عبقرية التنوع المصرية.. بين حلوى المولد وشجرة الميلاد

المسلمون والمسيحيون

عبقرية التنوع المصرية.. بين حلوى المولد وشجرة الميلاد


30/11/2017

في ظل الاحتفالات الشعبية بالمولد النبوي، وتعدد مظاهره في المجتمع المصري، التي يتقاسمها مع مختلف البلدان العربية والإسلامية، تتبدى حالة وجدانية هادئة وإيمان عفوي بسيط، يبدو وكأنّه احتجاج عام ورفض يتمظهر بالفرح ضد التعصب والفرقة، ومقولات التكفير وفتاوى تحريم بعض الممارسات الدينية، التي تقف وراءها التيارات والتنظيمات الإسلامية، السلفية والأصولية، مثل؛ زيارة المساجد التاريخية وحضور الموالد وسماع المدّاحين وحلقات الذكر وتزيين مساجد الأولياء الكبرى، كالحسين، والسيد البدوي بمدينة طنطا شمال القاهرة، وانتشار شوادر "حلوى المولد"، بمكوناتها الشهيرة، التي يقبل على شرائها المصريون؛ مسلمين ومسيحيين.

يحرص جميع المصريين أغنياء وفقراء على شراء حلوى المولد التي تلغي فوارق الحالة المادية والموقع الاجتماعي

تفصل إحياء ذكرى المولد النبوي عن عيد الميلاد هذا العام أيام معدودة رغم اختلاف نظام التقويم الميلادي والهجري، لكن تتشابه طرق الاحتفال وتزيين المساجد والكنائس بالمظاهر ذاتها، من خلال صنع الحلوى وتبادل الهدايا، التي يحتفي بها المسيحيون في عيد الميلاد أيضاً، وأبرزها كعكة الفاكهة، فيما تبرز شجرة الميلاد كأحد أركان استقبال العام الجديد وعيد الميلاد، وتتوافق في رمزيتها مع فكرة كون المسيح في العقيدة المسيحية هو "نور العالم".

حلوى المولد النبوي في مصر

وتعد الحلوى المصرية، المظهر الرئيسي في الاحتفال بالمولد النبوي، ملغية فوارق الحالة المادية والموقع الاجتماعي؛ فجميع المصريين أغنياء وفقراء يحرصون على شرائها؛ وهي عبارة عن: السمسمية والفولية والحمصية والجوزية والبسيمة والملبن المحشو بالمكسرات، بالإضافة إلى عروسة المولد الشهيرة والحصان وغيرها. فالحلوى طقس احتفالي تبدأ العائلة المصرية بميزانية خاصة في الإعداد له قبل المولد بشهر أو شهرين، غير عابئة بالثقل المالي الذي قد يمثله شراؤها؛ حيث تشكل استمرارية للحفاظ على أحد أهم الموروثات الاجتماعية رسوخاً في الوجدان الشعبي المصري.

 

ويرجع الأصل التاريخي لعروسة المولد أو حصان المولد لموكب الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي كان يجوب القاهرة بمرافقة زوجته وهي ترتدي رداءً أبيض، ويعلو رأسها تاج من الياسمين، فأعجب بها صناع الحلوى وصنعوا تماثيل من السكر، القابل للأكل للحاكم وزوجته.

 يرجع الأصل التاريخي لعروسة المولد لموكب الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي كان يجوب القاهرة بمرافقة زوجته وهي ترتدي رداءً أبيض

كما أنّ لنموذج الاحتفال بـ"العروسة والفارس"، الذي يميز المصريين أصولاً قبطية، كما يوضح الباحث روبير الفارس في كتابه "في الفلكلور القبطي"، وقد ازدهرت مصانع هذه الحلوى في الفترة الفاطمية، ويبرز فيها الفارس على حصانه، باعتبارها هدية يقبل عليها الأولاد، والعروسة للفتيات، ورمزيتها في الفكر المسيحي تقوم على صورة الفارس الذي يطعن الشر بحربته، والعروسة تعني النفس البشرية، وهي مستوحاة من قصة أسطورية أقدم، حيث "حورس" الذي يطعن "ست" الشرير، في الأسطورة الفرعونية، وأضحت تعبر فيما بعد عن انتصار الشهداء على أباطرة الرومان، وتتجلى في أيقونات "مارجرجس" و"مارمينا".

تزخر شوادر الاحتفاء بالمولد النبوي بحلقات الذكر، والمدائح النبوية التي يصدح بها المنشدون، الذين يستلهمون في غنائهم قصائد المديح النبوي مثل بردة البوصيري، إلى جانب مجموعة من المدائح الشعبية التي يترافق معها أداء الدفوف والنايات، وتنتقل بين مشاهد الأولياء الكبرى، كما تسردها كتب التراث كالمشهد الحسيني والمشهد الزينبي، فضلاً عن المسيرات التي تقوم بها الطرق الصوفية القادمة من سائر المُحافظات في ذكرى المولد النبوي.
وبالرغم من فتاوى التيارات السلفية بخطابها المتشدد، كل عام، التي تعمد إلى تحريم الاحتفال بالمولد النبوي، وتطالب بغلق مسجد الحسين لمنع وصول المحتفلين إليه، يستمر الإصرار المصري على طقسية الاحتفال بجانبيه الروحي والتعبدي من ناحية، والقيمي من ناحية أخرى، وهو ما يحفظ مكانة مهمة لتوقير مبادئ العدل والخير والتوحيد والإنسانية لكافة البشر.

تتنوع ظاهرة مشاركة المصريين بعضهم بعضاً أفراحهم وأتراحهم، مثل كثير من المناسبات العامة، التي تتحول في خصوصيتها الدينية، إلى مناسبة قومية تجمعهم معاً، بدون فرقة، فيصوم كثير من المسلمين عيد السيدة العذراء، كما يتوافد المسيحيون على موالد الأولياء وزيارة عتباتهم المقدسة وطلب شفاعتهم، وهو نفسه الأمر الذي يحرص عليه المسلمون بزيارة موالد القديسين والطواف فيها وأداء طقوسها، وهذا ما دفع نيكولاس بيخمان في كتابه "الموالد والتصوف في مصر" ليقول: "إنّ على مصر أن تفخر بحيازتها لمثل هذا التنوع الفريد لهذه الظاهرة العبقرية".

وقد رصد هذه السلوكيات أبضاً الباحث الفرنسي "إدوارد ليم لين"، الذي زار مصر للمرة الأولى العام 1825 لدراسة اللغة العربية وآدابها واتجه لرصد عادات شعبها وسلوكهم، والتي كان من بينها الاحتفال بالمولد النبوي، وضمها في كتابه الشهير "وصف مصر"، حيث رصد ظاهرة احتشاد المسيحيين لمشاهدة حلقات المنشدين حتى أذان الفجر، فيقول: "كأن مصر مجتمعة كلها بداية من الأمير وولي العهد في سرادقه حتى المزارعين والعمال والصناع".

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية