد العاطفية

إلّا أنّ تلك القيود ربما لم تنبع من وازع ديني لدى الفنانات، أكثر من الخضوع لمنظومة أخلاقية ترتبط بالعلاقات الاجتماعية والأسرية، ومع انعدام القيود المؤسساتية لأمور القبل من الرقابة السينمائية في مصر، فقد خلت كلاسيكيات السينما المصرية من مشاهد الإثارة، بحسب ما صرّح مدرس النقد الفني بأكاديمية الفنون المصرية الدكتور نادر الرفاعي"، لـ"حفريات": "خلت السينما المصرية من القيود على المشاهد العاطفية والجنسية، وكانت الرقابة ذاتية من قبل الفنانين على أنفسهم وما يقدمونه للمجتمع، حتى جاءت فترة في السبعينيات خلال حكم الرئيس السادات، الذي أكد في مرسوم تم إرساله إلى جميع شركات التوزيع، على ضرورة تنقية الأفلام المصرية والأجنبية من المشاهد الجنسية والعاطفية، والألفاظ النابية، وكل ما يمس العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمع، لكن المفارقة أنّ موجة الإباحية في الأفلام المصرية لم تظهر بصورتها الفجّة بقدر ما ظهرت في السبعينيات، والثمانينيات، بطريقة لم تعهدها السينما المصرية من قبل".

الملصق الإعلاني لفيلم "بلاش تبوسني"

الرقابة الاجتماعية

في العام 2015، تعرضت الفنانة المغربية "لبنى ابيضار"، بطلة فيلم "الزين اللي فيك"، لمخرجه نبيل عيوش، لاعتداء بالضرب من قبل محموعة من الشباب في مدينتها الدار البيضاء، وذلك بعد تسرب مقطع يحوي قبلات بينها وبين بطل الفيلم،  إلّا أنّه اقتطع من العرض الرسمي، وتم تسريبه على شبكة الإنترنت، لتقع البطلة ضحية اعتداء المجتمع، الذي خلق رقابة ذاتية، لتأديب الخارجين عن حدوده.

اقرأ أيضاً: حسين صدقي: الواعظ الأخلاقي وخطيب السينما المصرية

يمكن رؤية هذا الخط الدرامي الذي رصده أحمد عامر بدقة، حين استكمل داخل فيلمه الفيلمين المتوازيين؛ الأول ومعضلته القبلة التي تمتنع فجر عن أدائها، والثاني تسجيلي عن تاريخ القبلة في السينما المصرية، ويقدمه متخرج من المعهد العالي للسينما، يقدم رصداً لتاريخ القبلات في السينما المصرية، والتي لم تمثل أي خدش للحياء العام آنذاك، ولم تظهر عبارة "للكبار فقط"، على أبواب السينمات وقتها، فكانت أفلاماً للأسرة.

التغير الذي شهده المجتمع المصري حوّل مشاهد القبلة إلى إثم كبير حتى لو كانت مفبركة

ومن خلال التغير الذي شهده المجتمع المصري، تحولت القبلة إلى إثم كبير، حتى لو كانت مفبركة، أو مصنوعة من قبل المونتاج، وفي إطار الرقابة الذاتية أيضاً، قدمّ عامر فيلمه بطريقة ساخرة، تخلو من إطلاق الأحكام أو التنميط، وذلك لفهمه الجيد لعقلية الشعب المصري، الذي يقبل أي شيء في إطار الفكاهة والضحك، إلّا أن الفشل الجماهيري كان مصير فيلمه الذي لم يحقق إيرادات سوى 400 ألف جنيه مصري في شباك التذاكر، ورفع من دور العرض بعد 3 أسابيع فقط.

في العام 2015 قدّم الكاتب والمترجم المصري خليل حنّا تادرس، دراسة اجتماعية للقبلات في السينما المصرية، حيث أسهب في رصد قبلات الفنانات المصريات، وفن اختيار القبل الذي يستخدمه المخرجون كعنصر أساسي ومشوق في أفلامهم، وقارن بين النجمات المصريات قديما مثل لبنى عبدالعزيز وهند رستم مع صوفيا لورين، الذين جسدوا مشاهد عاطفية وقبلات لم تثر الغرائز بل قدمت تجسدياً للحب، كما أنّ وضعها يكون بعد اختيار دقيق لزوايا التصوير والوقت والسياق الدرامي، بحيث تصدر عفوية بعيدة عن الإغراء والابتذال، كما حاول رصد البعد الاجتماعي للتجربة السينمائية في الخمسينيات والستينيات، واختلاف سياقاتها عن تجربة سينما السبعينيات، بوصف الحالة السياسية التي يعيشها المجتمع، هي المرشد الأول لعملية الإبداع الفني الذي تعكسه السينما بشكل صريح وواضح، غير قابل للتورية.

الكاتب والمترجم المصري خليل حنّا تادرس

فشل جماهيري ونجاح دولي

بالرغم من الفشل المحلي الذي لحق الفيلم، إلّا أنّه نجح في العروض العالمية، حيث قُدم العرض الأول عالمياً في مهرجان دبي السينمائي الدولي في الدورة الرابعة عشرة، في قسم ليالٍ عربية، وحاز إعجاب النقاد، ثم انطلق إلى مهرجان ميامي السينمائي الدولي في دورته الخامسة والثلاثين، وشارك في ختام مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة في دورته الثانية، والذي وجد فيه حفاوة من النقاد على رأسهم الناقد المصري مجدي الطيب، الذي صرح في لقاء له بعد عرض الفيلم: "لقد وجد عامر الفرصة المواتية لصنع فيلم يفضح ما يجري في كواليس الأفلام المصرية، والسخرية بشكل لاذع من العقلية المصرية المتطرفة التي باتت تتحكم بالعاملين في الصناعة والمجتمع عموماً، وخاصة فيما يخص الفن والإبداع".

الناقد طارق الشناوي وصف الفيلم بالفاشل روائياً ولا يصلح إلّا عملاً تسجيلياً أو روائياً قصيراً

حتى النهاية يحاول المخرج الحفاظ على الخط الكوميدي، الذي بنى الفيلم لأجله، فبعد اقتناع فجر بأداء القبلة، واستخدام "باروكة" بدلاً من التمثيل سافرة الرأس، بعدما حصلت على فتوى شرعية بجواز ذلك، تنهي فيلمها، الذي حصل على جائزة دولية، إلّا أنّها لم تتراجع عن قرارها بخصوص الحجاب، وقررت تقديم برامج للطبخ على أحد الفضائيات، وقد نجح المخرج في تعزيز مشاهد فيلمه بحضور قوي لكل من المخرج الراحل محمد خان، وخيري بشارة، اللذين شاركاه بذات الإطار الكوميدي، وقدم كليهما بصورة جديدة للمشاهدين، مع حضور قوي للفنانة سوسن بدر، في دور"سوسو"، الفنانة الكبيرة التائبة، والملتزمة بالتمثيل بالحجاب، في إطار ساخر لما يسمى بالسينما النظيفة، نجد أن أركان الفيلم مثلت قالباً غير صدامي مع واقع العقلية المصرية المعاصر، بل رصد تجريدي للأداء الفعلي لحياة العديد من الفنانات التائبات، على الرغم من النقد السلبي المقدم من الناقد طارق الشناوي للعمل، الذي وصف الفيلم، بتصريحات صحفية، بـ"الفاشل روائياً"، فهو لا يصلح، على حد تعبيره، إلّا أن يكون "فيلماً تسجيلياً أو روائياً قصيراً"، ويرى أنّ عامر أخذ يمدد النص الدرامي، حتى يخرج فيلماً روائياً طويلاً.

الصفحة الرئيسية