زعيم "النهضة" يلجأ إلى الصحافة الأجنبية.. كيف نقرأ مقال الغنوشي الأخير؟

زعيم "النهضة" يلجأ إلى الصحافة الأجنبية.. كيف نقرأ مقال الغنوشي الأخير؟


24/02/2021

خطأ جديد يرتكبه راشد الغنوشي، رئيس البرلمان التونسي، في حق شعبه، فقد نشر مقالاً في جريدة أمريكية اتهم فيه الشعب التونسي بعدم الوعي، واستعدى الإدارة الأمريكية على شركائه في الوطن، جاء المقال في ظلّ الأزمة التي تعيشها تونس، والتي تستوجب تكاتف الجميع للوصول إلى حل يحمي تونس وشعبها من الفوضى والاحتراب الداخلي، فإذا بزعيم حركة النهضة الإخوانية يلوذ بقوة أجنبية لتحميه من السقوط وربما لتحمله إلى الرئاسة.  

 فاجأ الغنوشي يوم السبت الماضي الشعب التونسي بنشره مقالاً له، يبدو أنه "مدفوع الأجر"، وذلك في الصحيفة الأمريكية usa today، ناقش فيه الشأن التونسي الداخلي، واستعرض فيه الأزمات الحالية من منظور حزب النهضة، محاولاً إيهام المخاطبين أنه يمثل الشعب، وحاول في المقال تبييض وجه جماعته والتنصل من أي إخفاقات، نافياً أي مسؤولية لحركته في أزمات البلاد المتعاقبة، وكعادة الإخوان المسلمين ألقى باللوم على منافسيه الحزبيين، ولم يكتفِ بهذا، بل طلب بشكل واضح وصريح دعم الإدارة الأمريكية له ولمشروعه في الحكم، واصفاً معارضيه السياسيين بأنهم حركات رجعية تحنّ إلى زمن الديكتاتورية. 

جاء مقال الغنوشي في ظلّ الأزمة التي تعيشها تونس وتستوجب تكاتف الجميع

ولا يجب النظر إلى المقال من واقع الخصوصية السياسية التونسية، فالغنوشي وإن كان رئيس البرلمان التونسي إلا أنّ موقعه في التنظيم الدولي الإخواني، المصنف إرهابياً في بعض الدول العربية والأجنبية، يفرض عليه أدواراً أخرى، فهو آخر طموحات "الإسلام السياسي" في محيطنا العربي للبقاء في السلطة، فبعد الفشل الذي منيت به جماعة الإخوان في أكثر من قطر عربي، بات مشروع إعادة رسم الشرق الأوسط، الذي يعتمد على الإخوان كفاعل أساسي في المنطقة على المحك ومعرّضاً للفشل، أو في أحسن التقديرات سيحتاج لتغيير بعض اللاعبين.

 الغنوشي هنا يعمل رأس حربة لتنظيم الإخوان المسلمين، الذي يسعى لتثبيت دعائم آخر حصونه في الحكم بتونس، فبعد فشلهم في مصر، وتعثرهم في ليبيا، ومغادرتهم المشهد في السودان، وضعف فاعليتهم في اليمن، لم يعد للتنظيم سوى تونس، يدرك الغنوشي أنّ فشله يعني فشل المشروع برمّته، وهو ما تخشاه حركة الإخوانية العالمية (التنظيم الدولي). 

اقرأ أيضاً: أيّ رسائل يوجهها الغنوشي للرأي العام الدولي بالإساءة إلى بلده؟

ففي محاولته للتشبث بالسلطة، لم يلذ الغنوشي بالشعب التونسي ولا بالفكرة الإسلاموية لتكون ظهيراً له، بل اختار الجمهور الأمريكي وصنّاع القرار بالولايات المتحدة الأمريكية ليكونوا عوناً له للبقاء في السلطة، فقد استشعر الغنوشي أنّ فترة الجفاء التي طبعت علاقات مراكز القرار في الولايات المتحدة الأمريكية بالأحزاب الإسلامية، في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط تحديداً، شارفت على النهاية مع صعود جو بايدن، فأراد مغازلتهم بتقديم نفسه سياسياً ديمقراطياً يخشى على مكاسب الثورة التونسية، يقول في مقاله: "إننا بحاجة إلى دعم من شركائنا الدوليين الذين يؤمنون بالديمقراطية، يجب ألّا تؤدي صعوبات تحولنا الديمقراطي إلى فقدان الثقة في ديمقراطية تونس." ولم ينسَ الغنوشي أنه ينتمي إلى جماعة تهدد بالفوضى إن لم تحصل على الحكم، فيقول مستكملاً: " إنّ البديل عن الديمقراطية في منطقتنا ليس الاستقرار في ظل الدكتاتورية بل الفوضى والقمع المكثف"، وكأنه يعيد مقولة إمّا نحن وإمّا الفوضى.

اختار الغنوشي بذكاء صحيفة usa today لينشر فيها مقاله، فهي تُعدّ من أكثر الصحف الأمريكية انتشاراً، رغم حداثة تأسيسها نسبياً (ثمانينيات القرن الـ20)، ومضامينها تعتمد على المادة الخبرية بدرجة أولى، مع التعويل أساساً على الإعلانات التجارية، ويعود ذلك إلى اعتمادها على شبكة توزيع مبتكرة موزعة على الفنادق وشركات الوجبات السريعة، وهو ما جعلها إحدى أكثر الصحف انتشاراً، وتهتم الصحيفة بكافة الآراء التي تهمّ الداخل الأمريكي، ما يعني قربها من مراكز القرار ومؤسسات الضغط واللوبيات المالية التي تتحكّم في العملية السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية. 

اختار الغنوشي بذكاء صحيفة usa today لينشر فيها مقاله فهي من أكثر الصحف الأمريكية انتشاراً

من الواضح أنّ الأمر أكبر من مجرّد مقال، فلا يمكن اعتبار مقال الغنوشي مقال رأي مستقل ولا تصرفاً فردياً واجتهاداً شخصياً، فما جاء فيه يمثل رؤية الغنوشي وحزبه لمكوّنات الحياة السياسية في تونس، سواء الشعب أو الحكومة أو الأحزاب المنافسة أو مؤسسات المجتمع، هذه المكونات زجّ بها في مقاله متهماً إيّاهم بالنزوع للديكتاتورية، خطوة في طريق سعيه لإعادة تركيب الواقع السياسي وفق مرئيات النهضة، ليقدّم حركته وتياره فاعلاً ديمقراطياً وحيداً في المنطقة، طارحاً نفسه سياسياً بديلاً أو مناسباً لخطط بايدن، الذي لا يخفي رغبته في الاستمرار على نهج باراك أوباما.

بدأ الغنوشي تحطيم منافسيه بالغمز واللمز؛ إذ أوحى إلى القرّاء أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد سوف يعيد تونس إلى حكم "الرجل الواحد"، وضرب "التعددية والنظام الديمقراطي"، ثم هاجم أحزاباً سياسية اكتسبت أحقية حضورها في المشهد بالصندوق أيضاً، كالحزب الدستوري الحرّ الذي وسمه بالرجعية، ثم وصف رفض الشارع التونسي له باعتبارهم (حالة شعبوية) اتخذت طريق مهاجمة المؤسسات الديمقراطية والمسؤولين السياسيين والأحزاب السياسية، ولم يكتفِ بهذا، بل اتهم التيار الشعبي الرافض لسياسات حزبه بأنهم يتعمدون "تعطيل" مؤسسات الحكم، ويتهمهم كذلك بنشر ثقافة (العودة إلى حكم الرجل القوي الأكثر فعالية) أو تنصيب الديكتاتور العادل كحلٍّ لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي فشل حزبه في مواجهتها.

لا يمكن اعتبار مقال الغنوشي مقال رأي مستقل ولا تصرفاً فردياً واجتهاداً شخصياً

في هذا المقال الترويجي يتنصل زعيم حركة النهضة من مسؤوليته السياسية والأخلاقية  بتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلد والانفلات الأمني، التي كشفت عن وجه الإرهاب القبيح وما تلاه من اغتيالات سياسية، ويقدّم نفسه حامياً للديمقراطية بقوله: "ما تزال الديمقراطية التونسية في طور التكوين"، متناسياً محاولاته للسيطرة على حقائب وزارية بعينها كالداخلية والعدل، وسعيه المحموم إلى التطبيع مع رموز الفساد مقابل البقاء في السلطة، وإصراره على إرباك المشهد السياسي، ورفضه كلّ دعوات الحوار، وآخرها مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، وأنه تسبب في أزمة سياسية عاصفة بتونس، بمساندته التعديل الوزاري في حكومة هشام المشيشي، الذي رفضه الرئيس قيس سعيد، لكونه مخالفاً للدستور، فمن يحمي الديمقراطية الوليدة؟ ومن يقتلها بممارساته وممارسة أعضاء حركته؟ 

العجيب أنّ الغنوشي يسرق إنجازات الآخرين ليوهم القرّاء وصناع القرار بأنه ديمقراطي، فهو يزعم في مقاله أنها من إنجازاته، "لقد أنشأنا مؤسسات ديمقراطية جديدة، وقمنا بحل النزاعات سلمياً، ووضعنا ثقافة الإدماج السياسي، وأدخلنا حماية حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وسيادة القانون، ووضعنا معايير جديدة لمساءلة الدولة وشفافيتها". كلّ هذه الإنجازات لم يكن حزب النهضة شريكاً فيها، بل كان معوّقاً لها، وعلى وجه الخصوص بشأن المساواة بين الجنسين، فقد كان موقف حركته رجعياً ورافضاً لها، فهل الآن أصبحت من إنجازاته؟

الإخوان يعلنون عداءهم لأمريكا ويحجّون إلى البيت الأبيض والكونغرس أسبوعياً لتقديم فروض الطاعة والولاء

أخيراً، قد يتعجب البعض ويستنكر استجداء الغنوشي "للعون الأمريكي" في مسألة داخلية بحتة، لكنّ العجب يزول إذا فهمنا طبيعة عناصر جماعة الإخوان المسلمين، فالازدواجية سمتهم، والتناقض ديدنهم، فهم يعلنون أنهم وطنيون لكن لا مانع لديهم من التعاون مع أعداء الوطن، وهم يزعمون أنهم ديمقراطيون، ويسمحون لأنفسهم بتكميم الأفواه ومنع حرّية الرأي والتعبير، وهم يعلنون عداءهم لأمريكا، وفي الوقت نفسه يحجّون إلى البيت الأبيض والكونغرس أسبوعياً لتقديم فروض الطاعة والولاء، زاعمين أنّ ما يقومون به هو الوطنية عينها، والصواب عينه، والإخلاص لدين الله عينه.  


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية