لماذا يختفي الإيغور من شوارع إسطنبول؟

لماذا يختفي الإيغور من شوارع إسطنبول؟


17/02/2021

ترجمة وتحرير : محمد الدخاخني

في مطعمٍ أويغوريٍّ مشهورٍ، في منطقة زيتين بورنو الصّاخبة، في إسطنبول، يُقدّم كريم، وهو شابّ من أورومتشي، أطباقاً ممتلئةً بالكباب و"نودلز الّلاغمان" وأرز البيلاف، ويُشير إلى لافتةٍ في خزانة بيت النّودلز التّقليديّ هذا، مكتوبٌ عليها، بالصّينيّة والإنجليزيّة والتّركيّة: "ممنوع دخول الصينيّين"، لقد وضع أصحاب المتاجر الّلافتة بعد أن دخل العديد من الأشخاص المجهولين بشكلٍ متكررٍ لمراقبتهم والتقاط صورٍ لهم وتخويفهم.

يقول: "يستمرّ النّاس في الاختفاء هنا، ولذا لا يمكننا الاسترخاء".

الآن، على بعد آلاف الأميال من المراقبة الخانقة ومئات معسكرات الاعتقال الوحشيّة في غرب الصّين، يحاول أكبر مجتمع للإيغور في الشّتات في العالم إعادة تصوّر قطعة صغيرة من الوطن في إسطنبول، وقد دفعت حملة "إضفاء الطّابع الصّينيّ" الحثيثة في مقاطعة شينغ يانغ كثيرين إلى البحث عن ملاذٍ هنا بعد فرارهم من المنطقة، لكن ما يزال لدى معظمهم أفراد من عائلاتهم وأصدقائهم في الوطن.

اقرأ أيضاً: كيف ستواجه أمريكا الصين في قضية الإيغور؟

وكان كريم قد فرّ من شينغ يانغ دون عائلته قبل أربعة أعوام، ولم يتمكّن من الاتّصال بأقاربه منذ ذلك الحين، ممّا جعله يشعر بالقلق بشكلٍ مستمرٍ بشأن ما يحدث لهم.

اليوم، تستضيف ثلاثة أحياء في إسطنبول كثيرين من سكّان تركيا الإيغور، وهنا، تُعرض أعلام تركستان الشّرقيّة الزّرقاء (رمز الاستقلال المحظور في الصّين) علانيةً في خزانات المتاجر، ويمكن للمرء، أيضاً، العثور على النّودلز الأصليّة وخبز نان الطّازج، وتسوّق الملابس التّقليديّة، وقراءة الأدب الإيغوري في المكتبات.

وفي نهاية كلّ أسبوع، في هذا المجتمع المتنّوع، الذي يضمّ عدداً كبيراً من مهاجري آسيا الوسطى، نرى غالباً الرجال الإيغور المسنّين، ذوي اللّحى الطّويلة و"الدوبا" التّقليديّة (أغطية للرّأس)، وهم يشقّون طريقهم إلى مسجد أولو لأداء صلاة الجمعة، محرّكين مسبحة الصّلاة بين أصابعهم، وهؤلاء المحظوظون بما يكفي للوصول إلى تركيا يحاولون بشدّةٍ التّمسّك بالتّقاليد القديمة الّتي ضاعت في شينغ يانغ، حيث تمّ حظر هذه الممارسات والرّموز الثّقافيّة.

 

لقد تمّ اعتبار تركيا نصيرةً لحقوق الإيغور لمدّة سبعة عقود، لكنّ كثيرين في المجتمع بدؤوا يشعرون أنّ أيّامهم هنا قد باتت معدودة

وعلى نحوٍ متزايدٍ، منذ عام 2017، اتّخذت السّلطات الصّينيّة إجراءات صفيقة ضدّ الإيغور؛ فإضافة إلى حظر ثقافتهم، تمّ اعتبار أنشطتهم الدّينيّة "غير قانونيّة" تحت ستار مكافحة الإرهاب، وتمّ إرسال مجموعات منهم إلى معسكرات الاعتقال بعد محاكماتٍ صوريّةٍ لأنشطةٍ تعدّها الحكومة بشكلٍ فضفاضٍ "متطرّفة".

وفي رواياتٍ جديدةٍ من تحقيقٍ أجرته هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي"، في أوائل شباط (فبراير)، شارك محتجزون من الإيغور قصصهم عن المراقبة والاعتقال والتّلقين العقائديّ ونزع الصّفة الإنسانيّة والتّعقيم والتّعذيب والاغتصاب، ووصف العديد من النّشطاء ووسائل الإعلام والخبراء في شؤون الإيغور تصرّفات الصّين في شينغ يانغ؛ بأنّها جرائم ضدّ الإنسانيّة، و"إبادة ثقافيّة"، وقالت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة إنّها "منزعجة للغاية" بسبب تقارير "بي بي سي".

من كاشغر إلى إسطنبول

على طول أحد الشّوارع الرّئيسة في زيتين بورنو، التقيت فاطمة، وهي طالبة من كاشغر، إنجليزيّتها جيّدة، ووجدتها منفتحة للتّحدّث عندما دخلتُ متجر عائلتها، لقد فرّت هي ووالدتها من كاشغر، عام 2014.

وكما فعل كثيرون منذ عقود، فرّت عائلة فاطمة إلى تركيا، الّتي كانت خياراً جذّاباً لما تمثّله من ملاذٍ طويل الأمد لمنفيي الإيغور، وتدرس فاطمة الآن الّلغة الإنجليزيّة في جامعة محلّيّة، وتدير أمّها متجراً في قلب المنطقة، تبيع فيه الملابس الإيغوريّة التّقليديّة، وغيرها من البضائع لغيرها من الإيغور.

تقول: "في الوطن، من المستحيل العثور على هذه المستلزمات الآن، ومن الخطر حتّى امتلاكها في كاشغر، ندير هذا المتجر للحفاظ على تراثنا حيّاً، وهو  أيضاً مساحة للآخرين في مجتمعنا ليأتوا ويشعروا بالأمان وبأنّهم في وطنهم"، وبقدر ما تفتقد كاشغر، "مهد الثّقافة" الإيغوريّة، فهي تعلم أنّها لن تعود على الأرجح قطّ.

اقرأ أيضاً: بيان حول عمليات اغتصاب وتعذيب مسلمات الإيغور في الصين.. ماذا جاء فيه؟

لقد تمّ تدمير جزء كبير من مدينة كاشغر القديمة، في ما أَطلَق عليه مشروع الإيغور لحقوق الإنسان "حملة الصّين للقضاء على الجوانب الملموسة لثقافة الإيغور"، ويصف المشروع المدينةَ بأنّها على "الخطوط الأماميّة لحملة المراقبة الأشدّ عدوانيّةً والأعلى تقنيّةً في القرن الحادي والعشرين"، و"الهدف لمشروع إعادة إعمارٍ "تحديثيٍّ" واسعٍ وشاملٍ وضدّ التّاريخ"، والّذي تقول المجموعة إنّه يسعى إلى القضاء على أهميّة كاشغر الثّقافيّة والتّاريخيّة الهائلة.

تتّفق فاطمة مع تلك التّوصيفات لوطنها، لكنّها متوتّرة، أيضاً، ممّا يحدث أمامها في إسطنبول، ويشعر كثيرون في مجتمع الإيغور بشكلٍ متزايدٍ بأنّهم تحت التّهديد، ويقتربون من حالةٍ من الخوّف الفائق، بسبب أخبار عمليّات التّرحيل الّتي تحدث من حولهم.

تقول: إنّ "مستوى انعدام الثّقة داخل المجتمع يتزايد مع استمرار اعتقال أشخاص نعرفهم".

اقرأ أيضاً: مسلمو الإيغور... اضطهاد صيني ومتاجرة تركية

بالرّغم من هذا الوضع؛ فإنّ فاطمة واثقة من أنّها ستحصل قريباً على الجنسيّة التّركيّة، ممّا يمنحها شعوراً بالأمان والحرّيّة في التحدّث علانية.

وتضيف: "ما يحدث هنا له عواقب على من هم في الوطن أيضاً".

قد يكون هذا الشّعور بالأمان زائفاً؛ حيث تمّ تسليم أويغور حتّى من الحاملين لجوازات سفرٍ تركيّةٍ، وانتهى بهم الأمر في المعسكرات.

تشعر فاطمة بأنّها محظوظة؛ لأنّها تمكّنت من مغادرة البلاد مع والدتها، لكن والدها ما يزال هناك، والتّفاؤل النّادر الذي تنضح به في أجواءٍ متوتّرةٍ في كثيرٍ من الأحيان يرجع إلى أنّها تأمل ألّا تضطّر هي وعائلتها إلى الفرار من "الوطن" مجدّداً، وأن يُسمح لهم بالبقاء في تركيا، ووفق تقريرٍ نشرته صحيفة "فاينانشيال تايمز"؛ فقد ضغط المسؤولون الصينيّون على عشرات الإيغور في الخارج للعودة فوراً عن طريق احتجاز والديهم.

اقرأ أيضاً: هل تبيع تركيا الإيغور مقابل لقاح "كوفيد-19" الصيني؟

وقبل أسابيع قليلة، اختفى شخص تعرفه فاطمة كان يعمل في متجرٍ محلّي.

تقول: "هذا يحدث كلّ يوم، كلّ أسبوع، هنا، في زيتين بورنو وفاتح وسيفاكوي. لقد رحل والد أحدهم الآن".

المكتبات: حماية اللّغة الإيغوريّة

بالإضافة إلى مواصلة السّجن والتّعذيب، اتّخذت السّلطات في شينغ يانغ إجراءات سريعة لتدمير ثقافة الإيغور وهويّتهم: تدمير المواقع الدّينيّة، والقضاء على تعليم الّلغة الإيغوريّة في المدارس، وحظر الأدب الإيغوريّ، واستهدفت الاعتقالات الجماعيّة مفكّرين من كافّة الأطياف: أكاديميّون وكتّاب وموسيقيّون وشعراء.

أحد مبرّرات الصّين الرّئيسة للضّغط على تركيا والدّول الإسلاميّة الأخرى لإعادة الإيغور إلى أوطانهم؛ الادّعاء بأنّ الطلّاب الإيغور أصبحوا متطرّفين في الخارج

وفي مكتبة "تاكليماكان إيغور نسريات"، يقضي إرشات باهتيار، وهو من بلدةٍ صغيرةٍ بالقرب من الحدود الكازاخستانيّة، أيّامه في رقمنة مجلّدات أقدم من الكتب ألّفها مفكّرون مشهورون، لقد ترك بلدته عام 2017 للدّراسة في جامعة الأزهر في مصر؛ حيث درس العديد من الإيغور في الخارج، ثمّ انتقل إلى تركيا. وأخبرني باهتيار بأنّه لم يتّصل بأسرته منذ عامين.

ومن خلال الكتب، يشعر بالارتباط بوطنه ويجد ملاذاً، وباعتبارها واحدةً من ثلاث مكتبات للإيغور في المدينة، تُعدّ "تاكليماكان إيغور نسريات" أقدم دار نشر للإيغور في تركيا، وتضمّ أكثر من 3000 عنوان، وحيازة الكتب المباعة هنا يُعاقَب عليها بالسّجن لأعوام بتهمة "تقويض سلطة الدّولة" في الصّين.

اقرأ أيضاً: معاهدة صينية تركية تثير خوف الإيغور... هل يسلمهم أردوغان؟

في شينغ يانغ، في المكتبات التي تُديرها الدّولة، بدأ الحظر المفروض على لغة الإيغور قبل ثلاثة أعوام، وهذا يعني إزالة الأدب والكتب الدّينيّة والنّصوص التّاريخيّة من الرّفوف. واليوم، في كافّة أنحاء المقاطعة، يُقال إنّ المكتبات خالية من الكتب، إضافة إلى إغلاق المكتبات الخاصّة، ممّا يعني، على الأرجح، أنّ أصحابها قد احتُجزوا.

وأدّت حملة جعْل سكّان شينغ يانغ يستخدمون "اللغة الوطنيّة"، الماندرين، بشكلٍ حصريّ إلى إقصاء اللّغة الإيغوريّة بعيداً عن المدارس، في حين تمّت إزالة الكتابة الإيغوريّة من العديد من العلامات، وأعربت الأقلّيات في كافّة أنحاء الصّين عن مخاوفها من أنّ الأجيال القادمة لن تكون قادرة على القراءة أو الكتابة بلغاتها الأصليّة؛ حيث يتمّ القضاء على لغات الأقلّيات، ويتّفق باعة الكتب الإيغوريّة في إسطنبول على ذلك.

اتّخذت السّلطات في شينغ يانغ إجراءات سريعة لتدمير ثقافة الإيغور

تمّ طرح سياسة التّرويج الصّينيّة الأوسع للماندرين قبل عقدٍ من الزّمن، وكانت تهدف إلى "استيعاب" 55 مجموعة من الأقلّيات الصّينية، وإلى جانب شينغ يانغ، حيث كان الطّلاب يدرسون سابقاً الإيغوريّة والكازاخستانيّة، كانت هذه السّياسة قاسية بشكلٍ خاصٍّ في منغوليا الدّاخليّة والتّبت، ومؤخّراً في مقاطعة يانبيان الكوريّة ذاتيّة الحُكم.

اقرأ أيضاً: موتى الإيغور في الصين يخضعون لـ"قوائم انتظار" .. لماذا؟

هذا، وتمّ اتّهام ما يقرب من 12.000 مواطن صينيّ وسجنهم بتهمة "التّحريض على الانفصاليّة"؛ إنّه تكتيك شائع يتمّ استخدمه ضدّ أفراد الأقلّيّات العرقيّة الّذين يُغضبون الحكومة، لا سيما في شينغ يانغ والتّبت، وأيضاً في أعقاب الاحتجاجات الّتي وقعت في منغوليا الدّاخليّة، في آب (أغسطس) الماضي، هذا الاستهداف ليس جديداً: فقد استهدفت السّلطات المثقّفين الإيغور بعد احتلال جيش التّحرير الشّعبي لشينغ يانغ، عام 1949، وحتّى قبل ذلك، في أواخر الثّلاثينيات، عندما كان يحكم شينغ يانغ زعيم مدعوم من السّوفييت.

وحشيّة في الوطن

وفق مجلّة "الإيكونوميست"؛ تقدّر أحدث الأرقام أنّه تمّ إرسال واحد، على الأقلّ، من كلّ 10 من الإيغور إلى المعسكرات. وبعد التّدقيق الدّولي، في كانون الأوّل (ديسمبر) 2019، أعلن حاكم شينغ يانغ أنّ الجميع قد "تخرّجوا"، لكن التّقارير الّلاحقة تُناقض ادّعاءه، ومن تصريحات النّاجين إلى وكالة "أسوشييتد برس"؛ فإنّ "التّخرّج" يعني في الواقع نقل النّاس بالقوّة من "مراكز إعادة التّثقيف" إلى السّجون أو للعمل في المصانع بأجورٍ منخفضة، وذلك غالباً لصالح علاماتٍ تجاريّةٍ عالميّة.

اقرأ أيضاً: ما حقيقة خطة السلطات الصينية تعقيم إناث الإيغور؟

وفصّلت العديد من التّقارير الاستقصائيّة، مثل "تشاينا كيبلز"، وأكدت العديد من هذه الرّوايات، وسرد الإيغور العديد من أشكال التّعذيب: قصّ شعر النّساء وبيعه لأغراض زراعة الشّعر في الخارج، وأخذ الأعضاء، والعمل القسريّ في المصانع، والزّواج القسريّ، والاغتصاب الجماعيّ، والمراقبة، وتحديد النّسل، والإجهاض القسريّ، والتّعقيم، واختطاف الأطفال، والإجبار على تناول لحم الخنزير.

من جانبه، يجد الخبير في شؤون شينغ يانغ، أدريان زينز؛ أنّ السّلطات قد خطّطت، عام 2019، لإجبار ما لا يقلّ عن 80 في المئة من النّساء على الخضوع لعمليّاتٍ جراحيّةٍ أو زرع أجهزةٍ داخل الرّحم، أو التّعقيم، في أربع مناطق ريفيّة في جنوب شينغ يانغ، وانخفضت معدّلات المواليد لاحقاً بنسبة 60 في المئة، في ثلاثة أعوام، وفقاً لمجلة "الإيكونوميست"، نقلاً عن بياناتٍ رسميّة، في كاشغر وهوتان.

اقرأ أيضاً: مسرِّبة وثائق اضطهاد الإيغور تتحدث عن جرائم السلطات الصينية

وفي تغريدةٍ أوائل عام 2021، أشادت السّفارة الصّينية في الولايات المتّحدة علانيةً بمعاملة أقلّيّة الإيغور، مشيرةً إلى أنّ الصّين كانت في طور "القضاء على التّطرّف" و"تحرير" نساء الإيغور، "ممّا لا يجعلهنّ بعد الآن آلات لصنع الأطفال". ورغم حظر الصّين لموقع تويتر في الدّاخل، فإنّ المسؤولين يستخدمونه بانتظامٍ في الخارج لنشر البروباغندا، وفي أواخر كانون الثّاني (يناير)، أنكرت القنصليّة الصّينيّة في إسطنبول قصّةً لصحيفة "نيويورك تايمز"، وقدّمت روايتها للوضع.

قرار وشيك، علاقة متغيّرة

في تركيا، وفقاً لمحامين يمثّلون الإيغور؛ تمّ اتّهام المئات بـ "أنشطةٍ ضدّ الصّين" ونقلهم إلى مراكز التّرحيل في كافّة أنحاء البلاد بتهمٍ تتعلّق بالإرهاب، وتشمل أحدث الحالات المُبلغ عنها ثلاثة أشخاص اعتُقلوا في 18 كانون الثّاني (يناير)، وذكر راديو "إن بي آر"، العام الماضي؛ أنّ المئات قد تمّ إرسالهم إلى مراكز التّرحيل على مدار شهورٍ متتاليةٍ دون توضيح السّبب، ويشتبه المراقبون في أنّ ذلك يرجع إلى زيادة الضّغط الصّيني على الحكومة التركيّة.

كثيرون في إسطنبول ممزّقون بين الحنين الشّديد إلى الوطن والشّعور الفائق والدّائم بالخوف من التّرحيل، مع علمهم أنّه من المحتمل سجنهم في الصّين لمجرّد وجودهم في الخارج.

وزير الخارجيّة التركي، مولود جاويش أوغلو

 وفي تركيا، تستغرق تصاريح الإقامة، الّتي تزداد صعوبة، شهوراً للحصول عليها، ممّا يترك كثيرين دون وضعٍ قانونيّ في البلاد، أو تصريح عمل، وبقليل من الوسائل لإعالة أنفسهم.

لقد تمّ اعتبار تركيا نصيرةً لحقوق الإيغور لمدّة سبعة عقود، لكنّ كثيرين في المجتمع بدؤوا يشعرون أنّ أيّامهم هنا قد باتت معدودة. في السّابق، كانت "قضيّة الإيغور" نقطة خلافٍ في العلاقات التركيّة الصينيّة، لكن هذا يتغيّر الآن؛ ففي ضوء اتفاقيّة الإعادة إلى الوطن بين تركيا والصّين، يشعر الإيغور في إسطنبول بقلقٍ متزايدٍ بشأن وضعهم المستقبليّ في البلاد، في انتظار التّصديق على اتّفاقية تسليم المجرمين.

وانعقد البرلمان التركيّ مجدّداً، في 26 كانون الثّاني (يناير)، لكن ما يزال من غير الواضح متى ستتمّ مناقشة الموافقة على الاتّفاقية، ويمكن أن يكون ذلك في وقتٍ مبكّرٍ من هذا الشّهر.

 وكان وزير الخارجيّة، مولود جاويش أوغلو، قد قال إنّه "حتّى لو تمّت الموافقة عليه، فإنّ هذا لا يعني أنّ تركيا ستُسلّم الإيغور إلى الصّين.. إنّنا لا نستخدم الإيغور الأتراك سياسياً، إنّما ندافع عن حقوقهم الإنسانيّة".

وتواصل الحكومة التّركيّة إنكار أنّ الصّين تمارس ضغوطاً لإعادة الإيغور إلى الصّين.

اقرأ أيضاً: الصين تعزل أطفال الإيغور..

وفي كانون الأوّل (ديسمبر) من العام الماضي، قبل أيّامٍ قليلةٍ من شحن أوّل إمدادات لقاحات "كوفيد 19" إلى تركيا، أعلنت بكّين أنّها قد صادقت على اتّفاقيّة تسليم المجرمين، ثمّ ظهرت تقارير تفيد بأنّ شُحنات لقاح "كوفيد 19"، المتّفق عليها، إلى تركيا قد تأخّرت صراحةً للضّغط على الحكومة التّركية للتّصديق على الاتّفاقية.

وتُراهن تركيا بشدّة على 50 مليون جرعة من لقاح "سينوفاك"، الّذي طلبته من الصّين، لتحقيق استقرارٍ في الوضع الصحّي في البلاد، وأنكر جاويش أوغلو أيّة علاقة بين هذا وذلك، قائلاً: "لا علاقة بين اللقاحات وتركستان الشرقيّة، أو الإيغور الأتراك، على الإطلاق".

في أوائل الثّمانينيّات، انتقلت موجة ثانية من الإيغور إلى تركيا

يزعم المشرّعون المعارضون أنّ الحكومة التركيّة تسلّم الإيغور إلى الصّين، وأفادت وكالة "أسوشييتد برس"، في 5 شباط (فبراير)؛ بأنّ عشرات الملايين من الجرعات لم يتمّ تسليمها بعد، وفي غضون ذلك؛ أخبر محامون وكالة "أسوشييتد برس"؛ أنّه تمّ إرسال أكثر من 50 إيغوريّاً مؤخّراً إلى مراكز التّرحيل، ويخشى المحامون والمدافعون عن حقوق الإنسان من استخدام المعاهدة على نطاقٍ واسعٍ لتسليم الإيغور.

رسائل مختلطة وتغيّر في المدّ والجزر

بعد إنشاء جمهوريّة الصّين الشّعبية، سُرعان ما أصبحت تركيا المقرّ الفعليّ في المنفى للمهاجرين الإيغور، وكانت مناطق الطّبقة العاملة في زيتين بورنو وسفاكوي ملاذات آمنة تقليديّة لمنفيي الإيغور منذ عقود، ويعود تاريخها إلى الخمسينيّات. وفي عام 1952، منحت تركيا حق الّلجوء للأويغور الفارّين من الشّيوعيّين الصّينيّين. وفي عام 1955، أعلنت بكين شينجيانغ "منطقة حكمٍ ذاتيٍّ" لجمهورية الصّين الشّعبيّة.

وفي أوائل الثّمانينيّات، انتقلت موجة ثانية من الإيغور إلى تركيا في أعقاب الإصلاح الحكوميّ الصينيّ وسياسة الباب المفتوح، التي سمحت لهم بالتّعبير عن شكاويهم للجمهور الدوليّ، ولطالما عدّت الصّين قضيّة الإيغور شأناً داخليّاً، وقد جلب حديث الإيغور في الخارج انتباهاً غير مرغوب فيه، وفي التّسعينيّات، بدأت بكين في ممارسة المزيد من الضّغط على أنقرة.

كان الرّئيس رجب طيّب أردوغان، في السّابق، يعدّ من أشدّ المدافعين عن الإيغور خلال رئاسته بلدية إسطنبول في التّسعينيات، وفي تعليقاته، عندما كان رئيساً للوزراء، عام 2009، وصف تصرّفات الصّين بأنّها "إبادة جماعيّة"، وفي عام 2015، قال إنّه سُيبقي دائماً أبواب تركيا مفتوحة أمام اللاجئين الإيغور، لكن في زيارةٍ للصّين، عام 2019، قال أردوغان إنّه قد ناقش "قضيّة الإيغور" مع الرّئيس شي، مُتّخذاً نبرةً غير واضحة، ولم يصرّح بشيءٍ حول الآثار المترتّبة على معاهدة تسليم المجرمين.

لقد تعمّقت العلاقات الدبلوماسيّة والاقتصاديّة التركيّة إلى حدٍّ كبيرٍ مع الصّين منذ أن أقرضت الأخيرة البلادَ مليارات الدّولارات، ووُعدت بمزيدٍ من الأموال لتعزيز مشاريع البنية التحتيّة الضّخمة، ودعم الاحتياطات المالية المستنفدَة في البلاد، وسط أزمةٍ اقتصاديّةٍ تتفاقم باستمرارٍ بسبب "كوفيد 19"، ويعدّ هذا تحوّلاً كبيراً عمّا كان عليه الوضع قبل عامين فقط، عندما وصفت وزارة الخارجيّة التّركية معسكرات شينغ يانغ الصّينيّة؛ بأنّها "إحراج كبير للإنسانيّة"، ودعت الصّين إلى إغلاق كافّة المعسكرات.

وقال المتحدّث باسم حزب العدالة والتّنمية الحاكم، عمر جليك، في أيلول (سبتمبر) الماضي: "إنّنا ندعم حقّ الصّين في محاربة الإرهاب، ولا يمكن تقييم الممارسات التي يواجهها الإيغور الأتراك في هذا السّياق، ويجب التّمييز بشكلٍ جدّيٍّ بين الإرهابيّين والأبرياء".

أكثر عرضة للتّسليم

أحد مبرّرات الصّين الرّئيسة للضّغط على تركيا والدّول الإسلاميّة الأخرى لإعادة الإيغور إلى أوطانهم؛ الادّعاء بأنّ الطلّاب الإيغور أصبحوا متطرّفين في الخارج، وفي حين أنّ التّقارير الّتي تتحدّث عن مقاتلي الإيغور في صفوف الجماعات الجهاديّة في سوريا لم تساعد؛ فإنّ القصّة تعود إلى الأيّام الأولى لـ "الحرب العالميّة على الإرهاب"؛ فبعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وضعت الصّين شينغ يانغ هدفاً في الحرب العالميّة ضدّ الإرهاب، حتّى أنّ الولايات المتّحدة احتجزت عدداً من الإيغور في غونتنامو.

وتمّ اتّهام ما يقرب من 12.000 مواطن صينيّ وسجنهم بتهمة "التّحريض على الانفصاليّة"

في إسطنبول؛ يبيع عبد الله حكيم عزيز المكسّرات ومنتجات أخرى من وطنه في متجرٍ متواضع، وقد فرّ إلى تركيا، عام 2013، ويقول عزيز: "لقد مرّت خمسة أعوام من عدم اتّصالي بأيّ شخصٍ هناك (في شينغ يانغ)؛ إنّني أحمل الجنسيّة التّركيّة الآن ولذا أنا بأمان هنا"، وفي هذه الأيام، يكاد يكون من المستحيل على الإيغور الدّراسة أو العيش في الخارج بشكلٍ قانونيّ، ويحرَم معظمهم من الحصول على جواز سفرٍ من قِبل الحكومة الصينيّة، ويشعر الإيغور في تركيا بقلق متزايدٍ ويقول العديد من الإيغور في المدينة إنّهم قد تعرّضوا لمضايقات من قِبل الحكومة والقنصليّة الصّينيتين، محذّرين إيّاهم من التّحدّث، وقامت الحكومة الصّينية بإلغاء جوازات سفر بعض الإيغوريّين، وهي إستراتيجيّة تُستخدم لجعلهم أكثر عرضة للتّسليم.

وفي الأعوام الثّلاثة الماضية، أفادت تقارير بأنّ تركيا رحّلت الإيغور إلى الصّين عبر دولٍ أخرى، مثل طاجيكستان.

ماذا بعد؟

في 20 كانون الثّاني (يناير)، يوم تنصيب الرّئيس الأمريكيّ الجديد، جو بايدن، قابلتُ رمضان، وهو من كورلا، في متجره بمنطقة الفاتح في إسطنبول.

سألني متوتّراً: "هل بايدن صديق للصّين؟".

رمضان في تركيا منذ ثمانية أعوام، وما يزال والده ووالدته في أورومتشي، ولم يتحدّث إليهما على مدار الأعوام الأربعة الماضية.

وقال رمضان عن والديه: "ليس لديّ أدنى فكرة عمّا حدث لهما".

إنّ الخسائر العاطفيّة والنّفسيّة عميقة، وينتاب رمضان شعور كبير بالذّنب بعد أن ترك أفراد عائلته وراءه، بالإضافة إلى القلق بشأن ما يحدث في تركيا، يقول: "لقد أخذوا 15 شخصاً الليلة الماضية في سيفاكوي، إنّهم يفعلون ذلك شيئاً فشيئاً".

يمتلك رمضان جواز سفر تركيّ، لكنّه غير متأكّد ممّا سيحدث بعد ذلك، يقول: "المنطقة خطيرة، يوجد دائماً رجال غرباء في الحيّ، وفي بعض الأحيان، يكون هناك رجال شرطة أو أشخاص آخرون لا نعرفهم".

قامت بعض المطاعم بإزالة اللافتات الخاصّة بها، أو أغلقت محلّاتها ونقلتها إلى مكانٍ آخر، دون وضع أيّة علامةٍ تجاريّة، خوفاً من عثور السّلطات عليها.

يقول رمضان: "كثيرون لا توجد لديهم تصاريح إقامة مؤقّتة هنا، وهم خائفون".

وفي 11 شباط (فبراير)؛ ضغط بايدن على شي بشأن شينغ يانغ في مكالمته الأولى.

المطالبة بالحصول على إجابات

خلال الشّهرين الماضيين، خارج القنصليّة الصّينيّة في إسطنبول، وقف العشرات من الإيغور اليائسين للحصول على إجابات حاملين صوراً لأحبائهم الذين ما يزالون في عداد المفقودين في الوطن، وبعد أسابيع من الاحتجاجات، قالت القنصليّة الصينيّة؛ إنّها ستنظر في التماسات المحتجين، وهو ما أوقف المظاهرات لفترةٍ وجيزة، لكن، في 27 كانون الثّاني (يناير)، رفضت القنصلية الصّينيّة مجدّداً قبول الالتماسات التي قدّمتها عائلات ضحايا المعسكرات رسميّاً، وفي اليوم السّابق، في 26 كانون الثّاني (يناير)، عرض عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الدّعم بالوساطة، لكنّ تأثيره ضئيل على الوضع.

وأدلى أعضاء من أحزاب أخرى في المعارضة، مثل أوزغور أوزيل، بتصريحاتٍ مؤخّراً تطالب الحكومة التركيّة بتوضيح موقفها من هذه القضيّة.

وقد أخبرتني إحدى الأمّهات، وهي تحمل لافتةً تشير إلى اختفاء أفراد عائلتها: "لا نحمل سوء نية تجاه تركيا، لكنّ المساحة المتاحة لنا هنا تتقلّص".

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

نيكولاس مولر، "ذي دبلومات"، 13 شباط (فبراير) 2021



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية