قصة الدين والمدينة

قصة الدين والمدينة


07/05/2022

يقول المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس (59 ق.م ـ 17م) عن روما: ليس في هذه البلدة مكان لم يتشبع بالدين ولا يشعله معبود ما... الآلهة يسكنونها. ويقول فوستيل دي كولانج (المدينة العتيقة): هناك حقيقتان مهمّتان في تأمل الشعوب؛ الأولى أنّ المدينة كانت حلفاً من مجموعات تكوّنت قبلها، والأخرى أنّ المجتمع لم يتطور إلا متدرجاً مع اتساع المدينة، وليس في الاستطاعة البتّ فيما إذا كان التقدّم الديني هو الذي جلب التقدم الاجتماعي، إنّما المحقق هو أنّ الاثنين قد حدثا في وقت واحد وفي اتفاق عجيب. وإذا تأملنا جيش المدينة في العصور الأولى، وجدنا أنّه كان موزّعاً على قبائل وندوات وأسر، "بحيث يكون جار المحارب في القتال هو الشخص ذاته الذي يريق معه السوائل في زمن السلم، ويقدّم القرابين على المذبح نفسه".

لم يكن لفظا مدينة وبلدة مترادفين عند القدماء، فالمدينة كانت تجمّعاً دينياً وسياسياً بين الأسر والقبائل. وكانت البلدة مكان الاجتماع ومقرّ الجماعة وخاصة مكانها المقدّس. وتصلح روما كما يقول كولانج مثالاً لقصة المدينة، بالرغم ممّا هو مألوف من عدم تصديق هذا التاريخ القديم.

لم يكن لفظا مدينة وبلدة مترادفين عند القدماء، فالمدينة كانت تجمّعاً دينياً وسياسياً بين الأسر والقبائل. وكانت البلدة مكان الاجتماع ومقرّ الجماعة وخاصة مكانها المقدّس

كثيراً ما رددوا أنّ رومولوس كان رئيساً لعصابة من المغامرين، وأنّه كوّن لنفسه شعباً باستدعائه الصعاليك واللصوص إليه، وأنّ جميع هؤلاء الناس الذين جمعهم من غير اختبار بنوا مصادفة بضعة أكواخ ليحفظوا فيها غنيمتهم. ولكن رأينا في تاريخ روما وتأسيسها الديانة التي تنظّم حياة الناس الخاصة وكلّ أعمالهم، وهذه الديانة نظمتهم في مجتمع، فأيّ عجب بعد هذا في أن يكون تأسيس بلدة ما عملاً مقدّساً كذلك، وأن يقوم رومولوس نفسه بهذه الشعائر التي كانت تراعى في كلّ مكان؟.

كثيراً ما كان يحدث أن تستقر جالية أو غزاة في بلدة مبنية من قبل، فلم يكن عليهم أن يبنوا بيوتاً؛ إذ ما من شيء يحول دون سكناهم بيوت المغلوبين، لكن كان عليهم أن يقوموا باحتفال التأسيس؛ أي أن يضعوا موقدهم هم، وأن يثبتوا آلهتهم القوميين في مقرّهم الجديد، ولهذا نقرأ في ثوقيديديس وفي هيرودوت أنّ الدوريين أسسوا إسبارطة، وأنّ اليونانيين أسسوا مليتوس، مع أنّ هذين الشعبين وجدا هاتين البلدتين كاملتي البناء وقديمتين جداً في ذلك الحين.  

 كان لكلّ مدينة هيئة كهنتها التي لا تتبع أيّ سلطة أجنبية، فلم تكن هناك رابطة بين كهنة مدينتين، ولا صلة ولا تبادل في التعليم أو الشعائر

ما قاله تيتوس ليفيوس عن روما: "ليس في هذه البلدة مكان لم يتشبّع بالدين ولا يشعله معبود ما... الآلهة يسكنونها"، يستطيع كلّ إنسان أن يقوله عن بلدته؛ لأنّها إذا كانت قد أسست طبقاً للشعائر، فإنّها تكون قد تلقت بداخل سورها آلهة حماة كما لو كانوا قد غرسوا في أرضها ولن يفارقوها أبداً. كلّ بلدة كانت مقدّسة، المؤسس هو الرجل الذي يقوم بالعملية الدينية التي بدونها لا يمكن أن توجد البلدة، فهو الذي يضع الموقد الذي توقد فيه النار المقدّسة إلى الأبد، وهو الذي يدعو الآلهة بدعواته وشعائره، ويثبتها في البلدة الجديدة إلى الأبد. وما من شيء كان عالقاً بقلب المدينة بقدر ما كانت ذكرى تأسيسها. عندما زار بوسانياس بلاد الإغريق في القرن الثاني من الميلاد المسيحي استطاعت كلّ بلدة أن تحدثه عن اسم مؤسسها ونسبه وأهمّ الأحداث في حياته، ولم يكن من المستطاع أن يخرج هذا الاسم وهذه الأحداث من الذاكرة؛ إذ إنّها كانت جزءاً من الدين، وكانت تستعاد ذكراها في الاحتفالات المقدّسة كلّ عام.  

كان لكلّ مدينة آلهة لا ينتمون إلّا إليها، وفي العادة كانت هذه الآلهة تنتمي إلى آلهة وديانات الأسر الأولى، لقد كان الإنسان يعبد أوّلاً القوة الخفية الخالدة التي يحسّ بها في نفسه، هؤلاء الجن والأبطال هم في أغلب الأحوال أسلاف الشعب، وكان يدفن الجسد إمّا في البلدة نفسها، وإمّا في الأرض المحيطة بها. وكان يصبح إلهاً للمدينة كلّ رجل أدى لها خدمة جليلة، من مؤسسها إلى من أحرز لها نصراً أو أدخل تحسيناً على قوانينها، أو أثر في معاصريه تأثيراً قوياً. وكان لكلّ مدينة هيئة كهنتها التي لا تتبع أيّ سلطة أجنبية، فلم تكن هناك رابطة بين كهنة مدينتين، ولا صلة ولا تبادل في التعليم أو الشعائر. 

 كان الخروج في أيّ شيء عن العادة التي اتبعها الأسلاف يُعدّ كفراً خطيراً تؤاخذ به المدينة أمام الآلهة

وكان الطعام يبدأ بالدعاء وإراقة السوائل وإنشاد الأناشيد، وكان كتاب الشعائر في كلّ مدينة ينصّ على الأطعمة والخمور التي يجب تقديمها، وكان الخروج في أيّ شيء عن العادة التي اتبعها الأسلاف يُعدّ كفراً خطيراً تؤاخذ به المدينة أمام الآلهة، بل كانت الديانة تذهب إلى حدّ تعيين طبيعة الأواني التي يجب استعمالها، سواء لطهي الأطعمة أو لخدمة المائدة. 

في ملحمة إنييد لم يستقبل لاتينوس الشيخ رسل إينياس في مسكنه، بل في معبد قدّسته ديانة الأسلاف، فهناك كانت تقام الولائم المقدّسة بعد تقديم الأضاحي، وهناك كان يجلس كلّ رؤساء الأسر معاً إلى موائد طويلة، وفيما بعد عندما وصل إينياس عند إيفاندروس وجده يحتفل بقربان الملك في وسط شعبه، والجميع متوجون بالزهور، وكلهم جلوس إلى المائدة نفسها، يتغنون بنشيد في مدح إله المدينة. 

وفي كلّ زمان وفي كلّ مجتمع أراد الإنسان أن يكرم آلهته بالأعياد، فقرر أن تكون هناك أيام لا تسود روحه فيها غير العاطفة الدينية، دون أن تشغل باله الأفكار والأعمال الدنيوية، فجعل للآلهة نصيباً في تلك الأيام التي قدر له أن يحياها. 

وتأسست كلّ مدينة بمقتضى شعائر كان أثرها في رأي القدماء أنّها تثبت الآلهة القوميين في نطاقها. وكان لا بدّ من تجديد فضائل هذه الشعائر كلّ عام باحتفال ديني جديد، وكانوا يسمّون هذا العيد يوم المولد، وعلى جميع المواطنين أن يحتفلوا به. كان كلّ ما هو مقدّس مصدراً لعيد، فكان هناك عيد لسور المدينة، وعيد لحدود المنطقة. وفي تلك الأيام كان المواطنون يؤلفون موكباً كبيراً مرتدين الأردية البيضاء، متوجين بأوراق الشجر، يطوفون حول البلدة أو المنطقة وهم يتلون الأدعية، وفي المقدمة يسير الكهنة يقودون الأضحية التي كان يُضحى بها في نهاية الاحتفال. وكانت هناك أيضاً أعياد الحقول، وعيد الحرث وعيد البذر وعيد الإزهار وعيد قطف العنب، وكان كلّ عمل في حياة الزارع في بلاد الإغريق وإيطاليا ينظم بأعياد يشرب فيها الخمر الجديد، كانت الديانة تنظم كلّ شيء، والديانة هي التي تأمر بتشذيب الكروم لأنّها كانت تقول للناس: إنّها لخطيئة أن تريقوا للآلهة خمر كرمة لم تُشذب. وكان لهذه الأعياد يوم محدد في السنة، يُحرم فيه العمل، ويفرض الفرح والمرح والجهر بالغناء والألعاب، وتضيف الديانة: حاذروا أن يؤذي بعضكم بعضاً.

مواضيع ذات صلة:

-التراث كمسرح لرغبات الحاضر: البحث عن عقلانية "إسلامية"

-الدين والتنظيم الاجتماعي للأمم



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية