لاعب كرة قدم في سجن تركي يدعى ناظم حكمت

لاعب كرة قدم في سجن تركي يدعى ناظم حكمت


08/03/2020

في أحد الأيام في سجن بورصة التركي، وتحديداً في العنبر 52؛ يستيقظ الشاعر التركي، ناظم حكمت، من نومه عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ويقول لصديقه راشد (الروائي أروهان كمال) الذي يشاركه العنبر نفسه: "هل من الممكن أن تعطيني قلمك؟"، وبعد أن يعطيه راشد قلمه، يكتب ناظم حكمت على الحائط المجاور لرأسه: "فوق الموجة الأكثر وحدة.. علبة معلّبات فارغة".

لعلّ يوميات أورهان كمال عن ناظم حكمت تكاد تشبه إلى حدّ ما، شعر ناظم البعيد عن الزخرفة اللغوية

هذا المشهد الشاعري من داخل زنزانة سجن بورصة التركي، جزء من يوميات وذكريات الروائي التركي، أورهان كمال، عن الفترة التي تعرّف فيها عن قرب إلى الشاعر التركي، ناظم حكمت، والتي وثقها في كتابه "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت في سجن بورصة ومراسلاتهما التي تلتها"، والصادر حديثاً باللغة العربية عن دار المتوسط – إيطاليا، ترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير.
من المعروف عن الشاعر ناظم حكمت أنّه كان معارضاً لنظام مصطفى كمال أتاتورك، رغم أنّه قبل ذلك كان معارضاً للإقطاعية التركية، ومشاركاً لحركة أتاتورك التجديدية، وبسبب معارضته لأتاتورك ونظامه قضى في السجون التركية ثلاثة عشر عاماً، بعد ذلك غادر إلى الاتحاد السوفيتي، ومات في موسكو عام 1963، عن عمر يناهز 61 عاماً.

غلاف الكتاب

جوانب شخصية وحميمية
إلا أنّ كتاب أورهان كمال يكشف لنا جوانب شخصية وحميمية في حياة الشاعر ناظم حكمت، عايشها الأول عن قرب في الفترة التي قضاها معه في سجن بورصة التركي، وبقدر ما تكشف هذه اليوميات ثقافة ناظم حكمت بالغة الثراء، وآراءه الشخصية في الشعر والأدب، وحتى تجربته في الرسم، إلا أنّها تكشف أيضاً شخصية ناظم حكمت الإنسان، ومواقفه الإنسانية والأخلاقية، وشخصيته المرحة التي تحتفي بالحياة رغم قسوتها في السجن، وامتلاكه لحسّ ساخر يزيد من سحر شخصيته المتفردة.

اقرأ أيضاً: الأتراك يعثرون على مذكرات ناظم حكمت في السجن
ولعلّ حبّ أورهان كمال لناظم حكمت هو ما أوصله لسجن بورصة التركي، وهذا ما يشير إليه المترجمان في بداية مقدمة الكتاب: "أثناء تأدية الرّوائيّ التُّركيِّ أورهان كمال الخدمة العسكرية، وتحديداً في عام 1938، تمَّ القبض عليه بسبب نشاطه السِّياسيِّ، والعثور على أحد دواوين الشَّاعر ناظم حكمت المحظورة حينها في حقيبته، وحُكم عليه بالسّجن خمس سنواتٍ".
عام 1940؛ سيلتقي أورهان كمال بناظم حكمت في سجن بورصة، ومنذ ذلك اللقاء؛ سيكون ناظم حكمت المعلم الأول لأورهان كمال، بحسب تعبيره؛ إذ سيقرأ ناظم حكمت مقدمة رواية كتبها أورهان كمال، والذي كان يكتب الشعر وقتها، وسينصحه بأن يترك كتابة الشعر، وبعد إعجاب ناظم حكمت في مقدمة الرواية يقول لأورهان كمال:" لماذا لم تحدثني عنها، يا أخي؟ أكتبْ نثراً، نثراً!".

اقرأ أيضاً: هل يُسجن صحفيان لنشرهما مقالاً عن الاقتصاد التركي؟
لا يكتفي أورهان كمال في تعلم أيّ شيء يخصّ الكتابة والأدب من معلمه ناظم حكمت، والأخير أخذ على عاتقه هذه المهمة منذ البداية. يقول ناظم: "أريد أن أعتني بكَ ... يعني بثقافتكَ ... أوّلاً بالفرنسية، بعد ذلك نعقد دروساً بشكل منتظم حول بقية موضوعات الثقافة، فهل تتحمّل ذلك؟" إنما تتحرك عين أورهان كمال كعدسة الكاميرا التي تريد أن توثق كلّ حركات وسكنات ناظم حكمت، وكلّ انفعالاته؛ فرحه.. حزنه.. شروده.
الروائي التركي أورهان كمال

مواقف طريفة
من المواقف الطريفة التي يحكيها أورهان كمال عن ناظم حكمت؛ مشاركة ناظم حكمت باقي السجناء في مباراة لكرة القدم داخل السجن، فيقول: "... دخل بيننا شاعر طويل القامة، شَعْره أصفر ومجعّد، أربعيني، عيناه زرقاوان... كان يلعب في أصعب مكان بالفريق: خطّ الوسط! (...) ولأنّ ناظم لم يكن "أسطى" هنا مثلما كان في الشِّعر، أو لأنّ نَفَسَهُ لم يكن طويلاً، واتّكاءً على هذا، كنّا نخترق دفاعه بسهولة، ونصيبه بالجنون".
يوثق أورهان كمال في يومياته أيضاً الانقسامات السياسية التي كانت تحصل بين السجناء أثناء الحرب العالمية الثانية، الذين كانوا يتابعون أخبار الحرب عبر الراديو في السجن، فالراديو كان صلتهم الوحيدة بالعالم.

اقرأ أيضاً: تركيا أكبر سجن للصحفيين.. تقرير دولي جديد
وما بين سجناء يريدون الانتصار لألمانيا وحلفائها، وآخرين يريدون للاتحاد السوفييتي وحلفائه الانتصار في الحرب، كانت حكاية السجين الذي يدعى "جمل" والذي ينتظر انتصار ألمانيا النازية، من الحكايات اللافتة في يوميات أورهان عن تلك الفترة "على الحائط المجاور لرأسه، علّق جمل خريطة تفصيلية للاتّحاد السّوفييتيّ، وخطّ بالقلم الأحمر ثلاثة أسهم سميكة للجيوش الألمانية المهاجمة للسوفييت. كان السهم يمتّد كلّ يوم أكثر فأكثر، ومع محاولات بوبي نيازي ونجاتي، وصل أحد السهام مثلاً إلى "طولا"، وحاصر موسكو"، ليضيف أورهان كمال هنا تعليق ناظم حكمت الساخر حين يسأل المدعو "جمل": "حسناً يا حضرة جناب جمل، يوماً ما إذا صار العكس، وأصبحتَ مضطراً لمتابعة الوضع، ولكنْ، داخل ألمانيا؟".
صورة للشاعر ناظم حكمت ومعه الروائي أورهان كمال وباقي أصدقائهم في السجن

علاقة ناظم حكمت بالرسم
أما عن علاقة ناظم حكمت بالرسم، فيحكي أورهان كمال عن اهتمام ناظم في رسم البورتريهات الشخصية للمساجين، وتحديداً المساجين الفقراء الذي ينتمون للطبقة العاملة، هذا عدا إنصاته لحكاياتهم، هذه الحكايات التي سيستفيد منها ناظم في تأليف كتابه "مناظر إنسانية من بلادي"، إضافة إلى حرص ناظم حكمت على إلقاء شعره أمامه المساجين البسطاء والفقراء، ويهتم لآرائهم في شعره.

يحكي أورهان كمال عن اهتمام ناظم في رسم البورتريهات الشخصية للمساجين، وتحديداً الفقراء الذي ينتمون للطبقة العاملة

يقول أورهان: "بالنسبة إلى ناظم حكمت، كان رأي الشعب في شعره هو الأهمّ. كان يقول: "ينبغي أن يفهم الناس الشِّعر، ويصبح شِعْراً لهم!"، ومن أجل ذلك، قرأ كتابه عدّة مرّات لأشخاص من طبقات مختلفة في السجن، وحذف الأشياء التي لا يفهمونها، وكتب بدلاً منها أشياء واضحة بلا زخرفة لغوية".
ولعلّ يوميات أورهان كمال عن ناظم، تكاد تشبه إلى حدّ ما، شعر ناظم البعيد عن الزخرفة اللغوية؛ كتابة نثرية فيها الرهافة الشعرية وحسّ السخرية، تحتفي بحياة شاعر عظيم، دون أن تقدسه.
يعلق أورهان نفسه على إعجابه الشديد بناظم بقوله: "إنني لا أقول هذه الأشياء مجاملة له، بالعكس تماماً، أنا أكتب هذا على الرغم من صعوبته على نفسي، لأنّ علاقتنا ليست علاقة الأستاذ بتلميذه فقط؛ فأنا أتشاجر معه أحياناً ونتراشق بالكلام في أحيان أخرى، ونتخاصم لأيام ...".
وخيراً فعل أورهان كمال حين سمع نصيحة ناظم حكمت وانتقل من كتابة الشعر إلى كتابة النثر؛ إذ إنّ، بحسب ما ذكر المترجمان في المقدمة، أول ما فعله أورهان كمال فور إطلاق سراحه، عام 1943، هو تدوين هذا الكتاب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية