سد النهضة الإثيوبي: الأسئلة الأكثر تداولًا

سد النهضة الإثيوبي: الأسئلة الأكثر تداولًا


04/05/2021

محمد عبدالكريم

تكتسب أزمة “سد النهضة الإثيوبي” اهتمامًا متزايدًا يتوقع تصاعده في الفترة المقبلة مع تراجع الخيارات التفاوضية وارتفاع وتيرة التوتر في علاقات القاهرة وأديس أبابا والانسحاب الإقليمي والدولي من الملف، على الأقل مرحليًا. ويبدو أن مساري المقاربتين المصرية والإثيوبية سيصلان إلى نقطة تصادم مفتوح منتصف العام الجاري إن لم تتوصل الدول الثلاثة (إثيوبيا والسودان ومصر) لاتفاق حول إدارة وتشغيل سد النهضة قبل إقدام إثيوبيا على الملء الثاني “في جميع الأحوال”.

ويوضح تناول الأسئلة الأكثر تداولاً بخصوص سد النهضة مدى تعقيد المسألة وتشابكاتها مع مسائل واعتبارات ومصالح إقليمية ودولية تلقي ظلالًا على توفر إرادة دولية وأفريقية لتلبية مخاوف مصر الحقيقية من تداعيات سد النهضة؛ مما يعزز سيناريو محاولة قسر دمج مصر في ترتيب نظام إقليمي جديد يعتمد “إعادة” تقسيم العمل بين دوله ويتجاوز مصالح مصر الاستراتيجية اقتصاديًا وسياسيًا لصالح إفادة أطراف إقليمية “وظيفية” بشكل تقليدي.

ما هو سد النهضة؟

صمم سد النهضة لاحتجاز تدفق الرواسب المائية لمدة لا تقل عن مائة عام، ويبلغ حجم بحيرة التخزين 74 بليون متر مكعب (ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم بحيرة تانا)، وتوليد طاقة كهرومائية تصل إلى 6450 ميجاوات. وعند الإعلان عن بدء تشييد السد ذكر أن موعد تشغيله في العام 2018. ومن الناحية الفنية فإن الافتقار لبيانات الرواسب وتدهور التربة بشكل متسارع سيؤدي إلى تراكم الرواسب أكثر من المتوقع. كما أن خفض تدفقات الرواسب عبر إدارة حد تصريف المياه يعتبر متطلب رئيس لتحقيق استدامة طويلة المدى للسد.

ويقع السد في إقليم بني شنقول- قمز،  ذو الروابط التاريخية المستديمة مع السودان إثنيًا وثقافيًا واجتماعيًا، ولا يبعد عن الحدود مع السودان سوى مسافة 30 كم فقط. وتملكه وتشغله شركة الطاقة الكهربائية الإثيوبية Ethiopian Electric Power company. ويبلغ ارتفاع السد 145 متر سيسمح بغمر 1872 كم مربع عند مستوى التصاعد الطبيعي للمنسوب  لارتفاع 640م فوق مستوى سطح البحر.

ويتوقع أن يكون للسد حوض تصريف ثانوي على مساحة 172 ألف كم متر مربع (أي أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة إقليم بني شنقول- قمز الكلية نحو 51 كم مربع على سبيل المقارنة). وبسعة تخزين تصل إلى 74 كم مكعب (من بينها 14.8 كم مكعب من التخزين طويل الأجل dead storage، بنسبة 20% من إجمالي المياه المخزنة) فإن الخزان يمكن أن يحتفظ بما يعادل 1.6 عام من متوسط تدفقات النيل الأزرق المقدرة 48.5 كم مكعب سنويًا عند محطة الديم El Diem الواقعة بعد خط الحدود السودانية مباشرة([1]).

متى تم البدء في بناء سد النهضة، وإلى أي مدى وصلت الانشاءات حالياً؟

أعلنت إثيوبيا في العام 2010 عن خططها لبناء السد على النيل الأزرق لتوفير 5000 ميجاوات من الطاقة الكهرومائية سنويًا وقتها. ثم بدأت إثيوبيا في تشييد سد النهضة المقدر تكلفته 4.8 بليون دولار في أبريل من العام 2011، وتوقيع عقد مع مجموعة ساليني إمبريجليو Salini Impreglio الإيطالية تلاه وضع رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي حجر الأساس للسد كجزء مما قالت الحكومة أنه مشروع تنموي هام سيوفر الكهرباء لعشرات الملايين من الإثيوبيين “الذين يعتمدون حاليًا على خشب الوقود كمصدر رئيس للطاقة”([2])

وكان من المتوقع اكتمال بناء السد في العام 2018، وهو نفس العام الذي شهد وصول رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد لقيادة البلاد. وظلت نسبة الانشاءات متدنية بشكل ملحوظ حتى وصول الأخير للسلطة وعمله على تعبئة مواقف شعبية خلف قيادته تعويضًا لفشل تنموي واضح على خلفية التوتر الإثني الذي عاد ليضرب البلاد في مناطق مختلفة (وصولًا لحرب شاملة في إقليم التيجراي نهاية العام الماضي واحتمالات تكرر هذه التجربة في إقليم أوروميا حاليًا)، ومواجهة إثيوبيا مشكلات هيكلية حقيقية متنوعة ومرشحة للتصاعد تتم التغطية عليها بتبني خطاب شعبوي موجه ضد دولة مهمة أفريقيًا وإقليميًا بحجم مصر.

ووصلت نسبة الانشاءات في السد في مطلع العام 2019 إلى 60-65%، ثم ارتفعت في فبراير 2021 إلى نسبة 78.3% ويتوقع أن تصل نسبة اكتمال الأعمال الإنشائية إلى 82% بحلول موسم الأمطار المقبل (منتصف العام 2021)([3]).

هل مشكلة مصر مع سد النهضة كبناء أم مع نهج إثيوبيا في تخزين المياه؟

يلاحظ خبراء مصريون (منذ فترة في حقيقة الأمر وعزز رؤيتهم تلك بيان مهم للخارجية السودانية صادر 30 أبريل 2021)([4]) أن إثيوبيا تحاول عن عمد الخلط بين التفاوض حول إدارة وتشغيل مشروع سد النهضة، وحصص مصر التاريخية من مياه النيل (وهي مسألة بالغة الحساسية لاسيما أن نصيب الفرد من المياه في مصر يبلغ نصف حد الفقر المائي العالمي تقريبًا).

الأمر الذي يكشف حقيقة النوايا الإثيوبية إزاء مصر بتقليص حصتها مستقبلًا ورهنها بترتيبات مستجدة لفت الناطق باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي إلى أحد عناصرها: وهي تسليع المياه (مطلع أبريل 2021)، قبل أن تتراجع الخارجية الإثيوبية عن تصريحها، في نهج “استباقي” صار معروفًا عن “الدبلوماسية الإثيوبية” في تعاملها مع مصر. ومن ثم فإن مصر لا تجد- كما عبر الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة منذ العام 2016- ضررًا في تشييد إثيوبيا سدها بغرض توليد الطاقة والتنمية طالما أن ذلك لا يسبب ضررًا جسيمًا لدولتي المصب، حسب الأعراف الدولية المتعلقة بتنظيم التعاون في الأنهار الدولية.

وتسعى إثيوبيا بكل وضوح إلى إرساء سياسات “الأمر الواقع”، ورهن الاقتصاد المصري بأكمله بتدابيرها المتعلقة بإدارة سد النهضة وتخزين المياه في بحيرة السد لأغراض تنموية قابلة للتمدد والتوسع الكبير مستقبلًا، واستهلاك كميات غير محددة من المياه في المشروعات الزراعية والغذائية على المدى القصير، وخدمة توسع المناطق الصناعية، دون أي التزام قانوني بتمرير حصة مصر المائية، عوضًا عن تجاهل المخاوف المصرية في حالة موجات الجفاف.

ما هي المقترحات المصرية بشأن تشغيل سد النهضة ومراحل الملء؟ ولماذا تعارضها إثيوبيا؟

تلتزم القاهرة في مقاربتها لأزمة سد النهضة بإعلان المبادئ الموقع في الخرطوم (مارس 2015) بين الدول الثلاثة المعنية بخصوص السد. وترى القاهرة أن إجراءات إثيوبيا الراهنة تنتهك مبادئ الإعلان، لاسيما المبدأ الثالث (عدم التسبب في ضرر ذي شأن)، والخامس (التعاون في الملء الأول وإدارة السد).

بينما لمحت أديس أبابا في الأسابيع الأخيرة بنبرة تهديد تتزايد مع اقتراب “موعد الملء الثاني” في يونيو-يوليو العام الجاري إلى وصول الإعلان لنهايته مع الاحتكام للمبدأ العاشر الخاصة بالتسوية السلمية للمنازعات والذي يقضي بتسوية الدول الثلاث “منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا”.. و”طلب التوفيق، أو الوساطة، أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/ رئيس الحكومة”.

كما بادرت إثيوبيا نهاية أبريل 2021 بالقول أن “تهديدات” مصر والسودان تظل “جوفاء”، وأنها ترفض “الاتفاقات التاريخية حول حصص مياه النيل”. واتهمت الخارجية الإثيوبية مصر والسودان بإطالة أمد المحادثات مع أديس أبابا في الفترة الماضية “وأنهما خرجتا منها في تسعة مناسبات مختلفة”(؟؟)([5]).

وبمراجعة مراحل التفاوض والمحادثات والاقترابات الأولية بين الأطراف الثلاثة المعنية بسد النهضة (مصر وإثيوبيا والسودان)، ومع تجاوز إثيوبيا فعليًا إعلان المبادئ بإتمام الملء الأول دون أي تنسيق يذكر مع مصر والسودان في العام 2020، وتصميمها على المضي قدمًا في الملء الثاني بعد أسابيع قليلة، فإن المقترحات المصرية لا تزال منحصرة في عدة نقاط منها:

بعد توقيع الدول الثلاثة على بدء الدراسات الفنية حول أثر السد على دولتي المصب (2016) تقدمت مصر باقتراح زيادة عدد الفتحات في السد، الأمر الذي رفضته إثيوبيا في مؤشر على مسار المقترحات المصرية والاستجابات الإثيوبية عليها لبقية عملية التفاوض بعد إعلان المباديء.

ومع فشل الاتفاق على تقرير من الدراسات الفنية حتى العام 2018، رفضت إثيوبيا اقتراحًا مصريًا في يناير 2018 بإشراك البنك الدولي كطرف فني للفصل في الاختلافات في عمل اللجنة القومية الثلاثية.

وفي سبتمبر 2019 اقترحت مصر خلال محادثات ثلاثية في القاهرة حول ملء خزان سد النهضة بالتوصل لاتفاق ينظم هذه العملية بالغة الحساسية، لكن إثيوبيا رفضت الاقتراح بوصفه “انتهاكًا لسيادتها”.

وفي يوليو 2020 انتقل الخلاف حول بدء ملء سد النهضة إلى الاتحاد الأفريقي بعد نجاح إثيوبيا بدعم مباشر من جنوب أفريقيا في تفادي نقل الملف لمجلس الأمن وضرورة معالجته أمام الاتحاد الأفريقي أولًا.

وتوقفت المبادرات والمقترحات المصرية تقريبًا عند قمة كينشاسا (مارس 2021) بخروج وزير الخارجية سامح شكري في ختام المحادثات معلنًا عدم وجود إرادة سياسية لدى نظام آبي أحمد للتفاوض في مسألة سد النهضة بحسن نية، بمقتضى إعلان المبادئ (الخرطوم مارس 2015)([6]).

ويمكن إرجاع الرفض الإثيوبي المتكرر لأية حلول واقعية لغياب الإرادة السياسية للنظام في أديس أبابا، أو بلغة أقل دبلوماسية إلى ضعف هيكلي داخل بنية نظام آبي أحمد مما يدفعه للنظر للسد والمقاربة العدائية تجاه مصر بأنها “إزاحة” عملية لمشكلات النظام وضمان حد أدنى من القبول الشعبي له وسط تصاعد أصوات المعارضة (السياسية والمسلحة) برفض سياسات نظام آبي أحمد وصولًا إلى الدعوة (نهاية أبريل الفائت) إلى عقد مؤتمر شعبي إثيوبي عام يكون نظام آبي أحمد أحد مكوناته وليس مسيره أو أهم عناصره.

تقول الرواية الإثيوبية أن الهدف الأساسي من سد النهضة القيام بتوليد الكهرباء فقط، هل هذا صحيح؟ 

رغم تبدلات الرواية الإثيوبية حول السد ومبررات إنشائه ودلالاته وامتزاجها بنعرات “قومية” وحشد شعبوي واضح للقفز فوق مشكلات الدولة الإثيوبية ونظام آبي أحمد الهيكلية فإن أهم عناصر هذه الرواية ظل متمثلًا في أن الغرض من تشييد السد توليد الكهرباء الضرورية للاقتصاد الإثيوبي. لكن المؤشرات، وما يقرأ من تصريحات إثيوبية متفرقة، تشير إلى صلة هامة بين الأمن المائي وتوليد الطاقة الكهربائية، لاسيما أن الحكومة الإثيوبية أعلنت أن قدرة السد المتوقعة على إنتاج الطاقة الكهربائية  لن تقل عن ستة آلاف ميجاوات.

لكن خبراء بارزون على المستوى الدولي أتفقوا على رؤية أن حجم السد مبالغ فيه، وأنه لن يكون قادرًا على توليد هذه الكميات من الطاقة أو حتى نصفها، إضافة إلى النهج الإثيوبي الحالي والمتوقع استمراره مستقبلًا بالاعتماد على تصدير الطاقة([7]) لدول الجوار بدلًا من توجيهها للسكان الإثيوبيين المحرومون من استخدام الطاقة الكهربائية (  تتفاوض إثيوبيا على مضاعفة صادراتها من الطاقة الكهربائية إلى كينيا 400 ميجاوات لكينيا بحلول العام المقبل 2022 عبر خط نقل الطاقة بطول 1125 كم منه 434 داخل الأراضي الإثيوبية و606 كم داخل الأراضي الكينية، فيما وصل هذا الرقم في العام 2021 إلى 200 ميجاوات([8]

كما تصدر لجيبوتي والسودان ما يصل إلى 100 ميجاوات لكل منهما، وتخطط لرفع ما تصدره لجيبوتي إلى 400 ميجاوات في العام 2022.  وصرحت أديس أبابا في مارس 2021 أن توربينين بالسد يتوقع أن يولدا الطاقة للمرة الأولى في أغسطس 2021.

يتضح أن هدف توليد الكهرباء واقعي تمامًا، لكنه ليس الهدف الوحيد أو الأكبر في سياق “إمداد سكان إثيوبيا بالكهرباء”، إذ أن التغيير المستمر في تصميم السد طوال المراحل السابقة والوصول بالسعة التخزينية لبحيرة السد إلى أكثر من مرة ونصف من حجم مياه النيل الأزرق المتدفقة سنويًا يشير إلى أغراض أخرى باستهلاك كميات “غير محددة” من مياه النهر بغض النظر عن تهديد حصة مصر الثابتة منها.

كما أن النزعة التصديرية التي تتبناها إثيوبيا في قطاع الكهرباء ضمن سياسة تعزيز نفوذها الإقليمي تدحض رواية أن الهدف الرئيس من السد هو تعويض النقص الحاد في نصيب المواطن الإثيوبي من الطاقة الكهربائية.

كيف ستتأثر الرقعة الزراعية المصرية والاستخدام اليومي للمياه لدى السكان بسبب سد النهضة؟

بشكل عام، يتوقع أن يؤثر سد النهضة في حال المضي قدمًا في الملء الثاني دون اتفاق ينظم هذه العملية بشكل مباشر على إنتاج الغذاء وأمنه في مصر. كما أن خفض تدفق المياه إلى مصر سيؤثر بشدة على مرونة عمل السد العالي بأسوان الذي يخزن المياه لاستخدام مصر والسودان خلال فترات الجفاف؛ وسيقود ذلك إلى التأثير سلبًا على إنتاج الطاقة الكهربائية التي يولدها السد العالي، وإضافة إلى العواقب التقنية والاقتصادية للسد على مصر، فإنه ستكون له نتائج بيئية خطيرة مثل ارتفاع ملوحة المياه، وتراجع إمدادات المياه الجوفية، وتسرب مياه البحر([9]).

وحسب تقديرات العام 2019-2020 فإن خفض توفر المياه أمام السد العالي بقيمة بليون متر مكعب واحد سيقود إلى خسارة في الإنتاج الزراعي في مصر بقيمة 430 مليون دولار وخسارة 294 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وزيادة واردات مصر الزراعية بنسبة 2.2%، كما يتوقع أن تفقد 290 ألف أسرة مصرية مصدر دخلها الرئيس، مما سيزيد من إمكانية الهجرة وتشرد مواطنون إلى دول الجوار، وخلق حالة عدم استقرار وربما يفاقم من التهديدات الإرهابية التي يعاني منها الإقليم بالفعل([10]).

ورغم “البعد التنموي” في سد النهضة لدى الجانب الإثيوبي فإنه يتقاطع مع مصالح دولتي المصب، في ضوء تزايد أعداد السكان والتغير المناخي الذي يضيف ضغوطًا عليهما، فإن المشروع ينطوي على ما حذر منه مسئولون ومراقبون من صراع مستقبلي على المياه حال عدم التوصل لاتفاق ملزم لتنظيم القواعد الحاكمة لملء بحيرة السد لاسيما الخلاف حول اجراءات مواجهة الجفاف.

وبينما يؤكد خبراء مصريون على الفصل بين مسار التفاوض على إدارة وتشغيل سد النهضة فإن إثيوبيا تحاول إضفاء صبغة “تحررية من القيود الكولونيالية” بالتأكيد، كما أكد السفير إبراهيم إدريس، أحد المفاوضين الإثيوبيين في محادثات السد، في مارس الفائت أن اقتراح مصر والسودان بتدويل رعاية المفاوضات وإشراك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد الأفريقي: “سينتقص من حقوق إثيوبيا في تطوير مواردها المائية”.

هل تعارض مصر مشاريع التنمية في إثيوبيا؟ وما هي الحلول التي قدمتها لمصر؟

ارتادت مصر مدرسة الري الأفريقية منذ قرون بعيدة، وتمتعت في العصر الحديث بتاريخ طويل من دعم مشروعات إدارة المياه في دول حوض النيل لتحقيق مصالح متبادلة، كما لم تعترض مصر مطلقًا على أي مسار تنموي بهذه الدول، كما لم تعترض على تشييد أيًا من سدودها التي لا تسبب ضررًا جسيمًا بالمصريين. وعلى سبيل المثال تدعم مصر، على الأقل منذ دعمها لمشروع سد أوين Owen Falls في أوغندا في العام 1949، مشروعات تشييد السدود في دول مثل جنوب السودان وأوغندا وكينيا والكونغو وتنزانيا([11]).  

ويتضح من مقاربة مصر لأزمة سد النهضة، لاسيما بعد إعلان الخرطوم 2015، أن مصر تسعى لمعادلة الربح للجميع وأنها لم تبد أي مؤشرات على رفض مشروع السد فيما تنادي –وفق أعراف القانون الدولي- بترتيبات مشتركة في إدارة وتشغيل سد النهضة.

هل من الممكن أن تُقدم إثيوبيا على تقاسم مياه النيل وبيع الحصص؟

بالنظر إلى طبيعة نظام آبي أحمد وهشاشته ونظرته المبالغ فيها لنفسه وإثيوبيا كدولة مهمة (وهي أهمية مرهونة فقط بدورها الإقليمي أو المخاوف الدولية الحقيقية حال تفككها، مع ملاحظة عدم وجود قاعدة حقيقية لدولة وطنية حديثة باندماج وطني حقيقي، أو إرادة سياسية لشمول جميع مواطني إثيوبيا بممارسات دولة عادلة غير عنصرية إثنيًا وربما دينيًا ومذهبيًا)، وتعزز هذه الرؤية وملاحظة أداء نظام آبي أحمد بخصوص ملف سد النهضة، لاسيما الناطق باسم خارجيته دينا مفتي وتعليقاته الرسمية والإعلامية التي تفتقر للتقاليد الدبلوماسية، ومنها ما أفاد به قناة الجزيرة القطرية في أبريل 2021 من احتمال إقدام بلاده على تبني فكرة “بيع المياه”.

ويبدو هذا الخيار هو تصور إثيوبيا الجوهري في ملف سد النهضة لعدة اعتبارات:

أنه يتسق مع تصور إثيوبيا لنفسها كمصدر للطاقة والمياه والغذاء والخدمات لدول الجوار والمنطقة.

أنه يعزز مساعي نظام آبي أحمد تجاوز مكانة إثيوبيا الحالية في إقليم القرن الأفريقي، أفقر أقاليم العالم اقتصاديًا وأكثرها ترديًا في أحوال معيشة السكان، نحو مكانة أكثر انخراطًا في سياسات الشرق الأوسط .

تعزيز استراتيجيات أطراف بالمنطقة بأجندات مغايرة، لإعادة هيكلة إقليم البحر الأحمر وحوض النيل وضمان اتساق الدور المصري مع هذه العملية، وتفكيك مكانة مصر وسيادتها التقليدية الراسخة طوال قرون طويلة لصالح “تقسيم عمل” متصور.

تحقيق إثيوبيا مكاسب اقتصادية كبيرة، ربما في شكل مبادلات سلعية وخدمية مع مصر التي تعد واحدة من أهم وأكبر ثلاث قوى اقتصادية في القارة الأفريقية.

ما هي أشهر شركات المقاولات العاملة في السد؟

يتسم الاقتصاد الإثيوبي بقاعدة خدمية وزراعية بالأساس وتدني الإسهام الصناعي بشكل ملفت، ورغم هذا القصور في تنوع مصادر الاقتصاد الإثيوبي تعززت قدرته على جذب استثمارات خارجية مباشرة في قطاعات التشييد والبناء لتنفيذ مشروعات البنية الأساسية، إضافة إلى ما يبدو إدارة إثيوبية جيدة للربط بين استثمارات الشركات الكبرى بمشروطية سياسية تبدو ناجعة نسبيًا، يمكن تلمس آخرها في مسار إرساء عطاء رخصة شبكة المحمول الإثيوبية (وهو قطاع تحتكره الدولة الإثيوبية حتى الآن) بين شركتين متنافستين فقط ومدعومتين من الولايات المتحدة والصين.

في منتصف العام 2016 أرست هيئة الطاقة الكهربائية الإثيوبية Ethiopian Electric Power Corp  مشروع تشييد سد النهضة بقيمة 2.8 بليون دولار على مجموعة ساليني إمبريجيلو Salini Emregilo الإيطالية. وشمل العقد، الذي بدء في تنفيذه في العام 2017، بناء سد كويشا Koysha على نهر أومو جنوبي إثيوبيا لتوليد 2200 ميجاوات، بتمويل من هيئة التمويل الإيطالية Servizi Assicuative de Commerce Estero([12]).

وفي مطلع العام 2019 بادرت الحكومة الإثيوبية بجهود للإسراع في عمليات تشييد السد (التي وصلت في فبراير 2019 إلى نسبة 65% حسب إعلان الحكومة الإثيوبية)، وعهدت Ethiopian Electric Power (EEP) بتعهيد مجموعة جيزوبا الصينية المحدودة China Gezhouba Group Co., Ltd (CGGC) بعقد بقيمة 40 مليون دولار للعمل بالشراكة مع الشركات الأخرى لإكمال المشروع “وفق الجدول المخطط”.

كما وقعت الشركة الإثيوبية عقدًا بقيمة 113 مليون دولار مع شركة  “فويث هيدرو شنغهاي” Voith Hydro Shanghai يشمل أعمال مدنية بنائية كهربائية وميكانيكية ومتنوعة لإكمال بناء محطة توليد والمفايض([13]). وتمثل هذه المساهمة الصينية نسبة 10% تقريبًا من إجمالي استثمارات الصين في إثيوبيا وفق تقديرات العام 2020 (والتي بلغت 1.1 بليون دولار).

ويتوقع أن تتصاعد الاستثمارات الصينية في مجال الطاقة الكهربائية في إثيوبيا بالتزامن مع قرب الموعد المحدد لاكتمال السد (2023) وتعهد بكين بضخ استثمارات في هذا القطاع بقيمة 1.8 بليون دولار، الذي سيحتل المرتبة الأولى للاستثمارات الصينية في إثيوبيا ترقبًا لنتيجة المنافسة بين شركتي فودافون التي تدعمها واشنطن، و MTN التي تدعمها الصين (وجنوب أفريقيا كوسيط وشريك استثماري للشركة في القارة الأفريقية)  للاستحواذ على استثمارات تقدر بعدة بلايين من الدولارات في قطاع الاتصالات من بوابة الحصول على رخصة المحمول في إثيوبيا المؤجلة منذ شهور والتي غلق باب التقدم للحصول عليها في 26 أبريل 2021([14]).

وقعت شركة ألستوم Alstom (فرنسية متعددة الجنسيات تطور وتسوق نظمًا متكاملة لقطاع النقل، وتقدم مجموعة كاملة من المعدات والخدمات تشمل البنية الأساسية، ويتمثل حضورها الأبرز والأقدم أفريقيًا في دولة جنوب أفريقيا([15]) منذ العام 1925) عقدًا بقيمة 250 مليون يورو مع هيئة المعادن والهندسة Metals & Engineering Corporation (METEC) الحكومية الإثيوبية لتوفير توربينات ومولدات وجميع المعدات الالكتروميكانيكية لتوليد الطاقة الكهرومائية من السد([16]).

ماذا يعني الملء الأول، والملء الثاني؟

ظلت مسألة ملء سد النهضة محل خلاف بين الدول الثلاثة المعنية، وقد اقترحت مصر أن يتم ملء خزان سد النهضة على فترة سبعة أعوام، الأمر الذي رفضته إثيوبيا من حيث المبدأ وإن ربطته في النهاية بالأحوال الهيدرولوجية خلال فترة الملء (كما حدث في الملء الأول بالفعل).

وقبل نهاية يوليو 2020 أعلن آبي أحمد إكمال الملء الأول لخزان سد النهضة دون إلحاق أي ضرر “بالآخرين”، وجاء تصريحه بعد يوم واحد من قمة افتراضية حضرها مع زعيمي مصر والسودان اتفقوا خلالها على “استئناف المحادثات حول السد”([17])، وأرجع آبي أحمد اكتمال الملء المبكر للسد إلى الأمطار الغزيرة.

واستهدف الملء الأول للسد تخزين 4.9 بليون متر مكعب (تبلغ حوالي ثلث المستهدف من المياه طويلة التخزين في السد بعد اكتماله). وتريد إثيوبيا الوصول بمستوى ملء بحيرة السد إلى 560 م فوق مستوى سطح البحر حتى تبدأ في توليد الكهرباء بقدرة تقترب من 700 ميجاوات أعدت لها بالفعل البنية الأساسية لنقلها من موقع السد ريثما يتم تشغيل التوربينات. ولا يتوقع أن يتجاوز الملء الثاني حجم الملء الأول بكثير، ويرتبط ذلك بحجم الانشاءات المستهدفة، فيما أكد السودان أن إقدام إثيوبيا على الملء الثاني دون اتفاق ملزم يمثل تهديدًا للأمن القومي السوداني.

لكن يبدو أن الملء الثاني سيتم في موعده بغض النظر عن استجابة إثيوبيا للمطالب المصرية والسودانية بالتوصل لاتفاق ملزم من عدمها. وقد أكد وزير المياه والري الإثيوبي سيلشي باكلي Selchi Bakli  مطلع فبراير 2021 اكتمال بناء أكثر من 78% من السد، وأن إثيوبيا ستواصل التقدم في بناء السد بمعدل 4.05% في غضون الشهور الستة المقبلة (بنهاية يوليو 2021)([18]).

ماذا سيحدث لو أن إثيوبيا قررت الملء الثاني في التوقيت المحدد؟

تعد مصر من أكثر دول العالم رشادة في استهلاك المياه، وسعيًا وراء حلول علمية لإعادة تدوير المياه ومعالجتها وتنويع أوجه الاستفادة منها بما يتسق مع ترتيب مصر في قوائم الفقر المائي العالمي. ومن هنا تبرز خطورة الانتقاص من حصة مصر في غياب اتفاق ملزم وتدابير مشتركة لتشغيل السد وعمله. وفي ظل المؤشرات الحالية فإن إثيوبيا ستمضي في الملء الثاني بعد أسابيع قليلة، ومن ثم يصبح السؤال متعلقًا بسيناريوهات الاستجابة المصرية لخطوة الملء هذه، ويمكن رصدها على النحو التالي:

الدفع بقوة أكبر تجاه فرض تدخل دولي حاسم للوساطة في هذه المسألة، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية. وهو سيناريو متوقع إلى حد كبير، ويكاد يكون الأكثر وضوحًا حتى الآن، في ظل التفاهم المصري الأمريكي الجاري وترتيبات التعاون العسكري الآخذة في التصاعد حاليًا، وربما تعمق الرفض الإثيوبي لأية وساطات دولية بما يكرس صورة أديس أبابا كقوة ساعية لهيمنة مائية والمجازفة باستقرار المنطقة برمتها.

تواجه إثيوبيا حربًا مأساوية قادت إلى تداعيات أزمة إنسانية في إقليم التيجراي، إلى جانب انتشار عمليات القتل والاغتيالات والتشريد في أقاليم أوروميا الغربي وبني شنقول قمز والأقاليم الجنوبية مما أدى لتعميم حالة عدم الأمن في أرجاء البلاد. وأضافت تداعيات كوفيد-19 والاقتصاد الذي يرزح تحت وطأة الديون الخارجية والمفاوضات بالغة التوتر حول سد النهضة مع مصر والسودان والنزاع الحدودي مع الأخير مزيدًا من أبعاد التعقيد مع اقتراب الانتخابات في شهر يونيو المقبل([19])، وفي حال تجاوز إثيوبيا ما اعتبره الرئيس المصري “خط أحمر” فإن تراكم الأزمات الإثيوبية واحتمالات تمددها ستأخذ أبعادًا جديدة خاصة على الجبهة السودانية- الإثيوبية وفي إقليم أوروميا، وإن ارتبط ذلك أيضًا بمخرجات الانتخابات الإثيوبية العامة المقررة في 5 يونيو المقبل.

إقدام نظام آبي أحمد على خطوة للأمام، وحقيقية، قبل موعد الملء الثاني، في ملف سد النهضة في حالة نجاح النظام في تجاوز الانتخابات المقبلة، وهو سيناريو قائم وإن تراجعت حظوظه في الأسابيع الأخيرة.

الوصول لمعادلة صفرية في ملف سد النهضة وإتاحة مجال أكبر أمام عملية عسكرية بغض النظر عن أعباء هذه العملية أو ردود الفعل الإقليمية والدولية المتوقعة في ظل تجاهل غريب للغاية لتفهم تهديدات سد النهضة على مقدرات الدولة المصرية. وهو سيناريو أصبح في الآونة الأخيرة غير مستبعد بالمرة حتى لدى أكثر المراقبين تفاؤلًا بإمكانية التوصل لاتفاق قبل موعد الملء الثاني.

خلاصة

بغض النظر عن الشكوك في جدية الإجابات الإثيوبية عن مثل هذه الأسئلة الشائعة ومدى واقعيتها، أو استجابتها “الشعبوية” تجاه المبادرات المصرية، فإن المحصلة تشير إلى أن أزمة سد النهضة آخذة في التصاعد والتحول من أزمة محادثات ومفاوضات للوصول إلى تسوية تراعي مصالح الأطراف الثلاثة إلى أزمة إقليمية متعددة الجوانب ومنفتحة على جميع الاحتمالات بما فيها التصعيد العسكري، وإعادة ترتيب حقيقية لخرائط التحالفات، لاسيما من قبل القاهرة.

وستكون النقطة الفاصلة تجاوز إثيوبيا ما أعلنه الرئيس المصري السيسي “خطًا أحمر”، وأعاد لفت النظر إليه السفير المصري بواشنطن معتز زهران في مقال مهم وذي دلالات متعددة التفسيرات نشرته “فورين بوليسي” نهاية أبريل  الفائت([20])،  بالإقدام على الملء الثاني قبل التوصل لاتفاق.

وربما تكشف إجابات هذه الأسئلة عن حقيقة الأزمة وجوهرها وتعديها المنطقي أطر الوساطة الأفريقية المثقلة بالتعقيدات الروتينية والقابلة لاختراق أصحاب مصالح في تبريد المخاوف المصرية المصيرية؛ وأن سعي القاهرة لوجود “وسيط” أو راع دولي ينبع بالأساس من ثقتها في موقفها وحرصها على عدم حدوث اضطرابات إقليمية لن تكون هي المتضرر الأكبر جرائها.

عن "مركز الإنذار المبكر"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية