سيد قطب و"الظلال".. اختل المنهج فسقط البناء (5)

سيد قطب و"الظلال".. اختل المنهج فسقط البناء (5)


22/01/2020

عايش سيد قطب القرآن الكريم ولازمه لأعوام طويلة لا تقل عن العشرة، وتوقف خلالها عن الرجوع إلى غيره من الكتب والمراجع إلا عند الضرورة القصوى. وقد طلب من أبناء الحركة الإسلامية؛ بل ومن المسلمين عموماً، أن يفعلوا مثله ويحذوا حذوه، وأن يقطعوا صلتهم بأي نوع آخر من المصادر التي وصفها جميعاً بكونها "جاهلية " أو أنّها على الأقل اختلطت بها، مما يجعل منها مادة خطرة على عقل المسلم ووجدانه. ومن شدة ارتباطه بالقرآن الكريم وصفه بعض أتباعه بكونه "الرجل القرآني". ولا شك في أنّ توثيق العلاقة بالقرآن الكريم مسألة أساسية عند كل مسلم، خاصة إذا كان عالماً أو خبيراً في مجال له علاقة بالدين، لكن الإشكال الذي يطرح مع قطب يتعلق بدرجة أساسية في المنهج الذي اعتمده لقراءة القرآن الكريم وتفسيره وتأويله.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم (1)
وضع فرضية واستند إليها ليخوض مغامرة لم تكن عواقبها سليمة. تقوم أطروحته على الفرضية التالية وتتمثل في دعوة المسلم إلى التخلص من جميع الرواسب التي علقت بفكره والتي يعتبرها ثمرة من ثمرات الجاهلية، وأن يتجرد من كل التأثيرات والعوامل التي أثرت في بنائه، العقلي والنفسي والاجتماعي، قبل أن يتحول إلى الإيمان، حتى يصبح صفحة بيضاء، وأن يتهيأ نفسياً عند وصوله إلى هذه المرحلة ليتلقى القرآن الكريم وحده، وأن يجعل منه المصدر الوحيد الذي يستمع له، ويعمل على تنفيذ أوامره وتوجيهاته.

مهما كانت إرادة قارئ القرآن وجنسيته وقوته الروحية لن يستطيع التحول لمرآة عاكسة للنص وحقيقته مثلما افترض ذلك قطب

الفكرة تبدو مغرية ومقبولة نظرياً، على الأقل، لكنها عملياً تدفع نحو خوض مغامرة مستحيلة. فكل إنسان، والمسلم إنسان، لا يستطيع مهما حاول أن يتجرد من الرواسب الكامنة فيه، أو أن ينفصل كلياً عن محيطه المادي والاجتماعي والثقافي حتى لو كان هذا المحيط جاهلية محضة. فعلم الوراثة ينفي إمكانية تحقق مثل هذا الاحتمال، وكذلك علم النفس يقدم عشرات الأدلة على استحالة الفرضية، وأيضاً يجمع المختصون في مختلف العلوم الإنسانية على القول بأنّ الإنسان يبقى محكوماً بعديد المؤثرات التي تسبق وجوده وتتدخل في إرادته، وتجعل حريته ليست مطلقة.
لا يعني ذلك أنّ الإنسان آلة صماء، يخضع لعوامل خارجة عن سلطته مثلما هو الحال بالنسبة لما يطلقون عليه "الإنسان الآلي" أو "الروبو". هذه صورة كاركاتورية لا يمكن اعتمادها في هذا السياق. الإنسان خلق ليكون حراً، ولهذا السبب بالذات يتمتع بإرادة يقرر من خلالها أشياء كثيرة في حياته. وعلى هذا الأساس دافع الكثير من الفلاسفة والمتكلمون عن القول بأنّ الإنسان هو صانع أفعاله، وأنّ ذلك شرط أساسي يكون مسؤولاً عنها، وبدونه تسقط آلياً فكرة محاسبته على ما يقول ويفعل. لكن السلوك البشري معقد، تتشابك فيه عناصر كثيرة ومتداخلة، بعضها خاضع للسيطرة وبعضها الآخر مستقل عن الفرد ومسؤول عنها الأسرة أو المجتمع أو السياق التاريخي أو الطبيعة بقوانينها.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الوجه المطمئن مقابل الوجه الآخر (2)
مهما كانت إرادة قارئ القرآن الكريم وجنسيته وقوته الروحية وتكوينه لن يستطيع أن يتجرد من كل ذلك ويتحول إلى مرآة عاكسة للنص وحقيقة النص مثلما افترض ذلك صاحب "معالم في الطريق" . إنّه سيقرأ القرآن الكريم من منظوره الشخصي، ووفق مداركه العقلية، وبناء على ثقافته وتجاربه السابقة للنص بقطع النظر عن مصادرها أو صحتها وخطئها. لهذا خضع كل مفسري القرآن الكريم لسياقاتهم التاريخية والمعرفية بمن فيهم سيد قطب نفسه، الذي لو وجد نفسه في سياق ديمقراطي، وتمتع بحرية الرأي والتفكير، وعاش حياته الشخصية بشكل مختلف، ولو تعامل معه الرئيس جمال عبد الناصر بطريقة مغايرة، وأدرك أهميته كمثقف وإنسان، لجاء تفسيره للقرآن الكريم مختلفاً تماماً عن "الظلال"، ولتعامل مع النص الإلهي بمنهجية مغايرة.

اقرأ أيضاً: سيد قطب: القفز نحو المواقع الخطرة (3)
لقد تمحور الجزء الأكبر من تأملاته في القرآن الكريم حول 3 مصطلحات اعتقد بكونها مفردات أساسية للكشف عن أسرار الخطاب الإلهي الموجه إلى البشر، وهذه المصطلحات هي "الجاهلية" و"الربوبية" و"الحاكمية". واعتقد بأنّ هذه المصطلحات عبارة عن مفاتيح مترابطة تشكل مداخل رئيسية لكتاب مقدس يعج بالقضايا والمسائل والاهتمامات والرسائل. وافترض بأنّ تلك المعادلة كافية لتمكّنه من وضع المنهج الذي بحث عنه لتغيير الوضع القائم بمصر وبغيرها من دول العالم.

رغم تأثر الغنوشي بمالك بن نبي إلا أنّ تعلّقه بقطب جعله يسعى للتوفيق بينهما في معادلة لا تستقيم

هذه النظارات التي وضعها قطب فوق عينيه جعلته، على سبيل المثال، لا يدرك أهمية ما كتبه مثقف آخر عاش معه في نفس الفترة هو المهندس الجزائري مالك بن نبي، وواجه نفس القضية التي شغلته ولكن من زاوية أخرى وبمنهجية مختلفة. ذكر سيد في كتابه "معالم في الطريق" وتحت عنوان "الإسلام هو الحضارة" ما يلي: "لقد كنت قد أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان "نحو مجتمع إسلامي متحضر"، ثم عدت في الإعلان التالي فحذفت كلمة متحضر مكتفياً بأنْ يكون عنوان البحث- كما هو موضوعه "نحو مجتمع إسلامي"، ولفت هذا التعديل نظر كاتبٍ جزائري يكتب بالفرنسية ففسَّره على أنَّه ناشئ عن عمليةِ دفاع نفسية داخلية عن الإسلام، وأسف لأنَّ هذه العملية- غير الواعية- تحرمني من مواجهة المشكلة على حقيقتها". وأضاف قطب "أنا أعذر هذا الكاتب؛ لقد كنت مثله من قبل أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن".

اقرأ أيضاً: سيد قطب: الجاهلية نظرية في الخروج من التاريخ (4)
كانت كلمات سيد كافية لكي تحجب الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً عن هذا الرجل الجزائري، وتحرمهم من الاستفادة من كتبه العميقة والنوعية. فالخلاف بين الكاتبين عميق وليس شكلياً كما تصور الكثيرون. حتى قطب لم ينتبه إلى ما رواء ملاحظة بن نبي. لم يدرك أنّ الحضارة غير مرتبطة عضوياً بالتدين. لهذا اعتبر أنّه بمجرد وجود مجتمع إسلامي يحصل تقدم حضاري، في حين أنّ الحضارة تكتسب عن طريق الالتزام بقوانين وشروط، يمكن أن يأخذ بها المسلم أو غير المسلم. وهو ما يفسر الحالة الراهنة؛ حيث يقود الغرب مسار الحضارة بعد أن أمسك بخيوطها، في حين لا يزال المسلمون يتحركون على الهامش ويوصفون بالتخلف رغم تديّنهم. ويعود ذلك إلى الفهم الخاطئ عند المسلمين لجوهر دينهم من جهة، ولجوهر الحضارة من جهة أخرى.


رغم تأثر الغنوشي بمالك بن نبي، إلا أنّ تعلّقه بقطب جعله يسعى نحو التوفيق بينهما في معادلة لا تستقيم تفسر جزءاً هاماً من تناقضات الكثير من الإسلاميين. قال "بعد تفكّر طويل وحيرة وتجاذب في نفسي بين الإمامين )يقصد قطب وبن نبي(، تجلّت في نفسي كالصبح مكانة الرجلين العظيمين وموقع كل منهما.. أدركت أنني إذا ابتغيت تفسيراً لآي من كتاب الله وبخاصة التفسير البياني والمنظور الشامل للسورة في ترابط وتماسك آيها ومحايثتها المستمرة للواقع باعتبارها قوة تغيير له وليس مجرد تشخيص، فليس أولى من )السيد ( صاحب "الظلال" أظفر عنده بمبتغاي، ولكن دون اقتصار عليه أو استغناء عنه.
أما إذا رمت بحثاً وتفكيكاً لظواهر التخلف والتحضر والوقوف على محركاتها في تاريخنا وواقعنا، فليس في الفكر الإسلامي المعاصر ما يسعف وينير الطريق إلى الواقع وإلى كتاب الله خير من مالك بن نبي صاحب سلسلة "الحضارة"، فإذا كان الحديث في الحضارة فلا يفتى ومالك في المدينة ". مع ذلك ما يبنيه مالك ينسفه سيد؟ !!.

هامش:

1- راشد الغنوشي "بين سيد قطب ومالك بن نبي"/موقع الجزيرة.

الصفحة الرئيسية