"على صفيح ساخن".. يقدم تشريحاً بصرياً لحياة المهمشين في عالم منسي

"على صفيح ساخن".. يقدم تشريحاً بصرياً لحياة المهمشين في عالم منسي


12/05/2021

نضال قوشحة

"على صفيح ساخن" مسلسل درامي سوري يقدّم الكثير من التداعيات الفكرية الحارة التي تنوس بين المُعتاد حينا والغريب حينا آخر، لتشكل بانوراما حياتية موجعة وحقيقية عن مجتمع يعيش غليانا حياتيا يشمله في كامل بنيانه.

فقد حفل العمل بطيف واسع من الخطوط الحكائية التي تتقاطع وتتصادم بعنف، في لبوس اجتماعي وبوليسي وعاطفي، وعبر ذرى درامية أساسية وفرعية متضافرة، ترسم أحداثا لاهثة على مسار حلقاته الـ30 التي كتبها علي وجيه ويامن الحجلي وأخرجه سيف سبيعي.

يتتبّع العمل جانبا من حياة المهمشين أو المنسيين في ذاكرة المدن الكبرى التي تعيش فيها شرائح اجتماعية مختلفة غير متجانسة، على رأسها يأتي جامعو القمامة، أولئك الذين يشاهدهم الجميع يوميا، لكنهم لا يفكرون لحظة بأنهم يشكلون شريحة كبيرة لها طباعها وعلاقاتها وناسها. فالنابشون في القمامة ورافعوها شريحة تقاسم غيرها من المهن المنسية عوالم حياة غريبة وقاسية.

وكثيرا ما تحفل المدن بالعديد من هذه المهن مثل ملمعي الأحذية والباعة الجوالين وغاسلي السيارات وبائعي الوقود وغيرها من المهن التي تتّسم بالشدة والقسوة. هذه الشريحة الاجتماعية التي تعيش في تماس مباشر مع الناس، لكنها بعيدة عن اهتمامهم تظهر هنا بوضوح وقوة.

كثافة درامية

في نص مسلسل “على صفيح ساخن” الذي حمل أولا عنوان “في وضح النهار”  تشريح شاقولي للمجتمع السوري، بحيث استعرض عدة شرائح اجتماعية تعيش أزمات عميقة، ثم شرّحها أفقيا وقدّم تفاصيل حياتية عنها في مسح دراماتيكي لشؤون حياتها وتطوّرات حكائية محددة. فهناك محور أول عرض فيه حكاية ثلاثة أشقاء عادوا من تجربة هجرة فاشلة إلى أوروبا بعد أن سلب المهربون أموالهم، محاولين ترميم ما يمكن من حياتهم الجديدة الفقيرة التي سيقضونها في وطنهم بعد أن عادوا إليه منكسرين.

والمحور الثاني يخصّ تاجر مخدرات يتخفّى بوشاح رجل الدين التقي والورع، هو وعصابته التي تُتاجر في الممنوعات، مورطا معه العشرات من الأشخاص، والذي يتحالف مع بعض قوى المجتمع لتمكين شكل ديني محدد من التغلغل في نسيج المجتمع عبر جمعيات خيرية أو فعاليات أهلية. أما المحور الثالث الذي شكل نقطة التوهجّ الأكبر من حيث شكله الدرامي، فهو عالم المهمشين العاملين في نبش القمامة. وهي الشريحة التي لم تظهر سابقا في الدراما التلفزيونية السورية بهذا الشكل الموسّع واكتفت سابقا بالظهور في حالات فردية متناثرة هنا وهناك بدءا من مسلسل “حكايا الليل” لمحمد الماغوط في ستينات القرن الماضي وبعض الأعمال الحديثة.

وإيجاد العديد من المحاور الحكائية المتقاطعة في سيرورة العمل ووجود الكثير من الشخصيات التي تمثل هذه الشرائح، جعل كثافة الحدث الدرامي في المسلسل عالية، فالأحداث كثيرة ومتلاحقة، والكاتبان قاما بتوزيعها على مساحة العمل الزمنية بشكل متدفّق ومتصاعد، بحيث بدأ المسلسل منذ الدقائق الأولى له مشوقا، عندما فاجأ “هلال” (باسم ياخور) شقيقته “هند” (أمل بوشوشة) بصفعة قوية وهي تستقبل العائلة في المطار.

واستمرت حالة التشويق في تصاعد عال، حيث وصلت في الحلقة الـ20 أن يطلب شخص مؤثر وهو زعيم هذه المهنة، ويفترض أنه قتل من شخص آخر هو حليفه، الانتقام بشكل عنيف من القتلة.

كثافة الحدث الدرامي نأت بالمسلسل عن الخلل الأكبر الذي تعاني منه معظم الأعمال الطويلة السورية والعربية، التي تقدّم في الدراما وتعاني من بطء إيقاع الحكاية وقلة كثافة الحدث، فيخرج العمل بشكل رتيب مكشوف الأبعاد والنهايات منذ بواكير حلقاته. إلاّ أن “على صفيح ساخن” وبكثافة الأحداث التي قدّمها ذكرنا بمسلسلات أسامة أنور عكاشة خاصة “ليالي الحلمية” الذي كان يقدّم تدفّقا من الأحداث في كل حلقة جديدة.

ويحسب للمسلسل أنه قدّم شخصيات تحمل حنينا لزمن مضى، والتي قد تبدو غريبة ومضافة ويمكن الاستغناء عنها لعدم فعاليتها في متن الحالة الدرامية، لكنها بوجودها في العمل أضفت عليه لمسة وطنية واجتماعية جديدة. فشخصية “شمس” (سمر سامي) موجودة بكيفية غريبة وتبدو غير منسجمة مع سياق الأحداث، لكنها ما زالت تنبض بالحياة رغم كونها معزولة، فهي ترمز لشريحة خسرت الكثير من ثقلها ومالها نتيجة أحداث سياسية واجتماعية عاشتها سوريا سابقا، وهي ما زالت تحلم بحياة أفضل رغم خسائرها النفسية والشخصية الكبرى.

شخصية ما انفكت تحلم باستعادة أرضها التي صارت حديقة عامة، وتأمل أن تساعدها الظروف لكي تبقيها كذلك، لكنها ترفض فكرة ألاّ تكون هذه الأرض لها لأنها ميراث عائلتها التي يجب الحفاظ عليه.

شخصية شمس حملت ملامح سياسية واضحة، فهي خطيبة كمال الذي يعمل بالسياسة، ونتيجة اختلاف عقائدي معها دفعا الثمن بتأخر زواجهما، إلى أن مات مقتولا قبل يومين من موعد الزواج، لأنه كما قالت “كان يزعج الجميع”، اتفقت معه على الحب والزواج واختلفت معه بأن حب الوطن لا يعني ضرورة أن نموت من أجله.

كتابة مشتركة 

لم تظهر حالة الكتابة المشتركة في الدراما السورية بكثرة، ففي الفن السوري كتب محمد الماغوط ودريد لحام العديد من أعمالهما سابقا، ثم كانت التجربة الأوضح في ثنائية حسن سامي يوسف ونجيب نصير التي أوجدت العديد من الأعمال الناجحة كـ”نساء صغيرات” و”زمن العار” و”الانتظار”.

على صفيح ساخن

وتبدو تجربة وجيه والحجلي ذات جرس خاص، فبعد ثلاثة أعمال سابقة هي “عناية مشدّدة” و”أحمر” و”هوا أصفر” يضع الكاتبان خطى واثقة في خارطة الدراما السورية وهما يتشاركان في كتابة نصوصهما، والأيام القادمة ستحمل نتائج هذا الرهان.

كان واضحا أن النص الذي قدّمه علي وجيه ويامن الحجلي في رابع تجربة تجمعهما هو الأكثر نضجا والأكثر حرارة، وهذا ما حمّل مخرج العمل سيف سبيعي مسؤولية أكبر في البحث عن طرق إبداعية في التنفيذ تكون أكثر قربا من الواقع الحقيقي المعيش. وهذا ما تحقّق من خلال منظومة واسعة من العمل بين جهد تكوين الإضاءة وكذلك الديكور والماكياج وأخيرا التمثيل.

ويبدو أن سبيعي قد حقّق التوازن المطلوب في كل ذلك وصنع من نص الكاتبين ووجود قامات فنية كبيرة معه سواء من الفنانين أو الفنيين عملا متزنا وقدمّ من خلاله مسلسلا يشكل خطوة راسخة في دراما مختلفة.

وأتت الإضاءة التي أنجزها التونسي أمين مسعدي المختصّ في فن التصوير السينمائي غير تقليدية تتفاعل مع الشخصيات من خلال لعبة الضوء وحجم الكادر لتسرد مكنوناتها وردات فعلها. وعلى التوازي قدّم مهندس الديكور ناصر جليلي تكوينات حقيقية لمكب القمامة في أدق تفاصيله، فكان المكان نابضا بالكثير من الزوايا التي ساعدت مخرج العمل ومدير التصوير في إيجاد خيارات واسعة في رسم لقطات مختلفة وموظفة. ولا يمكن هنا الحديث عن تميّز تنفيذ الكادر البصري دون التطرّق للماكياج التي تميّزت فيه ردينة ثابت، حيث رسمت وجوها مقاربة لحد كبير من وجوه النبّاشين الحقيقية. وهذا ما كان مع الأزياء التي قدّمتها لين هزيم.

كل هذا، مكّن المسلسل منذ حلقاته العشر الأولى من تحقيق أسبقية جيدة في المتابعة الجماهيرية، وراج بين المتابعين في سوريا وخارجها، ولا شك أن فرادة الموضوع المقدّم وجدية طرحه قد ساهمت إلى حد بعيد في تحقيق ذاك الحضور. وبالتوازي مع هذا التميّز التقني، فقد أجاد الطاقم التمثيلي أداء الأدوار المكتوبة على الورق بشكل مميّز، فسلوم حداد قدّم دورا جديدا مغريا لأي ممثل في الطاقة الكامنة التي يحتويها وقد أدّاه بهدوء واتزان واضحين، والأمر ذاته انسحب على عبدالمنعم عمايري الهادئ والواثق في أداء رفيع يؤكّد موهبته الكبيرة.

ومجدّدا يظهر باسم ياخور في أداء جدي رصين بعيد عن الكوميديا وأجوائها، حيث قدّم دورا مليئا بالقوة. كذلك كان ظهور يامن الحجلي في دور “عياش” إضافة جديدة له في عالم التمثيل بتقديمه شكلا جديدا يتضمن محتوى مختلفا.

وشخصيتا “رواد” (سليمان رزق) و”تمارا” (جنى عبود) كانتا صاحبتي حضور مختلف ومتميز تجلى في عفوية الأداء المغلّف بالبساطة، ولا شك أن رهان سبيعي عليهما كان في مكانه، حيث وصلا بالشخصيتين لتحقيق الهدف المنشود.

والأمر ذاته ينسحب على عبدالمعين عبدالحق وعبدالرحمن قويدر ونظلي الرواس وميلاد يوسف وأمل بوشوشة، وجميعهم قدّموا في “على صفيح ساخن” أدوارا مركبّة أضافت الكثير لمسيرتهم الفنية.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية