تجربة الإمارات في الإفلات من التشدد ومصالحة الدين مع الدنيا

الإمارات

تجربة الإمارات في الإفلات من التشدد ومصالحة الدين مع الدنيا


16/01/2018

في السادس من شهر آب (أغسطس) من العام الماضي أعلنت دولة الإمارات، أنّ عام 2018 سيكون "عام زايد"؛ فبه سيكون قد مرّ على ميلاد مؤسس الدولة مائة عام، ومن هنا فإن الاحتفاء به إنما يُجسِّد المكانة التي يمثلها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لدى كل إماراتي، فهو القائد الباني لدولة الاتحاد، وواضع أسس النهضة العصرية التي تشهدها الإمارات على المستويات كافَّة. ومن ضمن ما ارتكزت عليه تلك النهضة الإماراتية أنها قامت في أحد أهم أسسها على فهمٍ للدين الإسلامي يرتكز إلى الاعتدال والوسطية والتسامح، وتآخي العقل والثروة، مع الانفتاح على العصر والعالم.

التركيبة التي حمتْ الإمارات

لقد أفلتَ الشيخ زايد، مؤسس دولة الإمارات الراحل، من التأثر السلفيّ المتشدد، وهو القائم، كما يقول الباحث العراقي رشيد الخيون، على حدوده الغربية، حيث منطقة السلع التي منها يُنفذ إلى السعودية ودولة قطر. وكانت دروس التأسيس للدولة الناشئة على يد الشيخ زايد تتركز على العمران والتعليم، واستيعاب دروس التسامح الديني والاجتماعي والانفتاح على العالم. هذا التسامح يلمحه الزائر أو المقيم إلى الإمارات، حيث يسترعي الانتباه اليوم، مثلاً، وجود مسجد باسم مسجد "مريم أم عيسى"مجاور لمجمع كنائس بمحلة المشرف في العاصمة أبو ظبي، كان اسمه قبل وقت قريب مسجد الشيخ محمد بن زايد، وهي، وفق الخيون، بادرة اطمئنان للتعايش على أرض تسكنها نحو مئتي جنسية، بعشرات الديانات والمذاهب، وبهذه وغيرها ترى الإماراتي ينظر إلى الآخر الديني بعين الرضا لا الكراهية.

ويتضح عند البحث والتحليل أن ثقافة التسامح واحترام الآخر جزء من هوية الإمارات منذ نشأتها، وقد أكدت التنقيبات الأثرية احتضان الإمارات، وتحديداً جزيرة صير بني ياس، لأقدم دَيرٍ مسيحي في المنطقة؛ وقد أعقب ذلك الاكتشاف في عام 1992 توجيهات من الشيخ زايد نفسه بإعلاء هذه القيمة التاريخية والعناية بالآثار الدينية بشكل عام؛ ما يلقي المزيد من الضوء على هوية شعب الإمارات. وفي سياق ذي صلة، تكفّل الشيخ زايد، رحمه الله، في عام 2002 بترميم كنيسة المهد في بيت لحم في فلسطين، وبترميم مسجد عمر الذي يقع بجوار كنيسة المهد؛ معتبراً أن المعابد ينبغي أن تُحترم بغض النظر عن طبيعة قاصديها.

أفلتَ الشيخ زايد، مؤسس دولة الإمارات الراحل، من التأثر السلفيّ المتشدد، وهو القائم، على حدوده الغربية

ويرى الخيون في كتابه الذي صدر قبل سنوات بعنوان "أبو ظبي تصالح العقل والثروة" أن السلفية لو كانت رسّختْ أقدامها في أبو ظبي أو دبي ما عمرت البلاد، وما دخلها صاحب علم وخبرة، لكنّ امتلاكهما لفكرة التصالح بين الدنيا والدين مكّنهما من البناء وتحويل الصحراء إلى حاضرة مدنية، تحافظ على الصلاة والصوم والتقاليد وبناء المساجد بكثرة، إلى جانب الانفتاح على الأديان والمذاهب والأفكار الكثيرة التي يعتنقها السكّان المقيمون على أرضها من أكثر من 200 جنسية، وهي تركيبة في أسلوب العيش كفلتْ التمدن وحمت الدين، في ظل انضباط الناس بالقانون، وإعطاء فسحة كبيرة للحرية الاجتماعية. تلك التركيبة حمتْ دولة الإمارات من إشكالات الإسلام السياسي، وما يستتبع شيوعه من تأسيس المعاملة على أساس التدين والبعد الحزبي وعقلية "الفسطاطين"، لا على أساس النزعة الإنسانية والتسامح الاجتماعي والديني والميل إلى المساواة بين البشر.

قوانين لتكريس التسامح

وفي سياق هذا الوعي، جاء إعلان دولة الإمارات في شباط (فبراير) 2016 عن وزارة للتسامح، ولعلها المرة الأولى بالعالم، التي تُخصص فيها وزارة لشؤون التّعايش والتّسامح. هذا الأمر عرضه الخيون في "العرب" اللندنية (15/1/2018) بقوله:(سبق هذا القرار صدور قانون "مكافحة التمييز والكراهية"، وفتح مراكز لمكافحة التَّطرف، وليس فرض العقوبة على التحرش ببعيد عن مهام التّسامح، والعيش المريح، فتكاد تكون الإمارات البلد النادر بالمنطقة الذي تشعر النِّساء فيه بالأمان، فالقانون لا يرحم. كذلك وجود معهد للتسامح بالإمارات، يسند جائزة عالمية لرموز التَّسامح -جائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم- كلها تصب في تكريس التَّسامح كفكر وممارسة؛ فمن ركائز وجود هذه الوزارة "عدم السَّماح للضرورات الفردية العقائدية والمذهبية بأن تطغى على الضرورات الإنسانية"، والهدف "إلغاء الفوارق العنصرية بين الشعوب والأُمم".

المصالحة بين الدين والدنيا

ولترسيخ "الوصفة الإماراتية" في المصالحة بين الدين والعقل أو الدنيا ومصالح البشر، تجنبت دولة الإمارات، كما يذكر الخيون في كتابه، طريقة البعض في فرض التدين فرضاً. وهي من أجل ذلك لم تسمح، عبر تلك المصالحة الفطرية والواعية في آن معاً، بظهور أشخاص بثقل فقيه يصطلح عليه بإمام الدولة أو مفتيها، خشية أن يكون مثل ذلك المنصب عائقاً أمام التمدن، أو معوقاً للتساير بين التعقّل والتدين. كان هذا جلياً في رؤية الشيخ زايد، وهي ممتدة حتى اليوم؛ فثمة لجان فقهية مؤسسية منتشرة تابعة للأوقاف في الإمارات لا تصل إلى أن تكون مثل الأزهر (مصر) أو فاس (المغرب) أو الزيتونة (تونس)، وليس ثمة مفتٍ أو مرجعية دينية كما في النجف في العراق أو قم في إيران، أي إنّ التاريخ لم يثقل الإمارات بوجود مثل تلك المؤسسات، وهي من جهتها عزمت منذ البدء على مقاومة تسييس الدين وأدلجة خطبة الجمعة وخروج المساجد عن غايتها العبادية. واللافت أن الزائر والمقيم يلحظ كثرة المساجد في مدن دولة الإمارات، وحُسن رعايتها ونظافتها والاهتمام بها.

تجنّب الانقسامات الدينية

يهجس رشيد الخيون في كتابه بأن مجالس شيوخ الإمارات تفيض بمحاضرات العلماء في التاريخ والفلك والبيولوجيا والأدب والفقه، من دون خطب رنانة تثير الانقسامات أو تجعل المرء يعاني انفصاماً بين إسلامه والعصر والحداثة. والمساجد في رمضان مليئة بالصائمين وبمصلي التراويح من دون تحشيد ديني أو تسييس أيديولوجي ضيّق. وقد كان موقف "تلفزيون دبي" في العام 2012 حاسماً مع الشيخ الداعية أحمد الكبيسي حين خرج عن النص واختار المكان غير الملائم ليحدّث عامة الناس عن الخلافات بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، مختلفاً بذلك مع المقاربة التي تقوم عليها الإمارات في الشأن الديني.

تسامحٌ يغذي التحديث

محاولة النجاة من تسييس الدين وأدلجة الإسلام ومعاندة العصر، تبدو جلية عند إلقاء نظرة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جارة الإمارات. ولعلّ من أفضل من عبّر عن هذه المسألة الكاتب الإيراني المعروف إبراهيم نبوي المقيم في بلجيكا، إذ كان انتقد في مقال نشره موقع "روز أونلاين" الإيراني (3/5/2012) إعجاب الإيرانيين بذاتهم بشكل مبالغ فيه، وعلّق نبوي على احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث بقوله: "لو كانت الإمارات قبل 30 عاماً جزءاً من إيران لكانت الآن خَرابة مثل بندر لنجة الإيرانية، ولو كانت مكة والمدينة إيرانية لكانت مثل مشهد وقم متخلفتين" في معايير التنمية والبنى التحتية وتسهيلات الخدمات.

لترسيخ المصالحة بين الدين والعقل أو الدنيا ومصالح البشر، تجنبت الإمارات طريقة البعض في فرض التدين فرضاً

وحين سأل الخيون وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك حول ما إذا كانت دولة الإمارات تستلهم حادثة تاريخية لافتة؛ حيث إن قراراً صدر في عهد الخلفاء الراشدين يقضي بمنع تولي غير المسلمين الوظائف الكبرى ومنها الكتابة في الدواوين، لكن والي البصرة الصحابي أبوموسى الأشعري أتى إلى الخليفة ومعه المحاسِب وكان من أهل الكتاب، فلما سأله الخليفة عن تطبيق القرار، أجابه الأشعري "يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه"... قال الوزير الإماراتي:" نعم. لنا مهاراتهم والصلات الإنسانية بهم، وهم أحرار بأديانهم، وهذا ما يجري على أرض الواقع في دولة الإمارات".

الصفحة الرئيسية