فلسطين تودع "مريدها"... البرغوثي يتجرع الغياب للمرة الأخيرة

فلسطين تودع "مريدها"... البرغوثي يتجرع الغياب للمرة الأخيرة


15/02/2021

غيّب الموت، أمس الأحد، الشاعر والأديب الفلسطيني الكبير مُريد البرغوثي، بعيداً عن معشوقته الأولى ومسقط رأسه "رام الله"، لتفقد فلسطين مريداً من مريديها ومدافعاً شرساً عن شعبها وقضيتها العادلة في مختلف الميادين والمحافل الأدبية والثقافية.

وتوفي مُريد البرغوثي، في العاصمة الأردنية عمّان، عن عمر يناهز الـ 77 عاماً أثرى خلالها المكتبة الفلسطينية والعربية بـ 12 ديواناً شعرياً ونصيّن نثريين أبرزهما رواية "رأيت رام الله".

واكتفى نجله الوحيد الشاعر تميم البرغوثي بنعي والده من خلال كتابة اسمه مجرداً على صفحته المُوثقة في موقع "فيسبوك".

نجله الشاعر تميم البرغوثي

من جانبه، نعى وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف الأديب الراحل قائلاً: "برحيل البرغوثي تخسر الثقافة الفلسطينية والعربية علماً من أعلامها ورمزاً من رموز الإبداع والكفاح الثقافي الوطني الفلسطيني".

وقال أبو سيف، في بيان صحفي: "إنّ الراحل من المبدعين الذين كرّسوا كتاباتهم وإبداعاتهم دفاعاً عن القضية الفلسطينية، وعن حكاية ونضال الشعب الفلسطيني، وعن القدس عاصمة الوجود الفلسطيني"، مؤكداً أنّ "أعماله الشعرية والنثرية تخلّد حكاية الكفاح والنضال الوطني والفكر الإنساني".

نعى الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين الشاعر البرغوثي، مؤكداً أنّ وفاته خسارة كبيرة، ومؤلمة للمشهد الثقافي العربي عامة، والثقافة الفلسطينية خاصة

كما نعى الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين الشاعر البرغوثي، وقال إنّ وفاته "خسارة كبيرة، ومؤلمة للمشهد الثقافي العربي عامة، وللثقافة الوطنية خاصة"، وأضاف أنّه "من القامات المؤثرة التي سيصعب تعويضها".

وقال الاتحاد إنّ الراحل "عُرف بدفاعه عن الدور المستقل للمثقف، واحتفظ دائماً بمسافة بينه وبين المؤسسة الرسمية ثقافياً وسياسياً، وهو أحد منتقدي اتفاقات أوسلو".

شتات مُبكّر

ولد مريد البرغوثي في قرية دير غسانة شمال غرب مدينة رام الله يوم 9 تموز (يوليو) من العام 1944، وتلقى تعليمه الأساسي والثانوي في رام الله التي غادرها عام 1963 إلى مصر للالتحاق بجامعة القاهرة، حيث درس اللغة الإنجليزية.

كان الراحل قد احتفى بصدور ديوانه الشعري "مملكتي من هذا العالم" باللغة الإسبانية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي

وتخرّج البرغوثي في العام 1967، وهو العام الذي احتلت فيه إسرائيل باقي الأراضي الفلسطينية فيما يعرف بـ "النكسة"، ومنعت جميع الفلسطينيين المتواجدين في الخارج من العودة إليها، ليكمل البرغوثي بعد ذلك حياته مشتتاً بين الدول العربية والأوروبية. 

وعبّر البرغوثي عن مرارة المنع من العودة لبلاده والتهجير القسري الذي يعيشه في أحد نصوصه قائلاً: "نجحت في الحصول على شهادة تخرّجي وفشلتُ في العثور على حائط أعلِّق عليه شهادتي".

"لا غائب يعود كاملاً، لا شيء يُستعاد كما هو"

ولم يتمكن البرغوثي من العودة إلى فلسطين إلا بعد 30 عاماً من ذلك، وكتب إثر هذه الزيارة، التي لم تدم طويلاً لعدم حصوله على تصريح إسرائيلي للإقامة في فلسطين، روايته الشهيرة "رأيتُ رام الله"، التي قال فيها "لا غائب يعود كاملاً، لا شيء يُستعاد كما هو". 

وتناولت الرواية الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي عام 1997، سيرة البرغوثي الذاتية التي مثّلت رحلة العودة إلى الوطن بعد 30 عاماً من الغربة.

كما تناول البرغوثي في روايته بإسهاب، شجاعة صديقه الرسام الفلسطيني ناجي العلي، الذي اغتالته إسرائيل في لندن عام 1987.

ولد مريد البرغوثي في قرية دير غسانة شمال غرب مدينة رام الله يوم 9 تموز من العام 1944

ووصف زميله الكاتب الفلسطيني، إدوارد سعيد، هذه المذكرات بأنّها واحدة من أفضل الروايات الوجودية عن تهجير الفلسطينيين.

وفي عام 2009، صدرت لمريد البرغوثي روايته الثانية "وُلدت هناك، ولدت هنا"، التي اعتبرت امتداداً لروايته الأولى عن زيارته لفلسطين، وفيها يصف رحلة عودته مع ابنه الوحيد إلى موطنه الأم. 

وفيها كتب: "بوسعنا الآن أن نقول لأطفالنا إنّ النعاس لن يظل نصيبهم إلى الأبد، ولا إلى بعض الأبد. لكن علينا أن نعترف لهم ولأنفسنا قبلهم بأنّنا مسؤولون أيضاً. جهلنا مسؤول. قصر نظرنا التاريخي مسؤول، وكذلك صراعاتنا الداخلية، وخذلان عمقنا العربي".

وإلى جانب أعماله النثرية، صدرت للبرغوثي 12 مجموعة شعرية، أقدمها "الطوفان وإعادة التكوين" عام 1972، و"فلسطيني في الشمس" عام 1974، و"نشيد للفقر المُسلّح" عام 1976، و"سعيد القروي وحلوة النبع" عام 1978، و"قصائد الرصيف" عام ،1980، و"الأرض تنشر أسرارها" عام 1987، و"طال الشتات" عام 1987، و"عندما نلتقي" عام 1990، و"رنة الإبرة" 1993، و"منطق الكائنات" عام 1996، وزهر الرمان عام 2000، و"منتصف الليل" عام 2005.

اقرأ أيضاً: اشتهر بمحاورة كبار الشعراء.. وفاة الشاعر السعودي مستور العصيمي

وشارك مريد البرغوثي خلال حياته في عدد كبير من اللقاءات الشعرية ومعارض الكتاب الكبرى في العالم، وقدّم محاضرات عن الشعر الفلسطيني والعربي في جامعات القاهرة وفاس وأكسفورد ومانشستر وأوسلو ومدريد وغيرها، وتم اختياره رئيساً للجنة التحكيم جائزة الرواية العربية عام 2015.

وكان الراحل قد احتفى بصدور ديوانه الشعري "مملكتي من هذا العالم" باللغة الإسبانية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

الحبيب الوفي

وتصادف رحيل الأديب الفلسطيني، مع اليوم الذي يحتفل فيه عشاق العالم بـ "عيد الحب"، الحب الذي لم يكن الراحل بحاجة ليوم مُحدّد حتى يشعر به؛ فلم يخجل يوماً من قول "أحبك" لرفيقة عُمره، الكاتبة المصرية رضوى عاشور، التي غادرت قبله بنحو 7 أعوام.

الكاتبة المصرية رضوى

والتقى مريد ورضوى على سلم المكتبة المركزية، بجامعة القاهرة، حيث انتبهت رضوى لذلك الطالب الذي يُلقي الشعر، وحينها توقفت عن محاولة كتابة الشعر، عندما تأكدّت أنّ ذلك الطالب يكتب شعراً حقيقياً، تلك كانت المرة الأولى التي ترى فيها رضوى حبيبها، لكنها لم تكن الأخيرة.

ورغم معارضة أسرتها لذلك الحب، إلّا أنّ رضوى العنيدة أصرّت على حُبّه، وتمكنّا في العام 1970 من عقد قرانهما ليصبح الاثنان عائلة كما قال مُريد ذات مرة، وألحق تلك الجملة بـ "وضحكتها صارت بيتي".

ثم عادت الحدود والسياسة لتبعده عن رضوى؛ إذ اضطر لمُغادرة مصر أيضاً في العام 1977، بعد سجنه ثم ترحيله إلى المجر، بسبب انتقاده لزيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، وظل ممنوعاً من العودة لمصر لمدة 7 أعوام.

اقرأ أيضاً: وفاة الشاعر العراقي ألفريد سمعان

وفي نفس عام الترحيل وُلِدَ ابنه الوحيد "تميم" الذي أخذ من والده عفريت الشعر أيضاً.

وأنجبت رضوى "تميم" ووالده كان في المنفى، حيث اضطرت لحمل رضيعها لرؤية والده، الذي مُنع أيضاً من الإقامة مع عائلته في مصر بعد انتهاء الـ 7 أعوام وهي مدة النفي المقررة.

ليضطر الشاعر الفلسطيني الذي قاسى الشتات والبُعد عن العائلة منذ بداية حياته، لتحمّل 10 أعوام أخرى من البعد باستثناء زيارة سنوية لمدة أسبوعين فقط، كانت تسمح بها السلطات المصرية.

تلك الظروف الاستثنائية القاسية التي عانت منها الأسرة الصغيرة، والتي تأثّر بها الابن تلقائياً، ليصدح بالشعر العامي قاصاً حكاية عائلته. وفي إحدى قصائده يقول الابن: "أمي وأبويا التقوا والحر للحرة، شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد، قالولها ده أجنبي ما يجوزش بالمرة، قالت لهم من امتى كانت رام الله من بلاد برة، يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني، من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد".

في عام 2009، صدرت لمريد روايته الثانية (وُلدت هناك، ولدت هنا)، التي اعتبرت امتداداً لروايته الأولى عن زيارته لفلسطين، وفيها يصف رحلة عودته مع ابنه الوحيد إلى موطنه الأم فلسطين

تلك العائلة ظلّت صغيرة، ولم يتعدَّ عدد أفرادها الثلاث، فلم يُفكّر مريد ورضوى في إنجاب ابن ثانٍ، بسبب منعه من العودة إلى مصر طوال تلك الأعوام، وتحدث مريد حول هذا الموضوع  في إحدى الندوات قائلاً: "أصبح لدي ابن واحد فقط بسبب أنور السادات الذي طردني من مصر لـ 17 عاماً، فكان من الجنون التفكير في إنجاب طفل ثان، وأنا أعيش في بلد وزوجتي في بلد آخر، وتتحمل العديد من الأعباء ككاتبة وأستاذة جامعية وأم وناشطة سياسية".

وظلّ قلب مُريد ينبض لرضوى، التي حاربت المرض لمدة 35 عاماً، حتى قضى عليها ورم في الدماغ في العام 2014 عن عمر يناهز الـ 68 عاماً.

وبعد رحيلها، استمر مريد في إخلاصه لحبيبته رضوى، بسعيه لنشر أعمالها الأدبية التي لم تُنشر في حياتها تارة، وبكتابة قصائد في حبها تارة أخرى، حتى أنّه قال في حفل تأبين لها في جامعة "عين شمس"، حيث عملت رضوى كأستاذة طيلة حياتها الأكاديمية: "من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب. الآن أطلب من حزني أن يتّجه إلى أقرب بوابة ويغادر، هادئاً كما أشاء، أو هادراً كما يشاء".

اقرأ أيضاً: "20 قصيدة حب".. صوت الشاعر يبحث عن الريح

الجدير بالذكر أنّ الشاعر الفلسطيني الذي حمل هم شعبه طوال حياته وظل ملتصقاً ومدافعاً عن قضيته، ظل بعيداً أيضاً عن الأحزاب السياسية، ولم يتوانَ عن نقدها كلما سنحت له الفرصة، متشبثاً بالدور النقدي للمثقف، وبضرورة استقلالية الإبداع.

وفي العام 2000 حصل مريد البرغوثي على جائزة فلسطين في الشعر، وفي كلمته التي ألقاها بهذه المناسبة في قصر الثقافة برام الله، انتقد السلطة الفلسطينية وخياراتها السياسية بحضور قياداتها في القاعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية