بين المحكمة والإعلام: كيف انهار الخطاب الإسلاموي الشعبوي؟

بين المحكمة والإعلام: كيف انهار الخطاب الإسلاموي الشعبوي؟


12/08/2021

تتوالى تداعيات سقوط رموز ما عُرف بالدعاة الجدد أو خطباء الاسلام الشعبويين، الواحدة تلو الأخرى، فبعد صدمتهم في شهادة محمد حسين يعقوب بالمحكمة "فيما عرف بخلية "داعش إمبابة" التي أنكر فيها الكثير من مبادئة السابقة، وزعم أنه لم يقصد ما فهمه الشباب منها، وأكد على عدم صلاحيته للفتوى، وتهرب من الرد على الكثير من الأسئلة، جاءتهم الصدمة التالية في الأستاذ عمرو خالد، وهو شخصية لا تقل أهمية في المساهمة في نشر الثقافة الإسلامية الشعبوية، عندما هرب من أسئلة مذيع في برنامج تلفزيوني شهير وظهر ضعفه وعدم يقينية أفكاره ورغبته في العودة مجدداً للشاشة فقط ليستمر في قيادة الخطاب الإسلامي الجماهيري، هذا الضعف كان بمثابة طعنة نجلاء في قلب المتابعين والمؤيدين.

اكتملت الصورة عندما وقف محمد حسان في المحكمة ليقدم شهادته، في القضية نفسها التي شهد فيها زميله محمد يعقوب، شكلت الشهادة أيضاً صدمة لمتابعيه، فقد أنكر الكثير من أفكاره التي كان يردّدها بقوة، والتي آمن بها قطاع كبير من الشباب، فانضم بعضهم لجماعات وتنظيمات إسلامية ليطبق ما قالوه لهم، مؤكدين أنّ تلك الأفكار ساهمت في صناعة السيولة الدينية التي استفادت منها كافة التنظيمات الإسلاموية على اختلاف أطرها.

لم يكن سقوط عصر الدعاة الجدد في برنامج أو عقب شهادة في المحكمة، فقد سقطوا قبل ذلك بكثير، ولكن هذه المرة كانت بمثابة شهادة الوفاة الرسمية لمشروع الخطاب الإسلامي الشعبوي، والأشد أنّها جاءت قاصمة وواضحة ولا لبس فيها وبأيديهم، ولا يمكن الزعم أنّ سلطة ما مارست إرهاباً عليهم ليتخذوا مواقفهم تلك.

تتوالى تداعيات سقوط رموز ما عُرف بالدعاة الجدد أو خطباء الإسلام الشعبويين الواحدة تلو الأخرى

اليوم وبعد انتهاء هذه المسيرة التي قاربت نصف قرن لا يجب البحث في صدق أو كذب أي من هؤلاء الوعاظ، فالأمر لا يحتاج إلى خبراء ليدرك نهاية المشروع وسقوطه بانصراف الناس عنهم، لكن حق الوقت أن يقوم الباحثون بالتدقيق فيما حدث خلال العقود الماضية، وتقييم التجربة ومآلاتها ومحاولة الإجابة عن ضرورة التدين الشعبي ومستقبل الخطاب الشعبوي، وكيف طغى الخطاب الديني الشعبوي على خطاب العقل الديني العلمي، ولماذا فشل رموز تلك المرحلة في توظيف شعبيتهم الهادرة بالدفع بحوار ديني إصلاحي تجديدي، وكيف تم إهدار العاطفة الدينية الجياشة لصالح خلافات تافهة صغيرة لا تستحق عناء الانشغال بها، كما يجب تأكيد أو نفي مسؤولية الخطاب الإسلامي الشعبي بالدفع بآلاف الشباب إلى حاضنة التطرف، مع فهم العوامل المجتمعية التي دفعت هؤلاء الى سطح الأحداث وقيادة العاطفة الإسلامية، ودراسة وتحليل مكونات الخطاب الجماهيري (الشعبوي) الذي قدموه للشارع العربي والإسلامي، واستشراف مستقبل الخطاب الإسلامي الشعبوي في الحقبة القادمة، وهل يمكن الاستفادة منه لصالح المجتمع والدين، ولماذا لا يستفيد منه إلا التنظيمات الإسلامية على مر نصف القرن الماضي؟

اقرأ أيضاً: محاكمة جديدة في قضية "داعش إمبابة"... كيف استفاد محمد حسان من تجربة يعقوب؟

مر الخطاب الإسلامي الشعبوي بثلاث مراحل، الأولى في سبعينيات القرن الماضي، وقتها كانت المؤسسة الإسلامية الرسمية (الأزهر) قد استهلكت قدراتها في صراعاتها الداخلية ومحاربة أي فكر مستنير، فلم تطور نفسها لتواكب التحولات المجتمعية ولم تتمكن من التعبير عن تطلعات المجتمع، ففقدت القدرة على مواجهة التحديات المعاصرة، وأخطرها انصراف الشباب عن رجال المؤسسة وضعف تأثيرها العام الشعبي.

لحظة أفول المؤسسة الرسمية هي ذاتها لحظة ميلاد الخطاب الإسلامي الشعبوي ببزوغ نجم الشيخ عبد الحميد كشك بخطبه البليغة الشهيرة، جاءت شهرة الشيخ من نيله من كل رموز المجتمع، صحيح أنّه في النهاية شيخ أزهري معمم كفيف كالكثير من الوعاظ في وقته، لكنه تميز بحديثه المتدفق، ظهر الشيخ كشك بقفشاته الضاحكة وبحكاياته المسلية وبنبرات صوته المجلجة، والتي كان أشهرها تكراره لسؤال (من الواحد؟) يكرره بعدد أسماء اللله الحسنى ومن ثم يجيبه الحضور بصوت واحد الله، الله، الله، حتى يصل بهم إلى لحظات الوجد مع لفظ الجلالة الله، ثم يبدأ خطبته معتمداً على حالة المستمعين المنهكة نفسياً، ومستغلاً المناخ العام الذي شجع كل ما هو إسلاموي بعد تراجع المد القومي بهزيمة 1967.

كانت مكونات الخطاب في تلك الفترة التهكم على رموز الدولة والمجتمع سواء رجال الحكم أو الفنانون، ولم ينج منهم حتى لاعبو كرة القدم! حتى يوم شم النسيم والأعياد الرسمية لم يسلم من تهكم كشك، مع تمجيد لرجال الإخوان المعاصرين أو الذين ماتوا قبل هذا العصر، مع تكرار حكايات عن الموت في سبيل الله وجائزتها الكبرى، وأهمية العودة لممارسة الإسلام، وإطلاق أحكام تفهم في نهايتها على أنها تكفير.

اقرأ أيضاً: البرلمان المصري يتحرك لضبط الفتوى بعد واقعة محمد يعقوب... ما القصة؟

استخدم الشيخ ومعه مريدوه ظاهرة انتشار شرائط الكاسيت، فقام بطباعة خطبه ومحاضراته وخواطره على أشرطة، وقام مريدوه بنشرها في كل مكان، ووصلت للنساء والأطفال ورجال بينهم وبينه آلاف الأميال وامتد تأثير الرجل طوال السبعينيات على المجتمع المصري بشكل واضح.

اكتملت الصورة عندما وقف محمد حسان في المحكمة ليقدم شهادته في القضية نفسها التي شهد فيها زميله محمد يعقوب

أثمرت هذه المرحلة في رفع العاطفة الدينية نحو الرغبة في التدين بشكل صحيح، كما تم تجهيز الشباب لتقبل الأفكار الإسلاموية التنظيمية، وبالفعل تدفق الشباب إلى التنظيمات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية وغيرها من التشكيلات، أما من لم ينضم فقد ظل ظهيراً شعبياً مريداً لتلك التنظيمات.

انتهت هذه المرحلة بمقتل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، رغم عودة الإسلاميين للشارع وللعمل العام لم يعد الشيخ كشك لمكانته في قيادة الخطاب الشعبي؛ فالجماهير كانت في حاجة إلى نوع آخر من الخطابات.

ثم جاءت المرحلة الثانية في الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، فظهر وجدي غنيم كبديل شعبي أكثر تطوراً من الشيخ كشك، فهو مدني يرتدي البذلة الإفرنجية، متعلم تعليماً عاماً وليس أزهرياً، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فهو قدم خطاباً أكثر تفصيلاً ودقة غازل به الجماهير المتعطشة لشخص يحاول ملء مكانة الشيخ كشك، لذا ظل "غنيم" يحمل سمات خطاب سلفه العاطفي الضاحك، مع الحكايات الدينية المهدئة للتفكير مثل سلسلة سلوك الأخ والأخت المسلمة في المواصلات في الجامعة...، استخدم غنيم أيضاً شرائط الكاسيت، ومحاضرات الفيديو المصورة، والتي كانت نقلة رقمية وقتها، أثمرت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات باستمرار تدفق العاطفة الشعبية نحو التيارات الإسلاموية وتنظيماتها، مما جعله رافداً مهماً في مسار التجنيد وغرس التنظيم في نسيج المجتمع.

ثم جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة منذ عام ألفين وحتى لحظة شهادة محمد حسان، في هذه المرحلة ظهر مصطلح "الدعاة الجدد"، وكان على رأسهم عمرو خالد القادم من تنظيم الإخوان وتحديداً مكتب إداري الجيزة، لم يقدم عمرو أي جديد في مضمون الخطاب الإسلامي الشعبوي (الجماهيري)، ولكنه استغل كل الأدوات الممكنة في هذا الوقت للوصول إلى الجماهير، فبدأ كضيف بالقنوات الفضائية، ثم قدم محاضراته في أشرطة المسجلة، ثم قدمها مفرغة في كتيبات، ثم قدم بنفسه البرامج الدينية المستقلة، ثم أدار هو وفريق عمله صفحات التواصل الاجتماعي ثم تويتر ثم اليوتيوب، مع تدريب خاص على إلقاء المحاضرات ولغة الجسد والتنمية البشرية وغيرها من العلوم الحديثة التي ميزت الدعاة الجدد.

 قاد الخطاب الشعبوي إلى مزيد من الفرقة بين المذاهب الإسلامية بل تحول إلى عامل تأزيم وشحن مذهبي

وأمام تفوق الدعاة من تنظيم الإخوان، انتفض قياديو التيار السلفي، وقرروا عدم السماح لعمرو خالد بالانفراد بالساحة الدعوية، فقدموا العديد من الشخصيات الدعوية، برع منهم محمد حسين يعقوب ومحمد حسان وأبو إسحاق الحويني من مزاحمة الإخوان في قيادة الخطاب الاسلامي الشعبوي، واشتروا قنوات وجعلوها منصات لهم يطلون بها على الناس صباح مساء.

مظاهر فشل الخطاب الاسلامي الشعبوي

اتسم الخطاب الإسلامي الشعبوي في المرحلة الأخيرة بأنّه عاطفي يستثير وجدان المسلمين نحو الالتزام بالدين، عبر حكايات يوتوبيا الصحابة، والزج بالألف الحكايات الخرافية لاستمالة وجدان الجماهير، كما اتسم بتقديم نموذج تدين شكلي مشاهد وليس معاش، افتقر الخطاب لأسس العقل النقدي الإسلامي كما افتقر إلى تقديم منظور ديني جديد يستطيع الفرد به أن يتعامل مع معطيات الحياة المتجددة.

كانت مكونات الخطاب الشعبي والاكتفاء بإذكاء العاطفة نحو الإسلام سبباً مباشراً في الفشل في تحصين المجتمع والشباب ضد آفات التطرف والإرهاب، بل ربما كان دافعاً نحو الانضمام إليهم، فالشاب المندفع عاطفياً ومحباً للإسلام المتأثر بالخطاب الشعبوي، أين يذهب ليطبق إسلامه الذي يتخيله، أو الذي وصفه له دعاته، بالتأكيد سينضم إلى أي تنظيم يمكن أن يجد نفسه فيه، ولن يجد أي غضاضة في حبه للشيخ أو للأستاذ وأن يكون تحت أمير يجاهد الكفار بالسلاح.

قاد الخطاب الشعبوي إلى مزيد من الفرقة بين المذاهب الإسلامية، بل تحول إلى عامل تأزيم وشحن مذهبي (سلفي، أزهري، صوفي)، وطائفي (سني، شيعي)، وديني (مسلم، مسيحي)، هذا النزاع أدى الى تفريع طاقات الشباب في قضايا تافهة أعاقتهم عن العمل والبناء والتنمية والإبداع، كما لم يسمح بنمو فكر مستنير يجد حلا لقضايا إسلامية عالقة في ظل الجواء المشحونة والصراعات التافهة.

اقرأ أيضاً: بعد شهادة محمد حسين يعقوب.. هل مهّد الفكر السلفي لنهج الإرهاب؟

فشل الخطاب الشعبوي الجماهيري أيضاً، في مواكبة تحولات المجتمع السياسية والاجتماعية والتنموية، وكان معوقاً لمشاركة المرأة في الحياة العامة وإدماجها في خطط التنمية، وظل يقدمه كما رآها المشرع قبل ألف وأربعمئة عام، كما فشل في تبني مفهوم التسامح والانفتاح على ثقافات العالم.

اليوم وقد انتهى عصر الخطاب الاسلامي الشعبوي أو الجماهيري، هل يمكن أن نشهد مرحلة رابعة يقدم فيها رموز الخطاب الجماهيري انفسهم كمستنيرين يدفعون الجماهير المسلمة لتغيير منظورها التقليدي الجامد ورؤية الإسلام الإنساني المنفتح على الآخر، هل يمكن أن يكون الخطاب الجماهيري في نسخته القادمة مانعاً نحو الانتماء للجماعات المسلحة وحامياً للمجتمعات من الإرهاب والتطرف هذا ما نسأل الله أن يكون



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية