سجال منسي حول علمنة مصر: حقائق محمود عزمي وأوهام طه حسين

سجال منسي حول علمنة مصر: حقائق محمود عزمي وأوهام طه حسين


04/12/2019

في تموز (يوليو) 1926 أجابت الجمعية الأطباء عن فتوى طلبتها جمعيّة الرابطة الشرقيّة بخصوص سؤال ما هو اللباس المناسب للرأس من الناحية الصحيّة، مؤكدةً على أنّ الطربوش ليس لباساً صحيّاً، وفي اليوم التالي لصدور القرار زار الكاتب محمود عزمي (1889- 1954) مجلة المصور لابساً القبعة بديلاً عن الطربوش.

اقرأ أيضاً: كيف ترك لنا طه حسين عينَيه لنرى بهما اليوم؟
وقال عزمي للمحررين شارحاً التغيير المفاجئ الذي لاحظوه: "أما وقد أصدرت هيئة الأطباء قرارها في الطربوش صراحة وفي القبعة تلميحاً فقد أصبح من المحتم لبس القبعة التي تتوافر فيها الشروط التي استلزمها الأطباء للباس الرأس الصحيّ، على أنّه يمكن الاحتفاظ بالطربوش لارتدائه في الحفلات والسهرات ولبسه للفنانين في أعمالهم، ويكفي أنّ قماشه يخلو من المسام وثقله يدفئ الرأس أكثر من اللازم ويسبب عرقاً كثيراً خاصة في الصيف فيؤذي العينين".

 

 

ولم يكتفِ باقتناعه بالقبعة على حساب الطربوش التركيّ بل خاض معارك من خلال مجلتي "الكشكول" و"المصور" لتحريض النخبة على خلع الطربوش الذي اُعتبر زيّاً وطنيّاً. وهو موقف يكشف عن استقلاله الفكريّ وتمسّكه بالتفكير العلميّ واستخفافه بالإجماع الوطني الذي ليس بالضرورة على حق، وسيكون لذلك الاستقلال تبعات فائقة الأهمية لحظة تأسيس مصر الحديثة بالشكل الذي عليه الآن.
إدراك اللحظة الفارقة
حين أرادت النخبة الوطنيّة المصريّة وضع دستور للبلاد بعد الحصول على استقلالها الجزئي من بريطانيا عام 1922، تمثل التحدي الأكبر في إعادة صياغة النسيج الوطنيّ بين المسلمين والأقباط الممزّق ثقافيّاً، بحكم تشبع المخيال الشعبي لكلا الطرفين بالتصورات الاستشراقية عنه والتوصيفات الغربية له؛ فمثلما اختلق الخطاب الاستشراقي نقاءً عرقيّاً ثابتاً للأقباط لم يدنسه المسلمون بالمشاركة، أطّر التوصيفُ الغربي الإسلامَ في دائرة التخلف والبربرية، وهو ما استدعى رداً إسلاميّاً بتمجيد الذات وتاريخها وتحديد هويتها بالتناقض مع الغرب "المسيحيّ" كما تشير صبا محمود في كتابها "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ".

 

 

استمر طه حسين في حجاجه ضد محمود عزمي مدججاً بأوهام القرن العشرين بأنّ الدين في طريقه إلى الزوال

وعلى هذه الأرضية المُلغّمة ثقافيّاً تشيّد البناء الدستوريّ والسياسيّ لمصر الحديثة، لذا كان التحدي الأكثر صعوبة يكمن في كيفية التخلص من التفاوتات التاريخية وجعل المواطنة أساس العلاقات المسيحيّة/ الإسلاميّة، في وقت مال فيه ممثلو الأكثرية المسلمة في لجنة إعداد الدستور عام 1923 لتكريس التراتبية الدينية وتحصين الامتيازات الإسلاميّة الراسخة والنص عليها دستوريّاً.
محمود عزمي المعروف بالتزامه التام بالعلمانية مفْصَلَ نقداً لاذعاً لفشل اللجنة الدستورية في معالجة التفاوتات الدينية، وأدرك على خلاف كل معاصريه، بما فيهم عقل لامع كطه حسين، أنّ التفاوتات الدينيّة ليست في طريقها إلى زوالٍ كما توقع معدّو الدستور الذين رأوا أن يثبّتوا مواد تنص على التمييز الديني على اعتبار أنّ المجتمع المصري لم يكن متطوراً بما يكفي آنذاك، حتى يقبل بعلمانية صريحة هو في نظرهم في طريقه إليها حتماً، وبالتالي سيجبر التطور الاجتماعي المشرعين على تغيير الدستور.

اقرأ أيضاً: عندما ثار طه حسين على السلطة وسياسة التعليم التلقيني
أدرك عزمي أنّ المادة التي تنص على أنّ "الإسلام دين الدولة" وتكرِّس التراتب الدينيّ ستجعل الدولة تعمل لصالح الأكثرية المسلمة على حساب الأقلية المسيحيّة، بالإضافة إلى أنّ تثبيت مكانة رسميّة للإسلام في بنية الدولة سيحول الطوائف الدينيّة إلى طوائف سياسيّة، وهو ما حدث لاحقاً حين تحول المواطنون المسيحيون إلى ما يعرف بـ"الشعب القبطي".
إجماع الحالمين
كانت الحماسة الوطنية على أشدها بعد ثورة 1919 التي كان شعارها "الدين لله والوطن للجميع" وعلى ضوء تلك الوطنيّة المندلعة رفضاً للتدخل الاستعماريّ بين المسلمين والمسيحيين رفض مؤسسو البناء الدستوريّ الحديث النص على أي نوع من التمثيل السياسيّ أو الإداريّ للأقباط، وكان عزمي المزوّد بذهنٍ نشط يحفر خلف الإجماع السياسيّ ليكشف عن معضلةٍ تتشكل ببطء ستفرض نفسها لاحقاً على مجمل المعجم السياسيّ المصريّ وهي أزمة الانقسام الدينيّ.
وحيداً وقف ضد المخيلة الوردية للآباء المؤسسين لمصر الحديثة المكونة من آمال المساواة ووعد المواطنة، وأعلن أنّ تمثيل الأقليّات من شأنه أن يقاوم العواقب المترتبة على ما كان نظاماً غير عادل بالفعل، واخترق جدار الإجماع القائم بتأكيده على أنّ مصر ممزقة دينيّاً في الواقع، ومن شأن تجاهل اعتماد وسائل قانونية تعالج الانقسام الديني أن يقضي على علمانية مصر في مهدها.

اقرأ أيضاً: طه حسين إذ يدعو لتذوق القرآن الكريم أدبياً
وحاجج عزمي بأنّ ارتكاز قوانين الأحوال الشخصية إلى الدين أكبر دليل على فشل المشروع الوطني؛ فالدولة ستديم من خلاله التفاوت بين المسلمين والمسيحيين واليهود، مع وضع المسلمين في مكانة أعلى تسمح لقوانينهم أن تكون مرجعاً وحكماً على قوانين الطوائف الأخرى.
وفي استشعار لافت، آنذاك، لمخاطر التقسيم الديني الذي ترعاه الدولة ويحرص عليه الأزهر والكنيسة معاً، طالب عزمي بإلغاء قوانين الأسرة المرتكزة إلى الدين تماماً، وتأسيس قوانين علمانية تطبق بشكل موحد بصرف النظر عن الانتماء الديني للمرء.
رأى طه حسين أنّ "الإسلام دين الدولة" يحمل قيمة رمزية في الواقع

حملة طه حسين
واجه عزمي حملة بالغة الشراسة على أطروحاته الجريئة في ذلك الوقت اتهمته بتبني تصور سكونيّ للمجتمع المصري الذي في طريقه لينبذ الانقسام الدينيّ ليتوحد كمجتمع عضويّ متلاحم بحكم سيرورة التاريخ القاضية بزوال دور الدين في المجتمع وانتصار الحداثة!

حداداً على وفاة محمود عزمي قررت الأمم المتحدة تنكيس أعلامها لمدة أسبوع، وأوقفت جميع لجان المنظمة أعمالها

وتُوجت الحملة بهجوم عاصف من طه حسين على دعوة عزمي بتمثيل الأقليّات سياسيّاً كحل براغماتيّ لهيمنة الإسلام على الدولة، وسخّف حسين من تحذيرات عزمي بشأن التداعيات المستقبليّة ذات الطابع الكارثيّ المترتبة على وضع مادة في الدستور تنص على أنّ "الإسلام دين الدولة" وهو ما ستعاني منه البيئة السياسيّة في مصر حتى اللحظة.
واثقاً من يقينه بأنّ المكونات التي وحدت المصريين جميعاً هي اللغة والثقافة والتاريخ، بأكثر مما فعل الدين، اعتبر طه حسين أنّ "الإسلام دين الدولة" ليست شيئاً سوى "نص أفلاطونيّ لا قيمة له في الواقع" بل يحمل قيمة "رمزيّة وسطحيّة". فيما استغل عزمي هذه المقولة المسرفة في التفاؤل، وردّ على طه حسين متسائلاً لماذا لا ينص الدستور على تمثيل الأقليّات سياسيّاً واعتبار ذلك مسألة رمزيّة و"أفلاطونيّة" ستزول مع الزمن؟!
استمر طه حسين في حجاجه ضد محمود عزمي، مدججاً بأوهام القرن العشرين بأنّ الدين في طريقه إلى الزوال، وبأنّ قوانين الأسرة من الوارد وبالإمكان أن تندرج، مع مرور الزمن، تحت قانون علمانيّ مشترك؛ فالدين برأيه سيقتصر دوره بصدد الأحوال الشخصيّة، في قادم الأيام، على الصلات الزوجيّة بصورة "طقسيّة" كما هو الحال مع المسيحيّة في أوروبا. وهو ما كان يعتبره عزمي "ميتافيزيقا علمانيّة لا أساس لها".  

 

نهاية مجيدة
اختارت وزارة الخارجيّة المصرية محمود عزمي ليمثل مصر في لجنة حرية تداول الأنباء الفرعيّة التابعة للمجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ بالأمم المتحدة عام 1949، وقدم في حزيران (يونيو) من العام نفسه مشروعاً لتنظيم حرية تداول الأنباء يقضي بحماية المراسلين الأجانب.
واُنتخب بسبب مواقفه المدافعة عن حرية الصحافة رئيساً للجنة حرية الأنباء عام 1952، كما يقول هاني نسيرة في كتابه محمود عزمي: رائد حقوق الإنسان في مصر، وأقرت اللجنة فور ترأس عزمي لها عهد الشرف الدولي للصحفيين، ورفعته إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي ليتم إقراره في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1952، ووافقت عليه الجمعية العامة.

اقرأ أيضاً: كيف توصل طه حسين إلى أنّ الشعر الجاهلي منحول؟
كما انتخب محمود عزمي رئيساً للجنة حقوق الإنسان في آذار (مارس) سنة 1953 وأُعيد انتخابه كذلك في آذار (مارس) سنة 1954، وفي أيار (مايو) سنة 1954 صدر مرسوم بتعيينه رئيساً لوفد مصر الدائم في الأمم المتحدة، وودع الحياة في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذات العام وهو يرد على كلمة مندوب إسرائيل في مجلس الأمن حول احتجاج تل أبيب على احتجاز مصر السفينة "بات جاليم" بعد أن اعتدت على نقطة حراسة مصرية في ساحل البحر الأحمر.
ومن فوق منبر مجلس الأمن وقف عزمي يرد على مزاعم مندوب إسرائيل قائلاً: إنَّ مصر على حق وإنّها كانت ولا تزال تؤْثِر روح التسامح، وعلى استعداد دائم لتحقيق العدالة" وحين احتدم النقاش بينه وبين المندوب الإسرائيليّ أصيب بأزمة قلبية أودت بحياته.
وحداداً على وفاته قررت الأمم المتحدة تنكيس أعلامها لمدة أسبوع، وأوقفت جميع لجان المنظمة أعمالها لدقيقة واحدة، وألغت الوفود العربية جميع حفلاتها لمدة أسبوعين، وخصّصت الجمعيّة العموميّة جلسة رثاء لأول حقوقي عربيّ استمعت فيها إلى كلمات 33 مندوباً أشادوا فيها بجهوده.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية