تونس.. البلد الذي أنهى عصر الأحزاب

تونس.. البلد الذي أنهى عصر الأحزاب


08/08/2021

علي قاسم

هل تتحول تونس، هذا البلد المتوسطي الصغير القابع على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، إلى مقبرة للأحزاب والأيديولوجيا؟

مثلما كانت تونس سباقة في إطلاق ثورات الربيع العربي (هكذا يطلق عليها) قبل عشر سنوات، كانت سباقة قبل 175 عاما، في الإعلان عن إلغاء الرق والعبودية.

في الثالث والعشرين من يناير 1846 أقر أحمد باشا باي، وهو عاشر البايات الحسينيين بتونس، إلغاء الرق والعبودية بالبلاد. سبقت تونس بهذا القرار الولايات المتحدة وفرنسا، حيث سجلت تجربتها في ذاكرة العالم من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مكرسة بذلك ريادتها على الصعيدين العربي والإسلامي في تبني قيم الحداثة.

وسبقت تونس في ثورتها الطلابية، التي اندلعت خلال شهر مارس 1968، الثورة الطلابية في فرنسا التي اندلعت خلال شهر مايو من العام نفسه.

فهل تكون تونس اليوم في طريقها إلى إنجاز جديد، ويسجل لها التاريخ أنها البلد الذي سبق دول العالم في إنهاء عصر الأحزاب؟

من يصدق أن البلد الذي كان دائما معبرا للحضارات، سيترك بصمات لا تنسى على التاريخ البشري.

شبعنا سياسة وشبعنا أيديولوجيا، هذه هي رسالة التونسيين للأحزاب السياسية، التي عجزت عن تلقفها من اللحظة الأولى، فراحت تندب الديمقراطية.

النهضة كانت في طليعة الندّابين. والسبب ببساطة أن السلعة الوحيدة التي حاولت تسويقها خلال عشر سنوات هي الأيديولوجيا، ولا شيء غير الأيديولوجيا.

بالطبع لم تكن النهضة الوحيدة التي رفعت شعار “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” وأطعمت التونسيين على مدى عشر سنوات شعارات وأيديولوجيا. اليسار أيضا رفع الشعار نفسه. ولم يحرج بتقديم النصيحة للتونسيين بتناول البسكويت عندما يشح وجود الخبز. هكذا تفكر النخب، خاصة عندما تشتم رائحة الحكم.

التفاف التونسيين حول سعيّد حير العالم، الذي سرعان ما تلقف رسالة الشارع التونسي، وزلزل الأحزاب التونسية ليكتفي معظمها بالصمت وبعض الهمهمة والغمغمة وهو يرى التفاعل الإيجابي الدولي مع الرئيس سعيّد.

النهضة استفاقت متأخرة، احتاجت إلى عشرة أيام كانت كفيلة بأن “تهز تونس”. ما حدث في تونس هزّ العالم. وقد يتحول إلى أول مسمار يدق في نعش الإسلام السياسي.

ظن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أن بمقدوره تسويق بضاعته القديمة بين التونسيين، فخرج معارضا يتّهم الرئيس بخرق الدستور، الذي حوله إلى كتاب مقدس، واصفا ما قام به من إجراءات بـ”الانقلاب”. التونسيون ردوا عليه: فليكن.

عندما أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه مفجرا الثورة، لم يفعل ذلك دفاعا عن الديمقراطية ورفضا لانقلاب، بل دفاعا عن مصدر رزقه وحقه بالعمل.

انقلاب، وليكن. ما قام به قيس سعيد هو وضع حصان الاقتصاد أمام عربة السياسة. هو دفاع عن حق التونسيين في أن يعيشوا حياة كريمة. حتى لا يخرج من بينهم ألف بوعزيزي.

وبعد سنوات من الغضب الشعبي المتصاعد من الأحزاب السياسية بسبب الركود الاقتصادي والفساد والشلل السياسي، بدا أن إعلان سعيد المفاجئ في الخامس والعشرين من يوليو يحظى بشعبية كبيرة في البلاد.

أدرك الغنوشي الحقيقة، فلم يجد حرجا في الالتفاف 360 درجة، ونشرت صفحة النهضة تصريحات له الأربعاء تضمّنت لهجة مغايرة قال فيها “يجب علينا أن نحول إجراءات الرئيس إلى فرصة للإصلاح”. ولكنه أضاف “يجب أن تكون مرحلة من مراحل التحول الديمقراطي”.

لم يستطع الغنوشي التخلي عن عكاز الديمقراطية. مثله في ذلك مثل الأحزاب اليسارية التي صمتت عن الحق رغم أن المفروض بها أن تكون في طليعة المدافعين عن حقوق العمال والفقراء والفئات المهمّشة، وأن تنتصر لدكتاتورية البروليتاريا وسيطرتها السياسية والاقتصادية على وسائل الإنتاج.

الديمقراطية نفسها شكل من أشكال الدكتاتورية؛ إنها دكتاتورية الأغلبية. وهي أولا وأخيرا ممارسة إنتاجية واقتصادية قبل أن تكون ممارسة سياسية، وبوصفه ممثلا للأكثرية، من واجب قيس سعيد أن يحكم بما يحقق مصالح تلك الأغلبية التي أوصلته إلى الحكم.

الديمقراطية بوصفها ممارسة سياسية تنتهي بإقفال صناديق الاقتراع وفرز الأصوات. لتبدأ بعدها مرحلة الحكم، أي العمل على تحقيق مصالح الأغلبية.

ماذا حدث في تونس وأودى بها إلى الفشل؟

بدلا من ممارسة الحكم وتحمّل المسؤولية تحوّلت الديمقراطية في تونس إلى مجرد لعبة تتلهى بها الأحزاب، وتحقق بها بعض الأطراف مصالحها الخاصة وتعيث في الأرض فسادا.

الجميع مسؤول، والجميع يتنصل من المسؤولية، كل يلقي باللوم على الآخر. وبدلا من أن تحقق الثورة مطالب البوعزيزي، دخلت الأحزاب في جدل عقيم حول من يحكم ومن ينفذ. من الدجاجة ومن البيضة؟

قيس سعيد امتلك الجرأة والشجاعة لينهي لعبة الدجاجة والبيضة، وخرج ليقول أنا من يحكم مفوضا من الشعب وباسم الشعب الذي ملّ من لعبة الديمقراطية، بعد أن حولتها الأحزاب إلى جدل نخبوي عقيم.

التف التونسيون حول قيس سعيد، لأنه امتلك الشجاعة وتقدم الجميع لتحمل المسؤولية، ويا لها من مسؤولية.

في المقابل انفضّ التونسيون عن الأحزاب، لأنها هربت من تحمل المسؤولية مكتفية ببعض الامتيازات.

ما كان ذلك كله ليحدث، لولا اختراع جديد في العقدين الأخيرين غيّر العالم كما نعرف؛ ثورة الاتصال والتواصل الاجتماعي. ليتحول كل فرد في المجتمع إلى حزب.

بدقائق أو ساعات معدودات يمكن أن تتشكل أي جماعة تحت أي مسمى وتحت أي شعار، لم يعد الأمر يحتاج إلى مطابع سرية، كل ما يتطلبه الأمر هاتف ذكي وخط إنترنت.

الإنترنت، ومعها وسائط التواصل، محكومة اليوم بالأصوات الشابة. هل هناك بين الأحزاب التونسية حزب تقوده أصوات شابة؟

استطاع قيس سعيد أن يقرأ التغيرات التي حدثت وتحدث من حوله، وأكاد أجزم بأن الأعوام القادمة ستحمل إلينا أخبارا عن فوز رؤساء في أوروبا والولايات المتحدة مستقلين، لا ينتمون إلى أي من الأحزاب الكبرى التي احتكرت الحكم وتناوبت عليه في ما بينها؛ في لندن، يتناوب العمال والمحافظون على السكن في 10 داوننغ ستريت، وفي واشنطن يتناوب الجمهوريون والديمقراطيون على السكن في البيت الأبيض.

سبقت تونس العالم في إلغاء العبودية والرق وسبقت فرنسا في ثورتها الطلابية، وقادت التغيرات التي عمت الدول العربية منذ عشر سنوات.

اليوم، تونس في طريقها إلى إنجاز جديد. قريبا سيسجل لها التاريخ أنها البلد الذي سبق دول العالم في إنهاء عصر الأحزاب والأيديولوجيا ودقّ أول مسمار في نعش الإسلام السياسي.

حينها سأقول وبصوت مرتفع: ألم أقل لكم.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية