جيل ما بعد أوسلو

جيل ما بعد أوسلو


04/04/2019

ليسَ من السّهل أن تَجد اليومَ شابّاً ثلاثينياً أو عشرينياً وقد رَاقه كلامُ  ستّيني أو خمسيني،  والسّبب ربما يكمُن في تلك المَسافة الفاصلة بين جيلين تباينا حتى في نَمط الغِذاء وأُسلوب التواصل واللّباس والمعرفة والاطّلاع على ثقافات العالم وإتقان لغاتِه، اختلفا حَتّى بطبيعة الأمراض التي تلحق بهم؛ إنهما في الحقيقة جيلان شهد الأخيرُ منهما عَصر الانستغرام والفيسبوك والتويتر،  في حين كان الجيلُ الأول يرى في الفاكس كماليةً وتزوّداً لا طائل منه، ففي الثمانينيات وحتى مَطلع التسعينيات كانت قرية مليح جَنوبي مأدبا تمثل مركزَ صراعٍ حزبي أسّسَ لاحقاً لمرحلة وِلادة جيل حديث، فقد كان قِوام ذلك الصّراع الأيديولوجي ثَلاثة أقطاب هي: المدّ القومي (البعث) المُفعم بشذا بغداد وياسمين دمشق، والمدّ الماركسي (الشيوعي) الذي هيّأ فرصاً تعليميةً ذهبية للعديد من أبناء لواء ذيبان والمحافظة، أمّا الثالث فهو الإسلام السياسي الذي هلّل له كثيرون بغية  كَبحِ جِماح المدّ الماركسي الذي كان يَحتَضر وقتذاك.

اقرأ أيضاً: يوسف هريمة: الثقافة العربية تقوم على صناعة الأصنام الذهنية
بين هاتيك التموّجات الفكرية انصبّ اهتمام الشباب على القضايا الأمميّة والعربية، فَجُبلَ وعي هؤلاء الشباب بعيداً عن أي تبلور داخلي لمفهوم وطني انتمائي، وكانت الحَناجر والهُتافات آنذاك ذات صِبغة خارجية في مضمونها الأول؛ حناجرٌ كانت قد تعالت وسُمع صوتُها بوضوح خاصةً إبان أحداث الخليج العربي وسُقوط الاتحاد السوفييتي في العقد الأخير من القرن المُنصرم، وذلك حتى تولّي جلالة الملك عبدالله الثّاني الحكمَ وصعود شعارات كـ  "الأردن أولاً، فرسان التغيير، على قدر أهل العزم" وبالمقابل انكِفاء السّياسة الأردنية وحكوماتِها المُشكَلة نحو معالجة تحديات داخلية، وترك التعاطي مع القضايا الخارجية بعد معاهدة السّلام (الأردنية - الإسرائيلية)، حينذاك طَفت على السّطح قضايا العولمة ومتطلباتها،  ورافقها ارتفاعٌ غير منطقي في أسعار النّفط الذي يفتقر إليه الأردن،  وبَرزت إلى جانب ذلك أزماتٌ اقتصادية عالمية، كما وتفاقمت كُلف جديدة أضيفت إلى  مُوازنة الأردن الذي كان يتهمّس طريق الصعود بخطى جادّة لكنها بطيئة.

ليسَ من السّهل أن تَجد اليوم شابّاً عشرينياً وقد رَاقه كلامُ  ستّيني والسّبب ربما يكمُن في تلك المَسافة الفاصلة بين هذين الجيلين

وبالعودة لتبلور الشّأن الشبابي في تلك المدّة التي اصطلحنا عليها (بعد أوسلو) كان مشروع (الألف حَاسوب) يدخل المدارس القروية والنائية،  ومعها توجّه الشباب نَحو رَقمَنة جديدة وأسلوب تواصلي اجتماعي جديد  بدءاً من (الشات) وليس انتهاءً بالانستغرام؛ فقد صِيغت ثقافةٌ مختلفة جعلت جِيلَ الشباب هذا ينقطع عن سابِقه شكلاً ومضموناً، ما أكسبه إذ ذَاك قدرةً على الاطلاع على أهمّ الأخبار والأحداث العالمية والوصول إلى أحدث الإنجازات العِلمية والتحوّلات الجوهرية في البنية المجتمعية،  كما وجُسِرت الهوة القائمة في العلاقة مع الآخر بسرعة مذهلة،  ما ولّد لدى هذا الجيل رغبةً في اكتشاف العالم وقضاياه المتنوعة و السّفر والتعرف إلى  الخارج والدراسة فيه، وذلك على النقيض من جيل الآباء الذي بقي محافِظاً كلاسيكياً فارتَهن للبنوك والقروض والرّواتب التقاعدية تاركاً مِهنة الأرض والزّرع وتّربية الأغنام.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون التطرف عدوّاً مخفيّاً؟ وكيف تتسلّل الكراهية للثقافة والتعليم؟
وبرزت ثقافة  التّجارة عَبر الإنترنت، وإمكانية نشوء علاقة وجدانية مع الآخر عبر الانترنت، إذ كشف هذا الجيل عن معرفة هائلة  في التكنولوجيا وتقنياتها بشكل يَفوق معرفتَه في التاريخ والجغرافيا والدين...، فأمس على وجه التحديد وحين كنت أَمضِي في سَاحة الجامعة الأردنية استرعى انتباهي طالبُ مدرسة ثانوية  يتأبّط وهو يخرُج من مكتب بريد الجامعة طرداً كبيراً خُتم عليه بخَتم شركة "أمازون" علماً بأنّها  ليست الشركة  الوحيدة  المعنية بالتجارة عبر الإنترنت في أمريكا والعالم، إذ هذا أمر جلل ولا يمكنه تمريره دون تدقيق لأنه يكشف عن اهتمام جيلنا الجديد وعن تطلعاته الحديثة، إنه جيل ما بعد المقاومة، جيل الحداثة السائلة  الذي تمزّقت أمامه فكرة المركز والأطراف، وتم بسبب هذه الحداثة  تعويم الهوية الأصولية (المنبت)، وتهاوت معها وإلى حدٍّ كبير سلطة العائلة والقبيلة،  فهُشّمت صورة الأب البطريركية وشيخ العشيرة المُعتَد، وذلك لصالح معايير انضباطية وقوانين عالمية يُدركها المرء ويسمع عنها في لندن كما في العقبة ووسط البلد، فليس هناك (وشم) يخصّ كياناً اجتماعياً \ قبلياً دونَ غيره، لقد عوّمت الحداثة  الهُويّة الإنسانية وربطتها بِما ينفعها وحسب.

تولدت عند الجيل الشاب رغبةً في اكتشاف العالم وقضاياه المتنوعة والسّفر والتعرف إلى  الخارج والدراسة فيه، على النقيض من جيل الآباء

حين قَدِمَ  "الرّبيع العربي" محمولاً على أكتاف الشّباب العربي، كان قد جاء متعجّلاً ومتساوقاً مع سُرعة التكنولوجيا التي يحملها الشباب بين أيديهم وفي أجهزتهم الحاسوبية، فحينها لم يُحسن الشباب العربي إدراكَ حَجم التّحولات العَالمية والمعلوماتية من حوله جراء تدفُقها السريع، لكنّه معها اكتَسب تطوّراً ملحوظا في شخصيته تمثّل في: الجرأة في الطرح والشجاعة والإقدام على فعل كل ما يرغب فيه أو يجذبه، وكان أن انطلق هذا الربيع العربي بعد صافرة "البوعزيزي" وانقلاب عربته الصغيرة،  فانفجرت إزاء ذلك كله الرّغبات الشّبابية وكبُرت أحلامُ الشباب في التغيير والعبور، لا سيما وهم يرون الشباب الأوروبي والغربي عموما يتنقّل ويَجتهد ويُرفّه بدعم وبغطاء من مؤسّسات دولته، إذاً وُلِد جيل الشباب العربي الحديث هذا بطبائعه ومسلكياته وتعبيراته متخلصاً من حنينه إلى ماضيه وعاداتِه وتقاليده، ومتخلصاً من فِكرة القائد العظيم،  وُلد هذا الجيل أيضاً وقد تباينت قِيم الولاء والانتِماء لديه، وُلد ومازالت بَعض الجِهات في الأنظمة السّياسية العربية  تحاول تَمرير حِكاية وحدانيّة الحَاكم العربي المخلّص الذي لا بديلَ عنه في الوقت الذي يقول المتظاهرون الشباب في الجزائر أنّهم مُذ نُعومة أظفارهم وهم يَرون الجزائر بوتفليقة وبوتفليقة الجزائر، وأمام أعينهم على الضفّة الأخرى من قارة أحلامهم –أوروبا- يعيش الآخر الغربي  منعّماً بخياره السياسي ويمارس حريته ويأخذ حقوقه دون أن تُشعره السّلطة السياسية هناك بأن ما يَحصل عيه هو بِسبب عَطاء نظام الحكم ورِضاه، وهنا يتشكل سؤال لدى أحدِ المُتابعين حول ما يحدث في الجزائر اليوم سؤال مفاده أين الحِزبيون والمُناضلون السّابقون والمثقفون في الجزائر؟!  فيجيبه آخر بأنهم سَبقوا أبناءهم إلى أوروبا والعالم قبل أن يَمنع خفر السواحل الأوروبي وشرطة الهجرة الأمريكية الشّباب من دخول بلدانهم،  فقد صار أن شُددت الإجراءات عليهم لاحقاً.

اقرأ أيضاً: هل يحمل العام الجديد انفراجات في الثقافة والإعلام بمصر؟
الشباب الأردني باتَ متوجساً مما تقوله الحُكومات الأردنية المتعاقبة، بيد أنّه صدّق أحلامَه التي تتطلع لتَنمية تَصل المحافظات كما المَركز العاصمة، وبتعليمٍ حديث أسوة بتعليم عمّان المُختلف بطرائق تدريسه وبمحتواه العلمي، وبفُرص عَمل حكومية وغير حكومية  تقدم على السواء دون تمييز أو تهميش، وهنا يَبرز السّؤال في مَن يقود الشباب ويؤثر فيهم فعلياً، وعلى من تقع السؤولية؟ وهنا وببساطة فإن الذّنب يقع على عاتق الحزبيين والمثقفين وليس على الدولة والنّظام وحسب،  فأين هي إذاً  الأحزاب الأردنية لكي تكون الإناء الذي يتكوثَر فيه فكر الشباب فيُسطّروا  فيها أفكارَهم وتطلعاتِهم ويقترِحون الحُلول، فبعد تلاشي أو ضعف الثّالوث الأيديولوجي السّابق الذكر: القومي والإسلامي والشيوعي، وعدم قدرة زعماء هذه الأحزاب وممثليها على النهوض بها لتكون أحزاباً تقدمية،  تمت عملية مشوّهة  لإنشاء أحزاب سريعاً ما تلاشت لاحقاً في السّراب؛ أحزاب وطنية فتحت مكاتبها في الأردن دون أن يَلجها شابٌ أردني واحد، ذلك لأنها أحزاب طوباوبة وصوريّة لم تشكل رأيا عاماً، ولم تتمكّن من قيادة الشباب وصَهرهم في أتُونِها المَعرفيّة والإيديولوجية، فقد كان أمناء هذه الأحزاب يخطئون حين يذهبون في ملتقياتهم وندواتهم  لتعلِيم النّاس الانتماء والولاء،  وكأنّهم  من يملك هذه القيمة والآخرون منها خَلاء، ولعلي أرى أن الأحزاب العدمية تلك ذابت تماماً عن الأثر،  فهي أحزابٌ غير مجدية لأنها سريعاً ما أخفت شِعاراتِها ومكاتبَها فورَ نُمو غَضب الشارع الشبابي، وهذا لا يشير فقط إلى كرتونية الأحزاب تلك،  بل ويشمل الشّارع الغاضب أيضاً الذي لم يُقدم حتى ورقةً سياسية واحدة أو مقترحاً للتعديل والنّهوض.

وُلِد جيل الشباب العربي الحديث بطبائعه ومسلكياته وتعبيراته متخلصاً من حنينه إلى ماضيه وعاداتِه وتقاليده

يرى الدكتور سالم  ساري المختص في دراسات التنمية وعلوم الاجتماع  أن الشّباب اليوم يملك ثقافةً مختلفة اسمها ثقافة تغيير؛  وهي ثقافة تتناسب مع جيل ينتظر أن يغيّر واقعَه المحلي أسوة بغيره، لكنه وحيال ذلك بحاجة لمن يوفر له مناخ حريّة محسوس وديمقراطية فعّالة ومُشاركة سياسية وحُقوق إنسان وكَرامة أيضاً ، إذ هذه المتطلبات على ما يبدو بُنيت على تشخيصٍ جاء في تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (2002) الذي كَشف عن حقائق مُذهلة أكثر فداحةً هي أن  أكثر الشّباب خوفاً وقهراً ويأساً هو الشباب العربي وبِصورة صَارخة.
في عمّان العاصمة تتركز النّسبة الأكبر من الشباب الأردني، ما يعني هجرة الشباب الأردني من حديثي التخرّج  من أطرافِه المختلفة إلى مركز العاصمة بحثاً عن فُرص تتركز في العاصمة دون سواها، فُرص ستنقذهم من براثِن الخَوف واليَأس والقهر، غير أن هذا يُشير إلى أنّ رؤية الشّباب الأردني للعاصمة مازالت كلاسيكيةً؛  فهم مؤمنون بأنّ النّجاح مقصورٌ فيها، وأن الاستثمار فيها  أسهل مِنه في مَعان أو المفرق أو العقبة، كل ذلك يحدث وصُندوق المحافظات وصندوق دعم المشاريع الصغيرة وغيرهما يشددان  الشروط  ويعقدان فُرص إنقاذ الشباب في الأطراف، فماذا يفعل جيل شبابنا الحديث وماذا يملك أن يقول في ظل تموّجات جدلية فصلته عن تشكيلته الاجتماعية وعن شيخ القبيلة الذي كان يَجوب الوزارات والمؤسسات بحثاً عن وظائف لأبناء قبيلته،  وعن حكومات تدعي أنّها توفر فرص العمل لكنها في الحقيقة تمنع حدوثها فعلياً.

تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة: أكثر الشّباب خوفاً وقهراً ويأساً هو الشباب العربي وبِصورة صَارخة

في العودة إلى الشباب الأردني العصري ولفترة بعد أوسلو وتحنّط  فكرة المقاومة وانسِحاب الأحزاب الكلاسيكية  من السّاحات والجامعات أذكر أن استشرت الهويّة الفَرعية في أوساط الشباب الجامعي تحديداً واستحلت مكان الهويّة الوطنية الجامعة، وانتشر إزاء ذلك العُنف الجامعي،  وتَنامى الصّراع القبلي والإقليمي بين زملاء المقاعد والدّرس الجامعي،  ما أساء للهويّة الوطنية، غير أن تمظهراتٍ جديدةً شَملت الشّارع الجامعي مؤخراً استطاعت بثَّ القليل من الأمل في الرّوح الوطنيّة، فقد برزت تالياً  تيّارات وُحدوية مثل تيار النّشامى الذي شكّل هوية جَامِعة لا تقصي أحداً، غير أن هذه الهويّة ظلّت تُواجه بعض الصّعوبات لأسباب منها أطماع بَعضُ  النّواب في قواعِدهم الضّيقة، فدعموا أبناء  دوائرهم في الانتخابات الطلابية التي جرت في الحرم الجامعي، ما زاد من  النّفسِ العشائري والإقليمي على حساب النّفس الوطني، بالإضافة إلى ذلك عملت بعض التّيارات السياسية منها الإسلامية طبعاً على التحالف مع طلاب من مناطق وجهات قبلية دون غيرهم، وهو ما يعني أن سوء الفهم لا يشمل فقط الطلبة غير المؤدلجيين بطبيعتهم بل المؤدلجين أنفسهم وكل أدعيائها العابثين بالفهم الوطني .

اقرأ أيضاً: الثقافة في محنة.. أم كان الجاحظ يدخن البانجو؟! ‎
مطالب الشباب في الأردن والمتمثلة في تأمين سُبل العيش البسيط هي ما بات يقلق الدولة فوجود  300 ألف متعطل عن العمل  تهديدٌ أكبر بكثير مِن تهديد المتطرّفين، فالفقرُ مسبِّبٌ رَئيس لكُل الكوارث. فما هي الحلول التي يمكن أن يستفِيد منها الأردن للنهوض بتنمية شبابية تشمل الوعي والاقتصاد؟  في هذا يقول الناشط محمد الدهيمات  "إن المعضلة في الأردن ليست اقتصادية وحسب بل وسياسية أيضاً" إذ توفير فُرصة عمل لشاب دون أن تكون هذه الفرصة خياره ستجعله حتماً  يرتهن للمعطي ويعتمد عليه في كل ما يطلب، ولدمج  حاجيات  الشباب وإرادتهم السياسية يلزمنا  بناء فضاء مدني سبقنا إليه شبابنا، إذ بعض مؤسسات الدولة غير قادرة على تأمين مناخ حاضن ومتساوق مع ملامح هذا الجيل، فاليوم صارت الفتاة تُسافر إلى الخارج دون مَحرم، وتتزوج بطرق مختلفة تماما عما كان قبل خمسة عقود، واليوم تأخذ الفتاة حصّتها من المِيراث، كل ذلك يحدث ومؤسستنا عاجزة حتى اللّحظة عن سَبر غور شخصية الشّاب الأردنية الحديثة الذي ولد بريئاً من نزق العصبيات و الإيدلوجيات لصالح حياة ينشدها،  لكن محبطات كثيرة تترصد في الطريق و تتمثّل في قِصص فساد محبطة، وبضيق مالي واقتصادي أصاب دخل ذلك الشّاب، فعلى الرغم من من تقلص ثقافة العيب وتلاشيها تقريباً من قاموس الشباب، إلا أننا مازلنا بحاجة إلى قرار وإلى تلمّس حقيقي لحاجيات الشباب  العصرية، ووقف التشويش على فكر شباب الذي لا ذَنب له في كل ما مَضى، ليعبر إلى  مربع المستقبل بأمانٍ واتساعٍ مختلف يدرك التحولات السوسيوثقافية فيه.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية