جريمة توأمي "داعش"...والاعتراف الكليل!

جريمة توأمي "داعش"...والاعتراف الكليل!


04/01/2018

يتطوّر الأفراد بالسعي المستمر إلى التعلّم والرغبة في اكتساب المعارف والمهارات وصقلها. وتدلّ التجارب على أنّ ذلك لا يَتَّقِدُ إنْ لم يدمجوا معه تنحيتهم وغربلتهم لجملةٍ من الأفكار والعلاقات والبنى الفكرية والنفسية التي تظلّ تشدّهم إلى الوراء، وتُشكّل عبئاً سلبياً عليهم وعلى نضوجهم العقلي والنفسي.

هذا الوعي الذي يتحرى إعادة بناء الذات وتهجين الهوية باستمرار، بما فيها الهُوية الدينية، يستدعي "الاعتراف أولاً"، أيْ الإقرارُ بأنّ ثمة حاجةً ذاتية وموضوعية مستمرة للتطوير والغربلة، تُمليها حركة الاجتماع ونبض الحياة.

من معاني الاعتراف المعرفي الإقرار بأنّ ثمة حاجة إلى غربلة الموروث الديني والروايات الدينية التي تصطدم مع حرية الإنسان وحقوق الآخرين، وفي مقدمتهم المرأة، أو تلك التي تصطدم مع الفتوحات العلمية والعقلانية وقيم العصر. وبغير الإقدام على ذلك ستظل تصدِمُنا قصصٌ وحوادثُ مثل قصة توأمي "داعش" اللذين قتلا في السعودية، في أيار (مايو) 2016، والدتهما الطاعنة في السن، متذرعيْن بفتوى تجيز أنْ يقتل الابن والده الكافر! وبغير ذلك سنظل نسمع الكثير من قبيل رفض بعض الأئمة في مساجد الأردن في الفترة نفسها، إقامة صلاة الغائب على أرواح جنود عملية مخيم الركبان الإرهابية، التي نفذها آنذاك عناصر من "داعش" على الحدود الأردنية - السورية.

سجل التوأمان خالد وصالح العريني الجريمة الأبشع في تاريخ "داعش" الدموي حينما قتلا والدتهما بفتوى أنها "كافرة"

بعد أيام، ستشرع المحكمة الجزائية المتخصصة في قضايا الإرهاب بالعاصمة السعودية (الرياض)، في بدء أولى جلسات محاكمة التوأمين الداعشيين اللذين قتلا والدتهما وأصابا والدهما وشقيقهما. لقد سجل التوأمان خالد وصالح العريني، الجريمة الأبشع في تاريخ التنظيم الدموي، إذ تعود تفاصيل القضية، وفق وسائل الإعلام السعودية، إلى فجر إحدى الليالي الرمضانية في 2016، "التي استدرج فيها الجانيان والدتهما إلى غرفة المخزن، ووجها إليها طعنات عدة بساطور وسكاكين حادة حتى فارقت الحياة، ثم توجها إلى والدهما وشقيقهما ليقوما بمباغتة والدهما بطعنات عدة، ثم اللحاق بشقيقهما سليمان، 22 عاماً، وطعنه، قبل أن يغادرا المنزل، ويستوليا على سيارة من أحد المقيمين بالقوة ويهربا على متنها. لقد نفّذ توأما الغدر جريمتهما البشعة، بعد أن كشفت والدتهما، المغدور بها، عن نية الشقيقين، المعتنقين للفكر التكفيري، الالتحاق بصفوف تنظيم "داعش" الإرهابي في مناطق الصراع، فقرر التوأمان التخلص من والدتهما المسنّة قبل الإبلاغ عنهما، غير أنّ الجهات الأمنية أفشلت محاولتهما الهرب إلى اليمن، وتم إلقاء القبض عليهما في منطقة الخرج أثناء محاولتهما التوجه إلى الحدود اليمنية".

تُرى أيُّ مأساة هذه التي يسوّغها تراثٌ ديني يجيز لهذين الشقيَّيْن التنكيل بأمّهما، بحجة أنها كافرة، وتريد إبلاغ السلطات السعودية بانضمامهما لتنظيم دموي متطرف؟! وما نفع كل مؤلفات ابن تيمية ما دامت هذه الفتوى صادرة عنه، وباقية في كُتبه وفتاواه؛ مقدِّمةً تأويلاً للدين يتناقض مع الإنسانية والمحبة والوفاء وأبسط أبجديات الرحمة والخيرية والعطف على الوالدين؟

يُفيدنا، في معركة مواجهة التطرف والإرهاب، تصنيف التراث الديني إلى نافع وضار، فـ "الابتعاد عن التاريخ العبء والتقدّم بالتاريخ الحافز" يحمي أنفسنا من تكرار حادثة توأمي "داعش" وسواها.

لنكنْ صُرحاء، اعترافنا لا يزال كليلاً، مع أنّ الاعتراف، كما يقول المعالجون النفسانيون، بداية التعافي والنجاح، وهو هنا بداية بناء الهُوية الدينية من جديد، وبالتالي إعادة تشكيل مضامين الإيمان وأنماط التدين. والرافد الإنساني الحرّ والعقلاني والأخلاقي يُعيد تفسير النصوص الدينية عبر تغيير الفهم الذاتي للنصوص، وتوسيع خيـارات التـأويل الفردي، وعقلنة المعنى والمقدس.

أنْ يكون بين ظهرانينا من يبرر جريمة توأمي "داعش" يعني أنّ هناك نزوعاً إجرامياً لدى بعض الأفراد

من هنا أهمية التنمية الثقافية، التي تهدف، في أحد جوانبها، إلى الحيلولة دون أن يكون التدين مقوِّضاً للحرية والتقدّم والقيم الإنسانية، وهو ما لا تبدع فيه وزارات الداخلية وأجهزة الأمن، برغم أهميتها في محاربة التطرف، بل تبدع فيه المؤسسات المستقلة وهيئات المجتمع المدني والروابط الفنية والجامعات والأندية ووزارات الثقافة، والكُتّاب والشعراء والفلاسفة، في حال استهدفت جهودهم بناء الإنسان الحرّ والقادر على الاختيار والاختلاف، وعلى صناعة الحياة والأمل، وتحسين العيش في هذا العالم.

أنْ يكون بين ظهرانينا من يبرر جريمة توأمي "داعش" يعني أنّ هناك نزوعاً إجرامياً لدى بعض الأفراد يعثرون على نصوص دينية تُشرعنه وتضفي عليه طابعاً رِسالياً، وأنّ ثمة موروثاً ثقافياً لم يتحوّل إلى تاريخ جامد، بل هو ماضٍ لم يُعد تفسيره ونقده وغربلته، ورفضه أحياناً، ولذا لا يزال مُلهِماً لكثيرين لجعله حاضراً ومستقبلاً.

لا تسألوا عن مدى قدرتنا على تحمّل "التاريخ العبء" وما يجرّه من المآسي والمعاناة وتشويه صورتنا، إنْ لم يكن هناك اعتراف... اعتراف غير كليلٍ!

الصفحة الرئيسية