كيف يمكن للدين أن يؤثر بقوة في المجال العام؟

كيف يمكن للدين أن يؤثر بقوة في المجال العام؟


30/10/2018

يقدم كتاب "قوة الدين في المجال العام" أفكاراً ونقاشات بين مجموعة مفكرين مهمين في الفلسفة والاجتماع، وهم: يورغن هابرماس، وجوديت بتلر، وكورنيل ويست، وتشارلز تيلور، وأدوارد منديتا، وجوناثان فانتويرين، وكريغ كالون.

ويمكن الحصول على مقارباتٍ مناسبة ومختلفة في تصور تأثير الدين في الفضاء العام وعلى النحو الذي يقبل فيه المتدينون وغير المتدينين ويفيد ويطور الجدل العام، بما يجب أن يكون عمليات مستمرة وحيوية؛ إذ بغير هذا الجدل لن ننشئ النموذج المناسب في تنظيم الدول والمجتمعات والأسواق والعلاقات والتصورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

هناك طيف واسع من الأفكار والتصورات حول الدين في المجال العام لا تنتمي إلى "التديين" بمعنى الولاية الدينية على الحياة العامة أو المرجعية الدينية في الشأن الجماعي بما هو ينظم الجماعات والمؤسسات، ولا تنتمي أيضاً إلى الفصل القطعي بين الدين والدولة كما في النموذج الفرنسي، وربما تكون هذه التجارب هي ما نحتاج إليه في عالم العرب والمسلمين أكثر من الانشغال بالنموذجين الأكثر شهرة وتداولاً في عالمنا؛ أقصد النموذج الديني أو "اللائكي".

اقرأ أيضاً: فضاء بلا سلطة.. هل يمكنه مواجهة التطرف؟

غلاف كتاب "قوة الدين في المجال العام"

وفي سلسلة "تحديث الفكر الديني" التي يشرف عليها عبدالجبار الرفاعي ترجمت ونشرت مجموعة من الدراسات والمعالجات الفكرية الرائدة في الإنتاج الفكري العربي، وأظن أنه حان الأوان للاهتمام العميق بمثل هذه الدراسات لعلها تساعدنا على بناء تصوّر فكري عربي في الشأن العام، أو على الأقل تخرج الجدل من الثنائية المملة وغير المفيدة في شيء!

إن الدين يمثل واحداً من أكثر مصادر الاهتمام والقلق في التفكير والتخطيط في الفضاء والجدل العام

إن الدين يمثل واحداً من أكثر مصادر الاهتمام والقلق في التفكير والتخطيط في الفضاء والجدل العام؛ إذ كان على مدى التاريخ والجغرافيا وفي كل الأديان يشغل الطبقات الاجتماعية والمحافل العامة والمفكرين والمثقفين كما محدودي التعليم والثقافة، وهو موضوع يزداد أهمية مع التطور الكبير في وسائل الإعلام والتواصل.

وقد شمل الجدل حول الدين في الفضاء العام السياسة والمؤسسات والنظام الاجتماعي والأخلاقي والعلوم الطبيعية والبحتة، وعلاقة الدين بالسياسة، وهي جدالات طويلة وقديمة، يؤسس لها في العصر الحديث بالثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر.

ورغم الأمثلة الإيجابية الكثيرة عن دور الدين في الفضاء العام في العدالة وحقوق الإنسان والتعليم والحريات، ظل السؤال عن الدين في المجال العام مهماً وملحاً، ويدعو الكثيرون إلى أن يبقى الدين داخل المجال الخاص، رغم الإقرار بأثره الفعال والمحفز والأخلاقي في تشكيل الضمائر الفردية. لكن هناك دعوات، في المقابل، للاعتراف بدور الدين في المجال العام حتى في أوروبا التي تدهورت فيها الممارسة الدينية، ظلت قضية الدين الشعبي فيها حاضرة بقوة.

اقرأ أيضاً: ثغرات المتطرفين في جدار المعتدلين

يقول ولتر روشنبوش (كتاب المسيحية والأزمة الاجتماعية، نشر عام 1907) "كل من يفك الارتباط بين الحياة الدينية والاجتماعية لم يفهم المسيح. وكل من يقيد تأثير القوة التعميرية للحياة الدينية على العلاقات الاجتماعية ومؤسسات الإنسان، فإنه بقدر تعلق الأمر بهذا الجانب ينكر عقيدة السيد المسيح".

هابرماس: إنّ العقل فاعل في التقاليد الدينية كما هو في أي مشروع ثقافي آخر

ويعتقد هابرماس أنّ المجال العام في المجتمع الديمقراطي يجب أن يكون مفتوحاً أمام الجميع، ويجب احتواء المواطنين المتدينين كمسألة تقع في صلب العدالة وكحاجة عملية عاجلة في آنٍ واحد. إذ يتعرض للخطر مستقبل نظام الحكم الديمقراطي إن أخفقنا في دمجهم في مشاغل العقل العام.

ويمثل العثور على طرق يدمج بها الدين في المجال العام كما يعتقد هابرماس تحدياً حيوياً يواجه المجتمع المعاصر، ونظريات المجتمع المعاصر أيضاً.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي أم العلمانية.. أين يكمن الخطر الحقيقي؟

ويقترح تشارلز تيلر أن الدين يجب ألا يعامل بوصفه حالة خاصة، سواءً بالنسبة للخطاب السياسي أم العقل والجدل بعامة، لكن هابرماس يرد بالقول: إنّ العقل فاعل في التقاليد الدينية كما هو في أي مشروع ثقافي آخر، بما في ذلك العلم، لكن أيضا تنتمي العقول العلمانية إلى سياق من الافتراض يختلف عن التقليد الديني، فليس شرطاً أن يكون عضواً في جماعة من المؤمنين، إذ في العقل الديني تحتكم ضمنياً لعضوية في جماعة دينية، ولذلك فإن الدليل على صحة العقول الدينية لا يعتمد على العقائد الإدراكية وارتباطاتها الدلالية مع بقية العقائد فحسب، ولكن على العقائد الوجودية المتجذرة في البُعد الاجتماعي للعضوية والمشاركة الاجتماعية والممارسات المفروضة.

يمثل العثور على طرق يدمج بها الدين في المجال العام كما يعتقد هابرماس تحدياً حيوياً يواجه المجتمع المعاصر

إننا نتحرك في فضاء التعقل الفلسفي والتاريخي والاجتماعي، لا يحتاج خطابنا إلى ترجمة، ولكن الكلام الديني في المجال السياسي العام يحتاج إلى ترجمة إن شئنا لمحتواه أن يدخل ويؤثر في تبرير وصياغة قراراتٍ سياسية ملزمة يتم فرضها بقوة القانون في البرلمانات والمحاكم أو الهيئات الإدارية؛ يجب تفسير أية إحالة إلى سفر التكوين بصيغ علمانية.

وفي المقابل فإن تيلر يؤكد أنه يوافق على أن ثمة اختلافات كبيرة بين تعقل شخص ورع بخصوص الأخلاق العامة وتعقل من ليس كذلك، هناك مفاهيم معينة عن التحولات الإنسانية الممكنة يؤمن بها أحدهما دون الآخر. تلك هي الحالة بالتأكيد.

لا بد للعقول، كما يقول هابرماس، أن تكون علمانية بالمعنى غير المسيحي للعلمنة، غير المسيحي بمعنى منظور أكثر شمولاً من خلال التعالي على فضاء الخطاب الخاص بالجماعات المختلفة.

إنّ الليبرالية السياسية بحاجة إلى استبصارات أخلاقية والتزامات جديدة، وهي تعترف بالدين بوصفه مصدراً ممكناً للتجديد، وفي الوقت نفسه يجب ألا يتخذ مثل هذا التجديد شكل لجوء مباشر للعقائد الدينية أو رؤى العالم الشمولية بطرق تغلق الجدل العام.

اقرأ أيضاً: ما مصير المؤسسات الدينية مستقبلاً؟

والمجال العام عالم من الجدل العقلاني النقدي تخضع فيه الأمور المتعلقة بالخير العام للنظر، وهو أيضاً فضاء تشكيل ثقافي لا يكون الجدل الممارسة المهمة الوحيدة فيه، هنالك أيضاً الإبداع والطقس، والاحتفاء والاعتراف، وكلها مهمة، وهو يحتوي التعبير الناطق المتبادل بين الحساسيات العميقة وحالات الفهم الواضحة ويحتوى المحاولة التي تستعين أحياناً بنداءات بنوية طلباً للفت الانتباه لجعل الطريقة التي نفكر بها ونمارس الفعل مستجيبة لأعمق قيمنا والتزاماتنا الأخلاقية.

 

الصفحة الرئيسية