فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية

فيلم "كتاب أخضر": صورتنا في مرآة العنصرية


03/05/2021

أحد أهم مشاهد فيلم "كتاب أخضر/ Green Book"، مشهد الذروة، أو المشهد الذي يلخص مضمون الفيلم؛ حين تتوقف سيارة العازف دون شيرلي على الطريق، ويخرج سائقه توني ليب ليتفقد المحرك، أثناء ذلك يخرج شيرلي من سيارته، وهو ينظر إلى مزارعين سود يفلحون الأرض، ويتوقف المزارعون عن العمل، وهم يتأملون بتعجّب منظراً بدا لهم غريباً؛ رجل أبيض يعمل سائقاً لرجل أسود! فيما هم يعملون لدى سيد أبيض!

اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
ما يقوله المشهد القصير بلغة الصورة: "لو لم أكن عازف بيانو مشهوراً لكنت الآن أفلح الأرض مثلكم!"، أو "يمكن لكم أن تكونوا مثلي.. لن تنالوا الخلاص من التمييز العنصري لكن يمكنكم التخلص من العبودية.."، لكنّ الأهم في المشهد هو نظرات التمييز في أعين بني جلدته هذه المرة.
الفيلم دراما وسيرة ذاتية مفعم بالعاطفة مبني على قصة حقيقية لعازف البيانو دون شيرلي

العبودية والعنصرية

"كتاب أخضر" عُرِض في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2018؛ وهو فيلم دراما وسيرة ذاتية مفعم بالعاطفة، في قالب كوميدي، وهو مبني على قصة حقيقية لعازف البيانو دون شيرلي (1927-2013) وسائقه توني ليب، ذي الأصل الإيطالي الذي له ميول عنصرية، ويحمل توقيع الأمريكي بيتر فاريلي، المشهور بأعماله الكوميدية، مثل فيلمه "غبي وأغبى" بطولة جيم كاري.

تدور الأحداث العام 1962 حول فكرة أنّ إنهاء التمييز العنصري لا يكون إلا بقرار اجتماعي إنساني

تدور أحداث فيلم "كتاب أخضر" في العام 1962، حول فكرة كيف أنه بالإمكان إنهاء العبودية بقرار سياسيّ، أما قرار إنهاء التمييز العنصري لا يمكن إلا أن يتم بقرار اجتماعي إنساني، يقوم على العِشرة والتعايش والفهم، من خلال تطور الأحداث في رحلة عمل لعازف بيانو من أصل أفريقي وسائقه الأبيض في الجنوب الأمريكي معقل التمييز العنصري في بداية الستينيات.
وهذا ما تعكسه عبارة وردت في الفيلم على لسان دون شيرلي: "العبقرية لا تكفي، تحتاج إلى الشجاعة لتغيير قلوب الناس"، وهذا ما كان يمارسه شيرلي فعلاً لا قولاً، من خلال معاملته للبيض.

يعرض الفيلم علاقة استثنائية تجمع بين البيض والسود في أوج التمييز العنصري في أمريكا
يعرض الفيلم علاقة استثنائية تجمع بين البيض والسود في أوج التمييز العنصري في أمريكا خلال فترة المطالبة بالحقوق المدنية للسود، من خلال شخصية توني ليب (فيجو مرتينسون المرشح لأفضل ممثل رئيسي العام 2008 عن فيلم وعود شرقية)، ودون شيرلي (ماهرشالا علي الفائز بالأوسكار العام 2017 عن دوره في "ضوء القمر")، يمكن للمصلحة المادية أن تقلب ميزان العلاقة بين السود والبيض، ليس بالضرورة أن تكون علاقة سيد بعبد، بقدر ما هي علاقة قائمة على التعايش، ومن خلال التعايش يمكن للمرء أن يتخلى عن كثير من القناعات التي رسختها ثقافة التمييز، وهذا ما حدث مع توني؛ عندما تغيرت معاملته للسود بعد أن عرف شيرلي عن قرب، فقد تعلّم شيرلي بعضاً من عادات توني "السيئة"، لكنّه -في المقابل- أثّر فيه وتأثر إيجابياً، وهذه هي فحوى رسائل الفيلم المضمرة.
المظهر والجوهر
لم يتعلم توني ليب من شيرلي كتابة الرسائل الجذابة لزوجته، وكيف يسيطر على عنفه فقط، بل علّمته تجربته بالقرب منه لشهرين ألّا ينظر إلى لون البشرة، كما كان يفعل من قبل؛ إنما إلى جوهر الإنسان.

اقرأ أيضاً: الفيلم الإيراني "اختفاء": الأجيال الجديدة في مواجهة الحرس القديم
في مشهد آخر يعكس تطور هذه العلاقة من المظهر إلى الجوهر؛ تقف سيارة يقودها رجل بصحبة زوجته، وهما يحدقان باستغراب واستهجان بتوني ليب، وهو يقود سيارة رجل أسود، وكردّ فعل تلقائي لتلك النظرات؛ يرفع ليب إصبع يده الأوسط باتجاه الزوجين.
يقول المشهد بلغة الصورة: "كنت قبل فترة وجيزة في موقعكم، لكنكّم لا تفهمون سوى الظاهر"، ويختزل المشهد معاناة ليب، وقد عبّر هو عنها قائلاً: "العالم مليء بأناس وحيدين لأنهم خائفون من الإقدام على الخطوة الأولى"، في إشارة إلى أنّ عزلة الناس ووحدتهم يمكن لها أن تنتهي لو تحلوا بالشجاعة، كما يتحاور هذا المشهد مع السابق ويُبرز الفارق بين شخصيتيّ شيرلي وليب.

اقرأ أيضاً: هل يدافع فيلم "الآباء والأبناء" عن التطرف؟
عبَّر ليب، بشخصيته المنفعلة والعنيفة، عن امتعاضه من نظرات الإدانة في عيون بني جلدته، بينما كبت شيرلي معاناته ولم يصرح بها إلا في نهاية الفيلم، وهذا يتفق مع ما قاله شيرلي لليب: "أنت لن تربح بالعنف، لكن بحفاظك على كرامتك"، ومن أجل الحفاظ على كرامته يتخلى شيرلي في النهاية عن إذعانه، وعن المال الذي كان مقدراً له أن يقبضه، فيرفض العزف في أحد مطاعم البيض؛ لأنّهم منعوه من تناول الطعام فيه.

تناقض المثقفين
لم يكن شيرلي يعاني من تمييز البيض فقط؛ إنما من تجاهل أبناء جلدته له، فحالة شيرلي تشبه الغراب الذي قلّد مشية الحمامة، فأصبح منبوذاً من قبل الحمَام والغربان معاً! عبّر شيرلي عن حالته هذه، وعن ازدواجية المثقفين مخاطباً توني: "البيض لا يدفعون لي لأعزف لهم البيانو إلا لأنّ هذا يجعلهم يشعرون بأنهم مثقفون، لكن بمجرد نزولي من على المسرح؛ أعود مجدداً مجرد زنجي آخر بالنسبة إليهم، هذه هي ثقافتهم الحقيقية، وأنا أعاني من هذا التجاهل وحيداً؛ لأنّني منبوذ من قبل قومي، لأنّني لست مثلهم أيضاً، إذا لم أكن أسودَ بما فيه الكفاية، أو أبيضَ بما فيه الكفاية، فأخبرني يا توني من أكون!".

الفيلم يختتم بمشهد يدعو للتفاؤل من خلال استمرار العلاقة بين ليب وشيرلي بعد انتهاء مدة العمل المقررة

يلمح الفيلم أيضاً إلى التناقض الذي ما يزال يُمارسه الناس حول العالم تجاه "غيرهم" حتى اليوم ربما بلا وعي! فهم لا يمكنهم الاستغناء عن الحلاقين والجزارين والخدم..، لكنّهم يقللون من قيمة العاملين في هذه الوظائف! الفارق الوحيد هو عدم التصريح أو تخصيص أماكن لأصحاب هذه الوظائف مكتوب عليها عبارات شاعت زمن التمييز العنصري في أمريكا: "ممنوع دخول السود والكلاب"!، أو "لا يُسمح بدخول المدينة ليلاً سوى للبيض"!
لكنّ الفيلم يختتم بمشهد يدعو للتفاؤل من خلال استمرار العلاقة بين توني ليب وشيرلي بعد انتهاء مدة العمل المقررة، في إشارة إلى أنّ ما يجمع بينهما الآن لم يعد له علاقة بالمصلحة المادية، التي أجبرت ليب على العمل كسائق لدى عازف أسود؛ إنّما هي علاقة إنسانية تخلصت من سطحية المظهر، ونفذت إلى الجوهر الإنساني المشترك.

اقرأ أيضاً: فيلم "تراب الماس".. حين يكون القتل أثراً جانبياً
يذكر أن فيلم "كتاب أخضر" فاز مؤخراً بجائزة رابطة المنتجين لأفضل فيلم لعام 2018، الأمر الذي يعزز فرصه بجوائز أكاديمية فنون وعلوم السينما (الأوسكار) التي رُشح لخمس جوائز منها، وهي: أفضل فيلم، أفضل ممثل (فيجو مرتينسون)، أفضل ممثل مساعد (ماهرشالا علي)، أفضل مونتاج، وأفضل سيناريو أصلي.
وفي الأعوام الأخيرة غالباً ما كان يحصد الفيلم الحائز على جائزة رابطة المنتجين جائزة أوسكار أفضل فيلم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية