لماذا اختفت دواوين القبائل العربية الثمانون؟

لماذا اختفت دواوين القبائل العربية الثمانون؟


23/12/2021

مع ضرورة النظر بعين الاعتبار الشديد إلى غزارة جهود المستشرق الأشهر جولدتسهير (1850-1921) وتنوّعها وخطورتها البالغة، وقبل أن نتصدّى لتحليل مقالته الذائعة (تعليقات على دواوين القبائل العربية)، فإنّ من المفيد الإشارة إلى حقيقة ارتحاله إلى سوريا وفلسطين ومصر في شبابه المبكّر، وتتلمذه على يدي الشيخ طاهر الجزائري رائد الإصلاح في سوريا وتأثره الشديد به إلى درجة قيامه بترجمة أحد كتبه، فضلاً عن مواظبته على حضور دروس بعض مشايخ الأزهر الإصلاحيين وارتباطه بصداقة وطيدة مع الشيخ محمد عبده، ومحافظته على وجهات نظره الإشكالية بخصوص الإسلام والقرآن الكريم والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبوجه خاص وجهات نظره الإشكالية في الحديث النبوي الشريف، التي جعلت منه هدفاً رئيساً لعلماء الحديث الذين رأوا فيه عدواً لدوداً للأمة الإسلامية، وبغض النظر عن كل الجهود التي بذلها على صعيد دراسة المذهب الظاهري أو الفكر الاعتزالي أو تحليل رسائل إخوان الصفاء.

ولأن الحديث سيطول كثيراً عن الإشكاليات التي أطلقتها دراسات جولدتسهير على صعيد الفقه الإسلامي والحديث النبوي، فسوف نقتصر في هذا المقال على مناقشة تعليقاته بخصوص مأساة اختفاء دواوين القبائل العربية التي يُعتقد بأنها قد تجاوزت ثمانين ديواناً وسر بقاء الجزء الأكبر من ديوان قبيلة هذيل. وحرصاً منا على توخّي الدقّة التامة في هذه المناقشة، فسوف نعمد إلى إيجاز وتكثيف ملاحظاتنا واستدراكاتنا في نقاط محدّدة وقابلة للقياس، منعاً لأي شكل من أشكال الاستطراد الإنشائي.

نتفق مع جولدتسهير جزئياً، على أنّ التصاعد في مركزية الدولة العباسية قد أدى بصورة مباشرة وغير مباشرة، إلى التصدي لروح العصبية القبلية التي كانت دواوين القبائل تمثل أبرز مناجمها الساخنة

 

أولاً: أولى جولدتسهير مسألة التوثيق من المصادر العربية القديمة، وخاصة كتاب الأغاني للأصفهاني، عناية كبيرة جداً، إلى درجة تصل حدود المبالغة أحياناً، وكأنه يحدس بأنّ هناك من سيطالبه بإسناد وجهات نظره.

ثانياً: كل ما أورده جولدتسهير في مقاله من تحفّظات واستدراكات وتحرّزات، سبق لابن سلام الجمحي وابن قتيبة أن أورداه قبل قرون طويلة، ما يدفعنا إلى أن نسأل: لماذا نحتمل من علمائنا القدامى ما لا نحتمله من المستشرقين؟!

إقرأ أيضاً: ثقافة الحداد عند الشعوب

ثالثاً: نتفق مع جولدتسهير على أنّ دواوين القبائل العربية (وعددها 81 ديواناً) التي اضطلع بجمعها أبو عمرو الشيباني (ت 210هـ) قد وُجدت وظلّت متداولة لحقبة طويلة جداً.

رابعاً: نتفق مع جولدتسهير جزئياً، على أنّ التصاعد في مركزية الدولة العباسية قد أدى بصورة مباشرة وغير مباشرة، إلى التصدي لروح العصبية القبلية التي كانت دواوين القبائل تمثل أبرز مناجمها الساخنة. ولا ريب في أنّ المشروع السياسي والثقافي للدولة العباسية، قد مال إلى إذكاء روح المواطنة والمساواة في ظل الدولة العربية الإسلامية الجامعة، مقابل روح العصبية القبلية التي أذكتها الدولة الأموية ودفعت بسببها ثمناً باهظاً جداً. ولا نستغرب – بناء على ذلك- احتفاء الذائقة الجمعية في العصر العباسي بالنموذج الشعري الذي مثّله أبو تمام في كتابه (الحماسة الكبرى) من حيث الاتجاه إلى المختارات والمقطّعات المختارة على أساس جمالي خالص، مقارنة بالنموذج الشعري الذي مثّله الضبّي والأصمعي في (المفضّليات) و(الأصمعيات) التي احتفت بالروح البدوية الخالصة.

المشروع السياسي والثقافي للدولة العباسية، قد مال إلى إذكاء روح المواطنة والمساواة في ظل الدولة العربية الإسلامية الجامعة، مقابل روح العصبية القبلية التي أذكتها الدولة الأموية ودفعت بسببها ثمناً باهظاً جداً

خامساً: الجودة الشعرية المتوافرة في ما تبقى من ديوان شعر الهذليين كما يرى جولدتسهير، لا تكفي من وجهة نظرنا لتبرير نجاة الديوان من الضياع. وعليه فإننا نقترح الأسباب التالية:

‌أ-   ضخامة عدد أفراد هذه القبيلة.

‌ب-  رغم أنّ قبيلة هذيل هي من جمرات العرب في الحرب والسلم، قبل الإسلام وبعد الإسلام، إلا أنها لم تطلب ملكاً ولم تفصح عن طموحات سياسية، مثل بعض القبائل العربية الأخرى (تغلب، كندة، أسد... إلخ).

إقرأ أيضاً: أثر الفلسفة في تجديد الفكر الديني

‌ج-     التداخل الشديد في النسب والسكن بين هذه القبيلة وبين قبيلة قريش في مكة المكرّمة.

‌د- كثرة عدد الشعراء المتحدّرين من هذه القبيلة.

‌ه-  تواصل الرّواة في قبيلة هذيل حتى يومنا هذا.

‌و- ما تبقى من ديوان هذيل، يتسم بالتركيز على الحكمة والرثاء والوصف والفخر المعتدل، ولعل قصائد أبي ذؤيب الهذلي تمثّل أفضل صورة لشعر الهذليين.

وإن كانت هذه الأسباب مجتمعة يمكن أن تفسر لنا سر بقاء ديوان شعر الهذليين، فإنّ الاكتفاء بالإشارة إلى توجّهات الدولة العباسية المناوئة للعصبية الجاهلية من جهة والتنويه بتنامي الذوق المديني الجمالي من جهة ثانية، لا يكفي بالتأكيد لتفسير اختفاء ثمانين ديواناً شعرياً تمثل سجلات تاريخية وأدبية لثمانين قبيلة عربية، ذهبت أخبار وقائعها وأبطالها ومآثرها وشعرائها أدراج الريّاح!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية