سجال يتجدّد في كل "رمضان": هل التدخين مبطل للصيام؟

سجال يتجدّد في كل "رمضان": هل التدخين مبطل للصيام؟

سجال يتجدّد في كل "رمضان": هل التدخين مبطل للصيام؟


16/03/2024

يعدّ شهر رمضان موسماً لإصدار الفتاوى الدينية، فما تزال الغالبية العظمى من المسلمين تحرص على أن يكون صيامها صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى، ما يحفّز الأسئلة التفصيلية لديهم، ويدعو في المقابل الشيوخ الرسميين وغيرهم، للتصدّي للردّ على تلك الأسئلة، عبر سيل من الفتاوى التي تنزع في كثير منها إلى الاحتياط والحذر.

وتتردّد آراء جدلية على لسان عدد من المفكرين الناقدين للعقل الإسلامي التقليدي، منهم: جمال البنا، وأحمد صبحي منصور، وغيرهما، تنكر الفتوى التي تحرم التدخين في نهار رمضان، مما أثار جدلاً حادّاً خاضت فيه المؤسسات الدينية، والتيارات الإسلامية، وشنت هجوماً على الرجلين، باعتبار أنّ التدخين يعدّ أحدَ مبطلات الصيام.

الإمام ابن عابدين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، أباح التدخين في رمضان

ليس طعاماً ولا شراباً

جمال البنا يرى أنّ مبطلات الصيام محدّدة بدقة في دخول جرم إلى المعدة، وأنّ هذا المحدد لا ينطبق على الدخان، الذي ليس طعاماً ولا شراباً؛ بل مجرّد دخان يدخل إلى الرئة.
لم يكتفِ البنا بذلك؛ بل استند إلى رأي الإمام ابن عابدين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، الذي أباح التدخين في رمضان، مشبّهاً له بالبخور الذي يصل تأثيره للجهاز العصبي، وهو يشبه تدخين السجائر.

الشيخ نوح القضاة: التدخين مفطر للصيام وأنّ الذي يدخّن في رمضان يلزمه القضاء والعقوبة وعليه كفارة

استند البنا إلى مجموعة من الأدلة، منها: أنّ التدخين لا تجري به الفائدة الغذائية للجسد، فلا نفع للصائم من شربه، وهو لا يتعارض مع قصد الصيام فليس مفطراً، فإن كان التدخين مفطراً، فكأنه يوجب على من اشتم عوادم السيارات أو البخار الناتج عن المطاعم، وعوادم المصانع، الإفطار والقضاء في رمضان، لاعتبار صيامه باطلاً، بما اشتم من روائح.
التدخين ليس له جرم يدخل من خلاله إلى جوف الصائم، بالتالي إفساد صيامه، كما يرى الفقهاء، وإن كان له جرم، فإنّ الجرم الوهمي لا يصل إلى باطن الجوف، وإنما يصل إلى الرئتين، اللتين هما مكان للهواء، لا للغذاء، كما يقول الأطباء، كما أنّه لا يوجد نصّ صحيح في القرآن الكريم، أو السنّة النبوية، يدلّ على أنّ التدخين مما يفسد الصيام، ويؤدي إلى إفطار الصائم، وبالتالي لزوم القضاء عليه.

اقرأ أيضاً: فتاوى آثمة وضالة ومتكررة
ويعتقد البنا أنّ هذا الرأي به تيسير على الأمة المسلمة؛ لأنّ من الناس من يترك الصيام من أجل التدخين، وقد أبيح له التدخين في نهار رمضان، من باب ارتكاب أخفّ الضررين، لدفع أعلاهما؛ وهو الإفطار.
المؤسسة الدينية ترفض
ولم يكن البنا أوّل من أصدر مثل هذه الفتوى؛ بل سبقه إليها المرجع الشيعي، آية الله السيستاني، الذي أفتى بجواز أن يدخن مدمن السجائر الصائم، 3 أو 4 سجائر في اليوم، وإثر ذلك سارعت دار الإفتاء المصرية، إلى إصدار فتوى تجدّد التأكيد على تحريم التدخين، الذي يستهلك الصحة، ويؤدي إلى الوفاة، ثم أفتت بأنّ التدخين يبطل الصيام، ويوجب القضاء.

جمال البنا: إن كان التدخين مفطراً فيجب الإفطار على من اشتم عوادم السيارات أو بخار المطاعم وعوادم المصانع

وأوضحت الإفتاء المصرية؛ أنّ الدخان الناتج عن حرق التبغ يتكاثف داخل الأنف وينزل إلى الصدر، فيكون جرماً دخل جوفاً، فيحصل به الفطر.
وعندما سُئل الفقيه السعودي ابن عثيمين عن أنّ الدخان لا يعدّ أكلاً ولا شرباً، فلماذا يبطل الصيام، أجاب: أرى أنه قول لا أصل له؛ بل هو شرب، وهم يقولون إنّه يشرب الدخان، ويسمّونه شرباً، ثم إنّه، بلا شكّ، يصل إلى المعدة والجوف، فهو مفطر، سواء كان نافعاً أم ضاراً، حتى لو ابتلع الإنسان خرزة السبحة مثلاً، أو شيئاً من الحديد أو غيره، فإنه يفطر، فلا يشترط في المفطر أو في الأكل والشرب أن يكون مغذياً، أو أن يكون نافعاً، فكلّ ما وصل إلى الجوف يعدّ أكلاً وشرباً، وهم يعتقدون، بل هم يعرفون، أنّ هذا شرب، وإن كان أحد قال بهذا فهو مكابر.
الشيخ نوح القضاة، مفتي المملكة الأردنية الهاشمية سابقاً، أفتى بأنّ التدخين مفطر للصيام، وأنّ الذي يدخّن في رمضان يلزمه القضاء والعقوبة، وعليه كفارة؛ لأنّ في شربه شهوة ظاهرة ولذّة يصل إليها المدخن، فتغنيه عنه فترة من الوقت، فالتدخين جرم مرئي يدخله الصائم إلى جوفه عمداً، بقصد شربه، حتى إن كانت ذراته صغيرة جداً، وهو يحتوي بالفعل بعض المواد التي تعدّ مما يؤدي إلى إفطار الصائم إن دخل إلى جوفه، فالسيجارة الواحدة فيها 3 ملجم من النيكوتين، و36 ملجم من القطران، أو القار، و20 ملجم من أول أكسيد الكربون.
 آية الله السيستاني، الذي أفتى بجواز أن يدخن مدمن السجائر الصائم، 3 أو 4 سجائر في اليوم

تحريم غير المحرَّم
وكما فعل البنا، ذهب المفكّر أحمد صبحي منصور، إلى أنّ الدخان ليس من الطعام والشراب، فمجرى الطعام والشراب هو الجهاز الهضمي (الفم، البلعوم، المريء، المعدة، الأمعاء الدقيقة، فالغليظة، فالشرج)، أمّا التدخين فمجاله الجهاز التنفسي، من القصبة الهوائية إلى الرئتين، شهيقاً وزفيراً، وبالتالي فالتدخين لا يفطر الصائم، في رمضان أو غير رمضان.

اقرأ أيضاً: من يحمي ضحايا فوضى الفتاوى في المغرب؟
والتدخين، في نظره، ليس محرَّماً؛ لأنّ التحريم لا يكون إلا بنصّ قرآني صريح، ومثلاً؛ المحرمات في الطعام محددة، وغيرها موصوف بالطيبات، ويحرم تحريم شيء من تلك الطيبات، نفهم هذا من قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}
صراع سلفي صوفي
تاريخياً؛ يتحدث منصور عن أصل التدخين، فيقول: إنّه عرف في العصر العباسي بالتبغ؛ لأنّ التدخين عرفه الأوروبيون من الهنود الحمر بعد الكشوفات الجغرافية، ونقله الأوربيون ثم انتشر في العالم، وعرفه المسلمون في نهاية العصر العثماني.

اقرأ أيضاً: آخر فتاوى الداعية الجزائري المثير للجدل شميسو
وفي العصر المملوكي؛ اكتشف المسلمون القهوة والحشيش، واشتهر الصوفية بإدمان الحشيش، وسمّوه (الحشيشة)، وأطلقوا عليها؛ (لقيمة الفكر والذكر)، وراجت بينهم القهوة، وفي الوقت نفسه؛ اتخذ الفقهاء موقف العداء من القهوة والحشيش، فأفتوا بتجريمهما في إطار الصراع بين السنّة والتصوّف، مما دفع الشيخ الصوفي، علم الدين ابن الصاحب، لأنّ يقول في قصيدته المشهورة:
"في خمار الحشيش معنى مرام .. يا أهيل العقول والأفهام
حرّموها من غير عقل ولا نقل.. وحرام تحريم غير الحرام".
يقول منصور: والحال نفسه تقريباً حدث مع الدخان في نهاية العصر العثماني، فقد أفتى بتحريمه الفقهاء، ودافع عنه بعض محققي الصوفية، كاشفاً أشهر مَن دافع عن الدخان؛ وهو العلامة الصوفي الشيخ عبدالغني النابلسي، في كتابه "الصلح بين الإخوان في إباحة الدخان".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية